جورج هاغمان وعقل الفنان: هل بقي من إسطورة الفنان المتمرد غريب الأطوار المثير للدهشة شيء؟

جورج هاغمان وعقل الفنان: هل بقي من إسطورة الفنان المتمرد غريب الأطوار المثير للدهشة شيء؟
الرابط المختصر

 

صدر عن دار روتليدج للنشر في بريطانيا (2010)، كتاب للمحلل النفسي والباحث الاجتماعي الإكلينيكي جورج هاغمان بعنوان (عقل الفنان: وجهة نظر التحليل النفس في الإبداع، والفن، والفنانين الحداثيين).

 

يأتي هذا الكتاب بعد كتاب هاغمان الأول في الموضوع ذاته والذي يحمل عنوان (الخبرة الجمالية: الجمال، الإبداع، والبحث عن المثالي) والصادر عام 2005 عن منشورات رودوبي.

 

يستعرض هاغمان في الكتاب نموذجًا جديدًا لمقاربة الخبرة الجمالية من منظور التحليل النفسي النظري، والإكلينيكي، والبحثي المعاصر.

 

وتشتمل هذه المقاربة على التطورات الحديثة في فكر التحليل النفسي، وعلم النفس الذاتي، وخاصة السياق العلائقي للتجربة الجمالية، ودور صلات القرابة، والتذاوتية intersubjectivity في الخبرة الجمالية.

 

يتحدث هاغمان عن مصادر التذاوتية في الخبرة الجمالية فيقول "لقد درس التحليل النفسي الفن، والخبرة الجمالية، وديناميكيات العملية الإبداعية، على مدى أجيال. وقد نُظر إلى الفنون والإبداعات في البداية بوصفها إعلاءات أو تساميات، بمعنى أنها ميكانزمات دفاع ضد الرغبات الجنسية المحرمة، ومن هنا فقد كان نهج فرويد (1918،1920،1925) في دراسة الفن تفسيريًا من حيث كونه يكشف النقاب عن الأشكال الرمزية للتعبير الفني، ويفضح الخيالات والرغبات الخفية، ولقد كانت نظرة علم النفس هذه إلى الفن والإبداع، بوصفه نوعا من الحلم أو العملية الدفاعية، مركز التحليل لنفسي الكلاسيكي للجماليات. ولكن، وفي وقت لاحق، نظر المحللون إلى الفن نظرة أكثر تقدمية مع فكرة الأنا التي تسخر موارد اللاوعي لأغراض التعبير عن الذات (كرس،1952).

 

لقد واصل المنظور النفسي للأنا تأكيد الرمزية، ولكنه أخذ في التراجع حين أصبح في خدمة الأنا وليس العكس. وفي نهاية المطاف رفع محللون من أمثال روز (1980) واوريملاند (1997) الإبداع إلى درجة المأثرة المتنامية البالغة التعقيد الناتجة في أعلى مستوى من الخبرة الإنسانية. وتماشيًا مع منظور التحليل الكلاسيكي للعقل بوصفه نظام ذاتي التنظيم، فإن معظم المحللين قد قاربوا سيكولوجيا الفن والفنان من منظور نفسي- داخلي intrapsychic، لا علاقة له بالناس الآخرين(الجمهور مثلا) إلا هامشيًا. وفي الحقيقة فإن هذه النظرة تتماشى مع الأسطورة الثقافية التي تسبغ على الفنان رداء الدهشة، وغرابة الأطوار، والتمرد، والعزلة، والحس الانتقادي. ولكن بعض المفكرين المعاصرين (هاغمان نفسه، وروتنبيرغ، وديساناياكي) أصبحوا يميلون إلى القول بأن الفنان كائن اجتماعي أكثر بكثير مما كان يُعتقد. ويرى هاغمان أن القيود الرئيسية التي تحد من فاعلية المنهج التحليلي هي تركيزه على الديناميكية النفسية الداخلية لعقل الفنان، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الثورة المعاصرة في فكر التحليل النفسي، التي باتت تنظر إلى سيكولوجيا البشر من منظور العلائقية والتذاوتية أكثر من أي وقت مضى، وإذا ما تذكرنا أن فرويد كان ينظر إلى الفن بوصفه تشكيل وسطي بين الأجزاء المعرفية من الجهاز العقلي. وتبعًا لذلك فإن قضية العلاقات والمصادر التنموية للفن لم تكن ذات أهمية بالنسبة له. كان فرويد ينظر إلى الفن بوصفه أحد آليات التسامي. وكانت هذه النقطة بالذات هي قلب الظاهرة النفسية الداخلية على الرغم من كل المغريات والمحفزات الثقافية.

