حين تكرّم هوليود الصراع الطبقي

ثلاثة من الأفلام الفائزة بجوائز الأوسكار لهذا العام تتناول قضية الصراع الطبقي أو القهر الاجتماعي.

 

يحدث هذا في هوليود عاصمة إحدى أكبر الصناعات الرأسمالية في أمريكا والعالم، صناعة السينما. وهي الصناعة التي طالما اضطهدت وأقصت كل الكتاب والمخرجين والممثلين الذين يحملون أفكاراً اشتراكية، بوصفهم أعداء لمبادئ الحرية والليبرالية التي قامت عليها هذه الصناعة. هذا التكريم يشبه أن يكرّم (سِلِكون فالي) المطابع الورقية وسعاة البريد وشرائط الكاسيت والفيديوتيب وآلات التصوير الفوتوغرافي.

 

لكنّ الأفلام الثلاثة، ( parasit) للمخرج الكوري الجنوبي (بونغ جون هو). وفيلم (once upon atime in hollywood) للمخرج الأمريكي (كوينتين تارانتينو).

 

وفيلم (joker) للمخرج الأمريكي (تود فيلبس)، لا تحمل رؤية ثورية تدعو إلى العدالة الاجتماعية كما نظّر لها المصلحون الاجتماعيون، أو دعت إليها الطبقات الفقيرة وتظاهرت وضحّت من أجلها، بل ترى أن الفقراء والهامشيين والضعفاء كسالى وفاشلون ومرضى نفسيين وكائنات طفيلية تقلق راحة الأثرياء، ولا تصورهم مجموعة متماسكة تملك وعياً طبقياً، أو حِسّاً جماعياً تنطلق منه للدفاع عن حقوقها، بل مجرد أفراد منعزلين في فيلم (joker)، أو قطيع بشري عائلي عاطل ومتطفل في فيلم ( parasit)، أو قطيع بشري كبير فاسد ومتطفل هو مجموعة ( الهيبيز) في فيلم (once upon atime in hollywood). 

 

ويتصارع هؤلاء الأفراد فيما بينهم، ويوظفون ذكاءهم لا لينافسوا الأثرياء منافسة عادلة، وإنما ليقتحموا بيوتهم، ويسرقوا فتات أموالهم، ويدمروا نجاحهم، ويهددوا حياتهم. 



لكن الأفلام الثلاثة صورت الصراع بين الطرفين بحرفية سينمائية عالية بعيداً عن نمطية الأفلام الدعائية المؤدلجة التي تصور الصراع صراعاً بين الخير والشر، أو الشياطين والملائكة.

 

فمن الجهة المقابلة تظهر طبقة الأثرياء في الأفلام الثلاثة أنانية متوحشة، تتصنع اللطف، وتتظاهر بالعطف والإنسانية والحرص على الصالح العام، لكنها تكشف عن وجهها الحقيقي البشع والكاره والعنيف في اللحظة التي تتعرض فيها مصالحها ومكتسباتها للتهديد. 



من علامات القوة في الصناعات الرأسمالية الكبرى، أنها تملك الذكاء لتقبّل النقد الذاتي وممارسته في المستوى الاجتماعي، وتجعل منه وسيلة للحصول على المزيد من القوة والانتشار والربح، بشرط أن يكون هذا النقد نابعاً من داخلها، ومستخدماً أدواتها ومفردات خطابها.

 

ففيلم ( once upon atime in hollywood) وفيلم (joker)، يوجّهان نقداً شديداً وساخراً لصناعة السينما والإعلام والترفيه في أمريكا، لكنه نقد تاريخي تطهّري، يوحي بأن الصناعة تعافت من أمراضها، وهذا يشبه أن تنشئ (سلكون فالي) متحفاً لأدوات الاتصال والتواصل القديمة، فقط لتضع الأمور في نصابها، وتتفاخر بعظمة إنجازاتها، وتغرس في وعي المليارات من البشر أن حياتهم تصير أفضل كلما ازداد اعتمادهم على منتجاتها.



في صناعة السينما الأمريكية وملحقاتها الإعلامية والدعائية، يُسمح لنا بالشعور بالشفقة نحو الفئات الفقيرة والهامشية بسبب بؤسها، ويُسمح لنا بالشعور بالإعجاب نحوها بسبب إرادتها القوية وكفاحها.

 

ولتحقق أوقع الأثر في نفوس المشاهدين، توظّف صناعة السينما الأمريكية سحرها الذي لا يقاوم، سحر الممثلين الموهوبين، مثل ( يواكين فونيكس) الممثل الذي جسد شخصية الجوكر، واستطاع أن ينقل للمشاهد أعمق الخلجات النفسية بوجهه الملطخ بالأصباغ في معظم مشاهد الفيلم، وضحكته الحيوانية الطافحة بالجوع والألم والوحشة كعواء ذئب، ولغة جسده المسلول المعبرة عن اختلاط مشاعر الضعة بالغرور والإنكسار بالتفوّق.

 

وأهّله هذا الدور للفوز بجائزة الممثل الرئيس. لقد قدمت شخصية الجوكر نموذجاً للبؤس الإنساني الناجم عن القهر الاجتماعي، لكن على نحو لا يُسمح لنا بفك رمزيتها الإنسانية المغلقة داخل مجال البطولة الفردية، وبرغم إعجابنا بها لا نملك أن نقلد جنوحها وجنونها وعنفها وذكاءها المنحرف، ومثل ذلك شخصيات العائلة المتطفلة في الفيلم الكوري الجنوبي التي يُعجب المشاهد بذكائها وسعة حيلتها وتضامنها، لكنه لا يملك الأحساس بقضيتها حين يراها تتضامن كتضامن قطيع من الضباع لتخطف طعام غيرها، وتترك بيتها الصغير يغرق في مياه الأمطار بينما يتخفّى أفرادها الأربعة تحت الأسرة المريحة والطاولات الفاخرة في بيت العائلة الثرية، وتدخل في صراع دموي ضدّ عائلة فقيرة أخرى تنافسها على التطفل على مائدة الأثرياء.



المعاناة الإنسانية و الصراعات الاجتماعية لعبة هوليود المفضلة، تفتتها إلى معاناة و صراعات فردية، وتحول المعاناة والبطولة الجماعية والانجازات المشتركة إلى فردية.

 

وحين تسلط الضوء عليها، فإنها تختار شخصاً واحداً لتربط تلك المعاناة أو ذلك الانجاز به، شخصاً غريب الأطوار لا نعرف ملامحه الحقيقية، ولا يمكن الوثوق به.    

أضف تعليقك