حرية اختيار العلامة وإعادة بناء المعنى

حرية اختيار العلامة وإعادة بناء المعنى
الرابط المختصر

لا تقتصر تحقيقات سكوت لاش الصوت الثالث في ثلاثية (التحديثية المنعكسة: السياسات، والتقاليد، والجماليات في النظام الاجتماعي الحديث) الصادر عن مطبعة جامعة ستانفورد الأمريكية عام 1994ــــ على السياسات أو على المجتمع كما فعل شريكاه في الكتاب اورليش بيك و أنتوني غيديز على التوالي, ولكنه ينظر إلى التحديثية المنعكسة بوصفها نظرية نقدية شاملة تتجاوز الحداثة وما بعد الحداثة. ويرى ـ في أجزائه من الكتاب(التحديثية المنعكسة وازدواجياتها: الهياكل، والجماليات، والمجتمع) و(أنظمة الخبراء أو تأويلات مموضعة؟ الثقافة والمؤسسات في الرأسمالية المشوشة) ـ أنها تمنح" فضاء ثالثا: سيناريو مختلف بنهايات أكثر انفتاحا". جدير بالذكر أن مصطلح التحديثية المنعكسة هو من تأثيثات مؤلفي الكتاب ويعني ان الحداثة لم تتلاشى بعد، ونحن لم نتجاوزها. فالتغيير الاجتماعي الراديكالي كان دائماً جزءاً من الحداثة. والجديد هو أن الحداثة قد بدأت في تحديث مرتكزاتها الخاصة. لقد نكصت على عقبيها وارتدت إلى جذورها التكوينية ومن هنا جاءت دلالة المفهوم: التحديثية المنعكسة (Reflexive Modernisation). والذي تناولته في المقال السابق.

 

يريد لاش للتحديثية المنعكسة أن تكون بمثابة نظرية نقدية بديلة. ولكنه يعترف أيضا أن منحها القدرة على العمل بهذه الطريقة يتطلب فحصا نقديا. إنه يريد لنا أن" نفهمها بمصطلحات الآخر غير الممفصل (unarticulated other)، وأن نقرأها (في سياق افتراضاتها غير المعلنة)".

 

يتطلع لاش إلى (الغيرية الجذرية الكامنة في التحديثية المنعكسة ) كما تظهر من خلال(1) استبدال الهياكل الاجتماعية التقليدية بهياكل المعلومات والاتصالات. (2) كما أنه يتجاوز في نظرته البعد المعرفي إلى الأبعاد الجمالية وتتضمن نظرته هذه ثقافة البوب والفن الذي عرف سابقا بالفن الرفيع، (3) فضلا عن أنه يتطلع إلى ما هو أبعد من عملية التفريد (أو الفردنة) الحداثية ليرى (الظواهر المتكررة للتجمعات المحلية) التي تدلل عليها التلاحمات الوطنية والأيدلوجية". ويقول لاش" أن كل واحدة من هذه التحركات الثلاث هي معول هدم خلاق لعملية التفريد التبسيطية المميزة للحداثة المبكرة، ويقول أيضاً أن إعادة البناء ستنتج هياكل وبُنى وجماليات وتجمعات محلية منعكسة جديدة".

يتناول لاش بعد ذلك كل ثيمة من هذه الثيمات بالتحليل مع إعطاء أمثلة منطلقاً من البُنى أو الهياكل المنعكسة الجديدة، حين يتساءل: استقلالية الفرد في اتخاذ القرارات أم تراتيب وهياكل تحد من استقلاليته؟ فإنه يظهر اهتمامه بالتراتيب والهياكل أو البُنى التي يعتبر أنها مركز التغيرات الاجتماعية التي حدثت بفعل التغير في الحياة الاقتصادية. ويقصد لاش التغيير الذي حدث من التراكم الاقتصادي الفوردي في هياكل التسلسل الهرمي المرتبط بالسلطة أو الحكم إلى النظام الاقتصادي الموسوم بـ(التخصيص المرن). وجد لاش في النظام المرن الجديد أن الهياكل المؤسساتية القديمة في الحداثة البسيطة قد وُهبت لـ" نسيج مفصلي من هياكل شبكات الاتصالات والمعلومات المحلية والعالمية". وبذلك لم تعد الفرصة الفردية مرتبطة بمكان الفرد في نظام الإنتاج القديم بل أنها تعتمد اليوم على موقع الفرد من هياكل وبُنى الاتصالات والمعلومات الجديدة.

