رواية "عين التّيس".. ذاكرة المكان في مواجهة التّهميش

ثمّة وظائف عديدة تؤدّيها الرّواية غير الوظيفة الجمالية، أهمها إعادة إنتاج علاقة الإنسان بهويته وبالمكان الذي يعيش فيه، وقدرتها على رسم صورة المجتمعات ورصد التحوّلات التي تمر بها، كما أنها تشكّل ذاكرةً حيةً عن المكان تُوضع تحت تصرُّف من يسعى وراء معرفة تفاصيل الأماكن والمجتمعات؛ فمن يريد معرفة القاهرة سيقرأ روايات نجيب محفوظ، ومن يرغب بالتعرّف على الصحراء الليبية ومجتمع الطّوارق سيقرأ روايات إبراهيم الكوني...إلخ.



على المستوى المحلي الأردني، كان حضور هذه الوظائف ضعيفَ التمثيل في الرواية الأردنية؛ فالمكان فيها يحضر -غالباً- بصفته العامة دونما تخصيص، فهو "المدينة" و"القرية" و"مضارب القبيلة"، ولكن قلما حضرَ المكان الأردني باسمه وتفاصيله، فظلَّ محجوباً في الرواية. بيدَ أنّ هذا الحجب بدأت أستاره بالتمزّق وأخذت تفاصيل المكان الأردني بالتجلّي والظهور مع نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي، وترافق ذلك مع أحداث مفصلية في التاريخ العالمي والأردني؛ فعالمياً كان سقوط الاتحاد السوفييتي وظهور النظام العالمي الجديد وحرب الخليج، وأردنياً رافق ذلك هبّة نيسان والانفتاح الديمقراطي وإطلاق الحريات وإعادة الأحزاب. فظهرت روايات تؤرّخ للمكان الأردني وتعبِّر عن هويته وخصوصيته وتحوّلاته الاجتماعية.





فظهرت خلال أكثر من عقدين من الزمن روايات تحتفي بالمكان الأردني، مثل رواية "أبناء القلعة" لزياد قاسم، و"الشهبندر" لهاشم غرايبة، و"جمعة القفاري" لمؤنس الرزّاز، و"دفاتر الطوفان" و"شجرة الفهود" بجزئيها لسميحة خريس...إلخ. وعلى الرغم من احتفاء هذه الروايات بالمكان فإنّها غالباً -مع وجود بعض الاستثناءات- ما كانت تحتفي بالمدن المركزية وقلما احتفت الرواية الأردنية بالقرى والأطراف دون أن تُغفل الأسماء الحقيقية ودون أن تُعمم سمات المكان فيبدو مكاناً عائماً قد ينطبق على أي مكان آخر في العالم.



غير أنَّ هذا الوضع الروائي في الأردن بدأ يتغيّر مع نهاية العقد الأول من القرن الجديد وتزامناً مع أحداث مفصلية مثل ظهور مواقع السوشيال ميديا التي منحت الأطراف والهوامش منابرَ وجعلت كتّابها ومبدعيها على قدم المساواة مع كتّاب المراكز ومبدعيها، وأوصلت أصواتهم إلى أماكن كثيرة كاسرةً الحدودَ والحواجزَ. إضافةً إلى تزامنها مع أحداث الربيع العربي التي ترافقت مع قيم جديدة كان الإيمان بها محصوراً على مستوى النخبة مثل التعددية والمساواة والعدالة وتوزيع الفرص خارج إطار الأحلام الكبرى، فأصبحت مطالب شعبية. تكلّلَ ذلك بظهور روايات أردنية تحتفي بالمكان/ الهامش / القرية دون أن تعمّمه أو أن تفرّغه من خصوصيته، بل إنّ هذه الخصوصية هي المحور الرئيس الذي تدور حوله الرّواية.





ففي الشمال الأردني ظهرت ثلاث روايات تمثّل صوت المكان الأردني بعيداً عن المركز، وهي رواية "دموع فينيس" -2016م - لعلي طه النوباني التي تدور أحداثها في مدينة جرش في خط متواز بين زمنين (الروماني والحاضر)، ورواية "البحّار" -2017- لهاشم غرايبة ومركز أحداثها بلدة الرّمثا الحدودية، والثالثة رواية "عين التّيس" لسمير القضاة الصادرة مؤخراً والتي تتوزّع أحداثها بين قرى عجلون، وإن كانت تتنقل بين مدينتي إربد وعمّان أيضاً فإنها رواية عجلونية النكهة.