 

وتحت عنوان الجمال، القبح، والتسامي، يذكرنا هاغمان بكتابه السابق (الخبرة الجمالية: الجمال، الإبداع، والبحث عن المثالي, 2005) والذي حدّد فيه الجمال بوصفه المظهر الشكلي لخبرة المثلنة idealization. ويضيف بأن عالم نفس الذات، كليجرمان يدَّعي بأن الفنان يمثلن الجمال، وأن الفنان معني إلى حد كبير بعرض الجمال الذي هو في الأصل جماله الخاص أو, في أحسن الأحوال، جمال الذات الموضوعية الأُمومية المثالية. وبذلك فإن خبرة الكمال هي جوهر الإحساس بالجمال. والجمال إذن هو الخاصية الثابتة لأي شيء أُختبر بوصفه مثالي، ونحن جميعا نثمن وننشد الجمال بوصفه فرصة لخبرة الذات الموضوعية. وعندما نكون بحضرة الجمال فإننا نكون مفعمين بالبهجة والحيوية، ونشعر بالسعادة والكمال.

 

الجمال -ينقل هاغمان من كتاباته السابقة- هو عنصر خاص في التجربة الجمالية يخلق استثمار الواقع فيها مع الذاتية، خبرة مثالية عن ذلك الواقع ومتناغمة مع حياتنا الداخلية على حد سواء.

 

ويؤكد هاغمان توجهه هذا باقتباسات عن فيلسوف الجمال الإسباني الأمريكي جورج سانتيانا الذي يرى أنه ينقل خبرة مماثلة حين يقول "إن الإحساس بالجمال هو التناغم بين طبيعتنا وخبرتنا. وعندما تعثر مشاعرنا وخيالاتنا على ما تتوق إليه، فإن العالم يشكل ذاته، ويقولب العقل نفسه على هذا النحو من التناغم والجمال. وحينها يكون التطابق بينهما كاملا, وتنتشي الحواس بالبهجة، ولا يحتاج الوجود إلى الاعتذار".

 

لا يمكن حصر الفن، يقول هاغمان، في الجمال. بل إن الحقيقة هي أن الفن ليس عن الخبرة الجمالية في المقام الأول. وبدلا من ذلك فإن الفنان يستثير الخبرات الجمالية، مثل الجمال، في أثناء سعيه نحو كمال أشكال التعبير في العمل الفني. في واقع الأمر فإن القبح، وليس الجمال، قد يكون نتاج العديد من الأعمال الفنية، سيما أعمال الفنانين الحداثيين الذين فككوا وحولوا، بصورة منهجية، المعايير الثقافية المقبولة عن القيم الجمالية، والتطبيقات الفنية، ونتاجات الفن. بل لقد وجد العديد من الفنانين الحداثيين -ينقل هاغمان عن توري هيجنز، 2002 - في القبح عالم من البدائل والمغايرات التي سمحت بالتعبير عن جوانب بالغة الخصوصية، بل ومحرمة أحيانًا، من الخبرة الذاتية والعلائقية. لقد كان القبح وسيلة التحدي المباشر لكثير من القيود التي شعر الفنان أنها تعرقل تطور الفن وتعيق تحديد مفهوم جديد للفنان.

 

هناك جدلية داخل عقل الفنان بين قرب حدوث الخبرة الجمالية والقلق. وفي حين أن الخبرة الجمالية تنطوي على مشاعر الانسجام والتوازن، فإن القلق هو نتاج خبرة فشل الملائمة والتناغم malattunement. ولأن العمل الفني ونظم المعنى لدى الفرد تكون منفصلة عن بعضها البعض، فإن الفنان يمتلك خيارين اثنين :إما (1) التكيف مع الخبرة الجمالية الجديدة من خلال تغيير وتوسيع نظم المعاني الخاصة به، أو(2) الرفض/ أو الانسحاب التي يتم بموجبه طرد العمل الفني من حياة المرء من خلال تشويه سمعته أو استبعاده. ومع ضربات الفرشاة الأولى المترددة -يصف هاغمان هنا العلاقة بين الجماليات والقلق- يُقدر الفنان الشكل، والملمس، والعلاقات، والكثافات النسبية، والتناغم، ويشعر في أعماقه بإثارة الخبرة الجمالية ممزوجة بالقلق.