 

يرى لاش أن الإنتاج المنعكس يرفع مستوى الطبقة العاملة ويضرب مثلا بهياكل التدريب التقني في ألمانيا واليابان ويصفها بالتقليدية المنعكسة (reflexive traditionalization) في العمل. فبتوظيف صيغ مختلفة تقوم الشركات والمجموعات التقنية بنقل المعرفة إلى العمال الصغار وبذلك فإنها تهمش أهمية الفرد وتعظم من أهمية التجمعات العاملة. ويرى لاش في هذا سمة هامة لمرحلة نظام ما بعد الفوردية التراكمي, بقطع النظر عن أن جذور هذا التوجه كانت في مراحل ما قبل الحداثة وفي الأشكال التقليدية الشعبية لتنظيم المعلومات.

 

وجد لاش أن هياكل المعلومات والاتصالات الجديدة قد حولت كلا من الطبقة الوسطى والطبقة الدنيا القديمة وأصبحت الطبقة الوسطى المتحولة الجديدة هي طبقة العاملين في هياكل المعلومات والاتصالات أما الطبقة العاملة المنعكسة فقد أصبحت تعمل من أجل/ومع هذه الهياكل. ويقول لاش" أن إعادة موضعة هاتين الطبقتين أدى إلى خلق طبقة ثالثة وهي الطبقة المستثناة من هياكل المعلومات والاتصالات الهياكل والتي أصبحت الطبقة الدنيا الجديدة. وبما أن الهياكل الاجتماعية المصاحبة للفوردية قد اختفت، فقد فقدت الطبقة الدنيا البنية الداعمة وأصبحت غير موظفة اقتصاديا. تتشكل الطبقة الدنيا الجديدة التي تفتقر إلى مكان في هياكل المعلومات والاتصالات من خلال (أ) النزول من الطبقة العاملة، و(ب) العمل غير الرسمي للمهاجرين، و(ج) استبعاد النساء.

 

وتحت عنوان (التحديثية المنعكسة : جمالية أم معرفية) يحدد لاش (اقتصادا كاملاً آخراً للعلامات في الفضاء):"سيميائيات الرموز المتسمة بالتقليد والتي مكنت بدورها من جمالية منعكسة مناقضة للمعرفية". هذه الرموز المتسمة بالتقليد هي(الملكية الفكرية المسلعة للصناعات الثقافية) ولكنها أيضا مداخل (لشعبوية النقد الجمالي) هذا النقد الذي يستهدف صميم مركب القوة / المعرفة الذي تكونه تلك الرموز بحد ذاتها. وهذه الجمالية المنعكسة هي" مبدأ أساسي للفردانية التعبيرية (expressive individualism) في الحياة اليومية للرأسمالية الاستهلاكية المعاصرة".

 

يقول لاش أن الفردانية التعبيرية في الحداثة الجديدة لا تعتمد على  المعرفية  المنعكسة ولكنها تعتمد على (وساطة التقليد والمحاكاة mimetic mediation). والتي هي بدورها منعكسة بطريقة مضاعفة من وجهة نظر لاش:" فهي منعكسة  (1) بوصفها رمز الملكية الفكرية المكثفة، (2) كما أنها منعكسة حين جرى تسليعها ثم (3) الإعلان عنها. إن كفايتها التقليدية أو المحاكية تنشأ من مشابهاتها للأصل وليس من اللغة". لقد استبدلت الهياكل الاجتماعية القومية أو المحلية بهياكل المعلومات والاتصالات العالمية وأصبح الفيضان المهيكل للمعلومات والاتصالات الذي صاحبه تراكم الصور الرموز التعبيرية (الفيديو, والعلامات التجارية, المولات التجارية, والعلامات التجارية والإعلانات وموسيقى الفيديو والأزياء) هي حالات الجمالية المنعكسة المعاصرة التي نراكمها في إطار محاولاتنا لتعريف الفردية والهوية الذاتية. إن الإنتاج السريع للعلامات بوساطة هياكل الاتصالات والمعلومات سيؤدي إلى أحد نتيجتين:

(1) الملل من الذات أو الأنوميا: عدم القدرة على ربط المعاني بالعلامات.