ما يجمع بين هذه الروايات أنَّها -إضافةً إلى طبيعة المكان التي تتحدّث عنه- ترصد التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي طرأت على حياة الفلّاح الأردني، وأنها تسلّط الضوء على ظاهرة صعود الإسلام السياسي وتقارن حياة المجتمع الريفي قبل هذا الصعود وبعده، موثّقةً أبرزَ التغيّرات التي طرأت على هذا المجتمع، ومبينةً أسبابَ هذا الصعود التي ترتبط بالإخوان المسلمين وعودة المغتربين من الخليج، كما أنّ هذه الروايات تتخذ موقفاً عدائياً من المركز يتفاوت ظهوره اعتماداً على قدرة الروائي على تمويه موقفه تمويهاً فنياً. وإن كنا ناقشنا روايتي "دموع فينيس" و"البحّار" في مقالين سابقين، نُشرا في موقع عربي 21، فإنّنا سنخصص هذا المقال لرواية "عين التّيس" للشّاعر والرّوائي سمير القضاة الصادرة عن الدار الأهلية في عمّان.





يُشكّل المكان ركناً رئيساً من أركان هذه الرواية، فهي تتنقّل بين عدّة أماكن من عبين إلى عين جنّة وسامتا وإربد وعمّان، كما سنقرأ فصولاً عدّة من الرواية تحمل عناوين أماكن مثل "عين جنّة" وجامعة اليرموك ومخيم البقعة  والجامعة الأردنية، وإذا قارنا عنوانَ الفصل الأوّل الذي حملَ اسمَ قرية "عِبِّين" بعنوان الفصل الأخير الذي حملَ اسمَ "الوطن"، سنجد أنفسنا أمامَ الرسالة الأولى التي تؤديها الرواية؛ فهي تنطلق من هموم المكان الأول الذي عرفه البطل "سامي" وتسير ببطء غير ممل مع تحوّلاته الفكرية باتجاه هموم المكان الأكبر / الوطن.



وهذا المكان يفرض هويته على الإنسان الذي يعيش داخله، والكاتب يشير إلى هذه العلاقة بين المكان والإنسان أثناء حديثه عن "عين التّيس" النبع الذي حملت الرواية اسمه؛ فهو سُمّي بعين التيس لأن الأسطورة الشعبية تقول إنّ تيساً فحلاً ضربَ الأرض بقرنه فانفجر هذا النبع. والتيس هو ذكر الماعز الجبلي الأسود وقائد القطيع ويتصف بالرشاقة والقوة والعناد والنزوع نحو الحرية وعدم الاعتماد على صاحبه في الحصول على الطعام واللجوء إلى ما تجود به الطبيعة من أغصان البلوط. ثم يقارن الكاتب هذا ذكر الماعز الجبلي وصفاته بصفات الإنسان العجلوني: "لستَ عجلونياً حقيقياً إذا لم ترتوِ من ماء هذا النبع، ولم تأكل بلوطاً يجعل رأسك قاسياً وطبعك عنيداً كما هي طبيعة هذه المنطقة الجبلية الوعرة. هكذا تقول الحكاية الشعبية".



من هذه الزّاوية يأخذ سمير القضاة برصد التحوّلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في جبل عجلون خاصةً والأردن عامةً؛ فيوضّح لنا طبيعة العلاقة الوديّة بين المسلمين والمسيحيين في عجلون، وكيف أدت حادثة قتل مطلعَ الثمانيات إلى إحداث شرخ في هذه العلاقة، ثم يتتبّع التحولات التي طرأت على المجتمع نتيجة صعود الإسلام السياسي، بعدَ أن كانت الحالة الصوفية هي السائدة.



يقابل هذه التحوّلات حنين مدروس إلى مجتمع القرية، فنرى الكاتب يرسم لنا معالم هذا المجتمع بدقة؛ فيصف لنا الحارات والغابات والملاعب والأعراس والخرب الأثرية من خلال تتبّع مسيرة مجموعة من الأولاد المراهقين ومغامراتهم. فعالم المراهقة عالم بسيط للناظر إليه من الخارج، لكنه عالم معقّد لمن يستكشف أسراره ويعرف خفاياه إذا نظرتَ إليه من منظار ولد مراهق، وسمير القضاة يقدّم لنا هذا العالم بكل تعقيداته من خلال تتبّع حياة بطل الرّواية "سامي" وهو يعبر من الطفولة باتجاه الرجولة، وأثناء هذا العبور يرسم لنا ملامح القرية العجلونية وحياة ناسها. فيرسم لنا شبكة علاقاتها في الأفراح والأحزان والسهرات والولائم...إلخ.