 

وفيما هو يعمل فإن التوتر بين الخبرة والجمالية والقلق يكون شكلًا من أشكال الشارة أو النبض الوجداني, يرشده نحو مزيد من الصقل والتوازن والكمال. بل أنه قد ينشد زيادة القلق في تعبير غير معروف، أو غير مؤكد، أو ترتيب شكلي جديد. ولكن القلق قد يتحول فجأة إلى فرح وانبساط حين يتم اكتشاف شكل جمالي جديد. ويتعزز تقدير الفن عندما يندمج المرء في العمل الفني أثناء حضوره، على سبيل المثال، موقفًا نقديًا. فضلًا عن شعوره بصدى العمل ومجاورته.

 

ويستتبع لقاء متلقي الفن بالعمل الفني معرفة ضمنية ما قبل واعية وإجرائية، تؤثر فيها جوانب العمل الشكلية، والداخلية، والتمثيلية, التي تمركز ذاتية المبدع على المتلقي، كاشفة بصراحة عن استجابة متعددة المستويات. وأثناء مواجهة العمل الفني تنشط خبرات الذات والخبرات المهجورة وغيرها. وفي أفضل الحالات فإن خبرة اللقاء هذه تكون وجدانية مكثفةومتحركة بعمق: بمعنى أنها خبرة كاملة. وبلغة العلاقات الأولى فإن الإشباع الجيد يصبح إشباعا مثاليًا يقود إلى استمثال أو مثلنة كل شيء ويجعله تامًا رائعًا من جديد.

 

ربما بدأت تتضح معالم صورة هاغمان عن عقل الفنان ومتلقي الفن الذي يتمتع بحس جمالي لا يقل إبداعًا وتميزًا عن الفنان، وعند هذه النقطة يرى هاغمان أنه من الضروري الحديث بالتفصيل عن التشاركية في الفن. وتحت عنوان (الابتهاج ) ينقل هاغمان عن غادامر، 1986 قولًا يعزز منظوره عن دور التشاركيةوالعلائقية في الجماليات الفنية. يقول غادامر: "عندما نسأل أنفسنا عن طبيعة الفن الحقيقية، فإن الجواب لا بد أن يتناول خبرة التشارك التي يصعب تعريفها بمصطلحات محددة. نحن نحتفل ببهجة أكبر عندما تكون هناك جموعًا مشاركة, ويتضح ذلك بصورة أكبر في خبرة الفن. والأمر ليس مقتصرًا على أننا نتواجد في مكان واحد، ولكنه الانتباه والقصدية التي توحدنا وتمنعنا، بوصفنا أفرادًا، من السقوط في حوارات خاصة وخبرات ذاتية.

يشرح هاغمان رأي غادامر ويقول أنه لا يقصد بالابتهاج أو الاحتفال أية نشاطات خاصة ولكنه يعني الاندماج الإنساني المتواصل في الحوار المفتوح عن الفن والخبرة الجمالية. الابتهاج إذًا هو الضجيج والصخب الديناميكي الذي يميز الإبداع ومناقشة الإبداع عبر التاريخ وبين المجتمعات.

 