(2)  الجمالية المنعكسة: القدرة على توظيف هذه العلامات وخلق معان عن الذات والمجتمع وعليه فيمكن تعريف الجمالية المنعكسة بأنها (عملية فصل العلامات عن سياقاتها الأصلية (disembeddedness) ثم إيجاد عناصرها الجمالية ومن ثم إعادة خلق معناها الاجتماعي). وإذا كانت المعرفية  المنعكسة هي مراقبة الذات وأدوار الهياكل الاجتماعية والمصادر فإن الجمالية المنعكسة هي التأويل الذاتي وتأويل خلفية الممارسات الاجتماعية. إن ما يعنيه لاش  بالجمالية  المنعكسة هو أن فرط انتشار العلامات أدى بصورة منعكسة إلى حرية اختيار العلامة ثم إعادة بناء المعاني.

 

وفي هذا السياق نقتبس من لاش قوله عن محاكيات الصناعات الثقافية(the mimesis of (the culture industries:

"تبدو الثقافة الشعبية , مثل الهيروغليفية المصرية القديمة، تدلل أو تعبر عن مرادها ليس بطريقة تجريدية أي من خلال توظيف العلامات ولكن بطريقة مباشرة بوساطة التشابه الذي ينتج الانعكاسية. ومع ذلك بالنسبة لنا في الغرب الحديث، فإن الهيروغليفية أيضا تتخذ مستويات عويصة من التجريد. وكذلك الصناعات الثقافة، التي يمكن أن تتخذ الطابع المباشر والفوري للتجربة الثقافية الشعبية ثم تقوم بمسخها إلى التجريد النفعي البائس للسلعة".

 

يعتقد لاش أن التغير الجمالي في انتقاله نحو الحداثة قد ترك خلفه أمرا بالغ الأهمية في الحداثة البسيطة ألا وهو (الإنسان المتسامي transcendental subject). هذا الإنسان المتسامي في الحداثة العالية قد أصبح الآن وفي أحسن الأحوال (إنسان احتمالي فطن a probabilistic calculating subject). إن مجتمع ما بعد الحداثة هو مجتمع (المخاطر) حيث الإنسان الاحتمالي الفطن قادر على التعامل مع المخاطر حتى لا يعود بإمكانها أن تعرض للخطر واقعة الايجابي. إن الحياة في حالة طوارئ دائمة وتأكيد المتناقضات هي الطريقة الجديدة للتكيف والمواجهة.

 

يعتقد لاش أن التفكيكيين، ومن خلال تطبيق الجمالية المنعكسة، قد كرروا التشكيك بالمسلمات و(الأنا التنويرية) الأمر الذي عبر عنه أعلام الحداثة العالية: ماركس وفرويد. ولتجاوز هذا الموقف التشكيكي يقترح لاش العودة إلى التأويل الاسترجاعي (hermeneutics of retrieval) (حيث يتم استجلاء المعنى انطلاقا من المبنى) وهذا من شأنه وضع حد للانحدار المهووس للأسس وكشف أسس الوجود المشترك في هذا العالم. إنه يريد من ممارسي هذا التأويل الاسترجاعي الجديد" التخلي عن التشكيك الكلاسيكي الذي مارسته كل من الحداثة وما بعد الحداثة وان ينظروا إلى(ما تحت الدلالات المتغيرة) للوصول إلى المعاني المشتركة التي هي شروط الوجود، بل أنها في الواقع الوجود الخاص لـ 'نحن'.

 

ويمكن تحديد التأويل الاسترجاعي بأنه" السعي إلى تقصي المعنى منظورا إليه من خلال بنية أدبية مجازية. فمباشرة بعد أن تنتهي القراءة الذوقية يستشعر القارئ فراغ المعنى وخواءه، فإذا به يلتمسه من خلال قراءة ثانية تسترجع عودا على بدء النص في كليته، فينتظم الشكل كلا لا يتجزأ تتناسق ملامحه الأسلوبية المميزة. وعندما تصبح الملامح الأسلوبية، التي كانت ملغزة في تشتتها، ذات معنى في اجتماعها، متضافرة في تضامها فالمعنى لا ينشأ من الأشتات، إنما هو ينبع من الشكل الموحَد والموحِد. إن سائر العلامات الأسلوبية، سيان أن تتنزل على مستوى التركيب أو المعجم أو المجاز البلاغي أو الموسيقي، لا يجوز النظر إليها، من جهة حملها للمعنى، إلا على أنها منكبة على أداء معنى واحد".