 





ويتناغم السّرد في الرواية مع طبيعة الحياة في القرية؛ فيسير السّرد ببطء كما هي الحياة وأحداثها في القرية، لكنه بطء غير ممل وقائم على التشويق وعلى استخدام لغة رشيقة وسلسة تأخذنا في أحداث الرواية لنكتشف كيف تتم لقاءات العشّاق المراهقين، ولنكتشف طبيعة حياة هؤلاء المراهقين القائمة على المشاكسة والتنمّر أحياناً وعلى الخوف والمحبّة في أحيان أخرى، كما حادثة حصول الفتى "سلطان" على لقب "أبي الحمارة" لنعرف الآلية التي يُمنح من خلالها الأولاد والناس ألقابهم التي سيحملونها طوال حياتهم في المجتمع القروي، أو في حادثة انفجار اللغم أو صيد العصفور التي تعطي صورة مغايرة تقوم على كشف الجوانب الإنسانية عند المراهق.



تُعد رواية "عين التّيس" نافذة نطل عبر سردها المتناغم على تاريخ الأردن منذ مطلع الثمانينات وحتى مطلع التسعينات، مع ارتدادات استذكارية للتاريخ والأحداث التي وقعت فيه، سواء أكانت من العهد البعيد مثل العهد الروماني أم القريب مثل العهد العثماني -كحادثة قتل التحصيلدار- أم الأقرب في عهد الدولة الأردنية مثل حرب الـ67 وأحداث أيلول. وهو يستعرض هذا التاريخ من خلال أحداثه ومحطاته المفصلية ومن خلال ردة فعل الأهالي على هذه الأحداث وأثرها فيهم، أي بوصفه تاريخاً شعبياً؛ فيبدأ من حادثة القتل التي راح ضحيتها مسيحي على يد مسلم إثر خلاف ذي طبيعة دينية، لتشكّل هذه الحادثة شرخاً في العلاقات بين المسلمين والمسيحيين بعد أن كانت العلاقات قائمة على الأخوّة والمحبّة. ويمر الكاتب على محطّات كثيرة مثل المصالحة الأردنية - الفلسطينية وأحداث جامعة اليرموك وهبّة نيسان...إلخ.



تشعبات كثيرة استطاع الكاتب أن يشذِّبها في سرده السّلس، غير أنّ التركيز على توثيق التاريخ من زاوية شعبية تطلّبَ كثرةً وتعدداً في الشخصيات التي تؤديه، وهو أمر أخلَّ ببناء الشخصيات في الرّواية، باستثناء شخصية البطل، فبدت شخصيات الرّواية مربكة وغير واضحة المعالم، فهي تعبّر عما يريده الكاتب وتختفي... فالقارئ يشعر بكثرة الشخصيات التي تصعد الواحدة منها مسرحَ الرواية لتأدية مقولة أو للمشاركة في مسيرة حدث ثم تختفي ولا نعلم مصيرها، وكأنها مجرد كومبارس في خدمة "سامي" بطل الرّواية. وكان بإمكان الكاتب أن يختزل عدد الشخصيات ويدمجها في عدد محدد يبني من خلاله عوالم هذه الشخصيات ويرسمها بوضوح أكثر ... فنحن -على سبيل المثال- لا نعرف مصيرَ أصدقاء سامي ولا مصير إخوته بعد أن نجح في الثانوية العامة ودخوله الجامعة الأردنية لدراسة الهندسة المدنية.





وإن كان الموقفُ العدائي من المركز أبرزَ ما يجمع بين الروايات التي تعبّر عن الأطراف والهوامش، فإنَّ هذا الموقف يتضّح في رواية "عين التّيس" من خلال ثلاثية (الحب والسياسة والقمع)؛ فالمدينة/ المركز لا تحضر في الرّواية إلا مقترنة بهذه الثلاثية، فبطل الرواية يذهب إلى المركز (إربد وعمّان) فيمارس العمل السياسي من خلال المشاركة بالاعتصامات والاحتجاجات فيتعرّض للقمع من قبل السلطة، سواء بشكل مباشر في عمّان أثناء هبّة نيسان أو من خلال تعرّض محبوبته "ليندا" للضرب إبّان أحداث جامعة اليرموك في منتصف الثمانينات.



وإن كان القمع اعتداء على حرية الإنسان السياسية فإنّه يشكّل عائقاً أمام الحب؛ فالاعتداء على حبيبة البطل في أحداث اليرموك وفصلها جعلها تختفي من حياة البطل، وكذلك نزعت منه السياسة محبوبته "نتالي" التي أُجبرت على الزّواج من ابن وزير. وهو قمع يواجهه الكاتب من خلال ثنائية الفحولة - الخنوثة، فحينما يدخل البطل الجامعةَ يحضر بوصفه فحلاً قادراً على إغواء جميع النساء ولا تقف فيه طريقه امرأة، وكأنه يواجه قمع المدينة عبر فرض فحولته على المكان... فلا تظهر شخصية أخرى من شخصيات الرواية قادرة على ممارسة الإغواء سوى شخصية البطل القادم من جبال عجلون.

أضف تعليقك