ويحدث فعل الإبداع الفردي أثناء احتشاد المعاني والحوارات، ولكنه أيضا يرتقي في السياقات التاريخية الحيوية للفن في المجتمع. ومع ذلك، فإن غادامر لا يبدو متيقنًا من الغرض النهائي للابتهاج الاحتفالي الفني. وعند هذه النقطة تحديدًا يقول هاغمان: لقد ناقشت في هذا الكتاب فكرة أن الخبرة الجمالية ترتبط أساسًا بالعلاقة القديمة بين الرضيع والأبوين، وعليه فإنني أقول بأن المؤسسة الجماعية المعروفة باسم الفن ترتبط هي الأخرى بالطريقة التي يحاول بها المجتمع ككل وضع الخبرة الجمالية (وبالتالي رابطة الذات الموضوعية القديمة) في المشهد الاجتماعي، مهيكلًا ـ تبعًا لذلك ـ ومثمنًا أكثر العلاقات حميمية، فضلا عن العلاقات والمؤسسات الإنسانية العامة والجماهيرية. ويعود بنا هاغمان إلى إلين ديساناياكي و كتابها(الفن والحميمية،2000)، حيث تزعم أن هناك رابطًا أساسيًا بين المصادر العتيقة للفن والنشاطات الثقافية الأكبر في مجتمع ما. تكتب ديساناياكي "أن الفن لا يتطور بوصفه حيلًا لمسابقات الذكور. . . ولكن بوصفه مطابقات جسدية للاهتمامات النفسية. بحيث تصبح حساسيات الرضيع المشروطة - المتناغمة rhythmic-modal sensitivities والتائقة للتبادلية ـ عبر الجهود الثقافية ـ وسائل تكييف للاهتمامات المتيقظة، وللنشاطات الجاذبة للانتباه على نحو آسر، وللحركات الإيقاعية التي تتوافق فيها الروح مع الجسد، والتي تبث بمجملها رسائل عهود لا تنسى، تعزز الحق والعدل والسلوك القويم. وبينما تتطور الحساسيات المشروطة –المتناغمة والطاقات من أجل تمكين الميول العاطفية التي تندمج بواسطتها الأم والطفل على نحو تشاركي وتبادلي، فإنه من الممكن ـ

 

وبالآلية ذاتها أن يساهم تطوير تلك الحساسيات والطاقات بحيث تصبح مركبات للتنسيق والانسجام الاجتماعي وغارسات للانتماء والمعنى والتنافس: تلك المشاعر التي تترجم المعنويات النفسية العالية.

 

الفن ـ يلخص هاغمان ـ هو أحد الوسائل التي توسع بها المجتمعات البشرية تلك العمليات التذاوتية القديمة عن الخبرات المشتركة المتعلقة بالذات، والعلاقات، والمجتمع والعالم. والفن هو النشاطات التي تعكس وتجسد تلك الجماليات القديمة. إن إبداع الفن والتمتع به هي تلك الحالات التي نمارس فيها خبرات التناغم، والاندماج الحيوي، والتنظيم المشترك. وبهذا المعنى فإن الفن محافظ، مقاوم للتغير، ومتحول. إنه يحمل ويحفظ الذاتية الجماعية في مواجهة الفناء والتغير، ويمنح فرصًا لخبرات جديدة ومجالات للتنمية الاجتماعية. إن المعايير الجمالية هي التشكيلات الرسمية التي تؤسسها مجموعة ما بوصفها التجسيد المثالي المرتقب للتناغم الما وراء ذاتي والتنظيم المتبادل.

 

أما استنتاج هاغمان الأخير فقد جاء على النحو التالي:

إننا، ومن خلال التجربة الجمالية، نرتبط نفسيا بالكمال الشكلي للعمل، أو الذات، أو الخبرة، في حين أن الواقع يُستحضر بوصفه صورة ذهنية، ويُواجه بشكل مثالي: جميل ورهيب في آن واحد. أما خيالاتنا المشبعة بالخوف فإنه يعاد مصالحتها مع الحقيقة البائسة, بحيث يندمجان معا ضمن الصورة المثالية. وتنضم شظايا حياتنا الداخلية إلى خبرتنا الذاتية مترابطة ومتناسقة بفضل الخبرة الجمالية. أما أهوال الفانتازيا اللاواعية، والرغبة فإنها تُقدم وتُبرز للوعي لتدخل بعد ذلك في الحياة المجتمعية. نحن حشد من البشر الضعفاء. وعندما ندخل معا كنيسة سيستاين، نصبح مثل الآلهة. ونجد أن أقوى أوهام ثقافتنا وأشدها رعبًا قد عُبِّر عنه بتوظيف أشكال من الطبيعة المثالية، لدرجة نعتقد معها أننا قد تسامينا على هشاشة إنسانيتنا لحظة واحدة على الأقل، عندما نكون معًا.

 

باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

 

1-  أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2-  الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014.

3-  نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4-  فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.

أضف تعليقك