 

يحاول لاش تعديل فكرة  المؤسساتية  المنعكسة التي قدمها كل من بيك وغيدنز على النحو التالي:

(1) أن المؤسسات قد أصبحت أكثر ثقافية وأنها تقحم نفسها في البناء الاجتماعي للحقيقة كما وتحتفي  المؤسساتية  المنعكسة بالطريقة التي, تعكس بها, وتناضل من أجل, وتبني، الأفق الدلالي الخاص, الذي ترتكز عليه. وهذا يعني أنها ترتكز على توزيع السلع الحداثي البسيط ولكن توزيع السلع اليوم يخلق أفقا دلاليا ينادي بالحذر والوقاية والمساندة.

(2) أن المؤسسات الثقافية الصارمة (التعليم والإعلام والعلم) قد أصبحت مركزية بشكل متزايد بالنسبة للحداثة المنعكسة . تنشر الجامعات الثقافة ما بعد الحداثية التي تعارض (الحداثة المهنية) في أوائل القرن العشرين.

(3) أن نسبة متزايدة من تفاعلاتنا الاجتماعية وتداخلاتنا التواصلية أصبحت تجري خارج المؤسسات الرسمية وأن الرأسمالية تعيش اليوم حالة من انعدام التنظيم وأن الأفراد الذي جرت فردنتهم راديكاليا أصبحوا يشكلون الآن شبكات محكمة من جماعات مبادرة المواطنين أو نشطاء القاعدة الشعبية المتقاربة والمترابطة أخلاقيا والتي لا تعتمد على البيئات التنظيمية للشركات الكبرى. ولا ينتمي الناس إلى هذه المجموعات على أساس المصطلحات المعرفية القائمة على أساس علاقة الشخص بالشيء /الطبيعة، ولكن على أساس مصطلحات تأويلية تستجوب الخلفيات الدلالية والتصنيفات البدائية (غير الفكرية) التي تحكم العلاقات وأساليب الحياة للمجموعات المتقاربة. تعني اتحديثية المنعكسة  الخروج من أشكال المعرفة القائمة على أساس الإنسان ـفي مقابل الشيء/الطبيعة التي جرى تطبيعنا اجتماعيا عليها. وتتكون الثقة في هذه الجماعات المتقاربة من(العوالم الدلالية وأخلاقيات الرعاية) والتي تصبح أكثر تجريدا وتعاقدية كلما تحرك الناس لأعلى السلم الهرمي نحو المؤسسات، حيث الأخلاقيات تعتمد على العقل لا على العواطف والوجدانيات.

 

ويلاحظ لاش أن هياكل المعلومات والاتصالات تدلل على تسارع عملية (المعلوماتية) في العالم المعاصر وتمتد هذه الهياكل خارجيا لتشمل الشركات وأنظمة الإنتاج بالكامل وداخليا لتشمل المعلومات والاتصالات المتدفقة بل والمهاجرين والسياح على مستوى عالمي يتزايد باطراد. ويرى لاش أن هذه الهياكل الثقافية هي مفاتيح فهم التحديثية المنعكسة والإنتاج المنعكس, والوعي أو الإدراك الجمالي/ التأويلي. وأن درجة الوصول إلى هذه الهياكل يمثل مفتاح فهم عدم المساواة الاجتماعية للطبقة أو العرق أو النوع الاجتماعي. ويضيف أن سياق هذه الهياكل الثقافية سيقود إلى زعزعة المؤسسات الرأسمالية. الرؤية الجوهرية هي أن التحديثية المنعكسة  تمثل تحولا تاريخيا في اتجاه طاقة المجتمع الرأسمالي الغربي التي كانت تتدفق إلى الإمام وإلى الخارج في مرحلة الحداثة العليا لتعيد تشكيل العالم الطبيعي وتجريد المجتمع من التقاليد ولكن هذه الطاقة اليوم سترتد إلى الخلف إلى العالم الحديث نفسه لتشكل مؤسسات إنسانية جديدة تعمل على تغير السياسات والمجتمع والأفراد وتدعو إلى طرق جذرية جديدة لإدارة عمليات التمدن وإعادة تعريف الذات. إن العالم الغربي اليوم يعيش مرحلة تدمير ذاتي وخلق نظام جديد هو بالتحديد ما أطلق عليه التحديثية المنعكسة  والتي هي نتاج إبداعي للتحديثية نفسها.

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.

أضف تعليقك