ترشيحات جائزة الأوسكار.. السينما الأمريكية تحتفي بكتّابها

ثمة إجماع على أن صناعة السينما الأمريكية اختارت الانفتاح على التنوع العرقي والجنسي والثقافي في ترشيحاتها لجوائز الأوسكار هذا العام.

 

ففي هوليوود عاصمة الفن السابع، والمنحازة دائما للحريات الليبرالية، كانت الانتقادات شديدة لترشيحات الدورة السابقة للأوسكار، لاقتصارها شبه المطلق على اللون الأبيض في اختيار الممثلات والممثلين، والذكور من المخرجين المكرّسين الفائزين بجوائزها. 



وفي ترشيحات هذا العام مخرج فرنسي الجنسية، ومخرجة بريطانية شابة، ومخرج أمريكي أسود البشرة، ومخرج يتحدّر من عائلة كورية مهاجرة، ومخرجة صينية المولد. وأغلبهم ينتمون إلى الجيل الجديد من المخرجين السينمائيين، وأصحاب تجارب ناشئة في صناعة الأفلام. 



إلا أن الشكل الفسيفسائي لترشيحات الأوسكار لهذا العام يتجمّع في إطار واحد، يمثّل قاسماً مشتركاً بين المخرجين، على تنوّع أعراقهم وأجناسهم، هو أنهم كتّاب انتقلوا من المسرح والقصة السينمائية والسيناريو ليقفوا خلف الكاميرا. 



الفرنسي "فلوريان زيللر" مخرج فيلم "الأب" هو كاتب مسرحي أصلا، ويوصف بأنه أحد أهم كتاب المسرح في القرن الحادي والعشرين. ويخوض مغامرته الإخراجية الأولى بتحويل مسرحيته إلى فيلم شديد الحساسية في التقاط المشاعر المعقدة للشخصيات، وعميق من ناحية المنطوق الحواري المعبر عن التناقضات والصراعات.

 

وأطلق بفضل نصه العالي من الناحية الدرامية طاقات الممثل القدير "أنتوني هوبكنز" في تجسيد شخصية الأب المريض المتقلب المزاج. 



القصة النابعة من تجربة ذاتية، قادت المخرج الأمريكي من أصل كوري "لي إيزاك تشانغ" إلى قائمة الترشيحات في فيلمه الثالث "مايناري"، وفيه يروي فصلا من طفولته ابناً لعائلة كورية صغيرة مهاجرة، تسعى للتوطن في مدينة آركنساس. 



ويواجه الأب عقبات في تسويق منتجات مزرعته، ناجمة عن سوء الحظ وسوء الفهم للحساسيات الثقافية الكبيرة بين مجتمعه الأصلي والمجتمع المضيف، ولكن إصراره الكبير على التوطن يدفعه إلى حشد خبراته الثقافية الشرق آسيوية، في التعامل مع الأرض ومصادر الطبيعة، بوصفها كائناً حياً يُخاطب ويُحاور من خلال طقوس إحيائية لاستدرار عطف الطبيعة وكرمها.



الأساليب التقليدية الآسيوية التي يتّبعها المهاجر الكوري في التعامل مع الطبيعة، تبدو في عين جاره الأمريكي المتدين أساليب غير تقليدية، وهو المتعوّد على النظر إلى الطبيعة بوصفها عدداً من عناصر الإنتاج المادية الفقيرة المتفرقة، ماءً وتراباً ونباتاً، ويدهشه أن يرى قدرة المهاجر الكوري على استكناه روح الأرض واستنهاض طاقاتها. 



الكاتبان المخرجان "شاكا كنغ" و"آرون سوركين" يستلهمان قصتي فلميهما من حدث تاريخي واحد، هو الحراك الشعبي الحقوقي المدني المتفجّر في أمريكا عام 1968.



ويتناول "كنغ" في فيلمه "يهوذا والمسيح الأسود" الأحداث من زاوية الحراك المناضل من أجل الحقوق المدنية للأمريكين السود، بينما يتناولها "سوركين" في فيلمه "محاكمة الشيكاغوفيين السبعة" من زاوية الحراك المدني المناهض للحرب الأمريكية على فيتنام.



ويتقاطع الفيلمان في أكثر من نقطة إلى جانب الاشتراك في اللحظة الزمنية المتوترة والحاسمة في التاريخ الأمريكي. فكلاهما يبني سيناريو فيلمه على التصوير الوثائقي التوثيقي للأحداث، بأمانة ودقة شديدتين، بحيث بدا التطابق مدهشاً بين الحدث التاريخي من جهة، والسيناريو من جهة ثانية، والإخراج السينمائي من جهة ثالثة. 



ولا شكّ أن خبرة المخرجين في كتابة السيناريو، وتذويب المسافة بين الكتابة والإخراج، قد ساعدهما في بعث الأحداث من بطن التاريخ، وبثّ الروح في الزمان والمكان اللذين كانا مسرحاً لها. وأحيَيَا الأشخاص الحقيقيين الفاعلين فيها، ومنهم أعضاء منظمة الفهود السود الاشتراكية الثورية، ومنهم الحراكيين السبعة الذين قادوا المظاهرات السلميّة العاصفة ضد إدارة الرئيس ليندون جونسون الضالعة في الحرب على فيتنام.



ويشترك الفيلمان في استرجاع أجواء القمع السياسي ضد حركات الاحتجاج الجذرية، ويصوران أشكال التحايل على العدالة القضائية بإقامة محاكمة صورية لقادة المظاهرات في شيكاغو. ويصوران لجوء جهاز "الإف بي آي" إلى أسلوب التصفية الجسدية لقادة منظمة الفهود السود بحجة تهديد الأمن القومي في زمن الحرب الباردة. 



وتخوض المخرجة وكاتبة القصة السينمائية الشابة "إميرالد فينيل" تجربتها السينمائية الأولى بفلمها المرشح للأوسكار بعنوان "شابة واعدة". وتعتمد على حبكة قوية، وأداء فريد من الممثلة البريطانية "كاري موليغان"، لتقدم قصة غضب وانتقام خالية من العنف إلا في نهايتها المأساوية. ومملوءة بالحزن الشاعري في مواجهة عالم لا ينجح فيه إلا المراؤون المزيفون.  



وغضب بطلة الفيلم يأخذ طابعاً بارداً مختمراً، وكأنه خارج من ثلاجة للعواطف، ولكنه مؤلم وشفاف وعميق لأنه ناجم عن جريمة انتهاك واغتصاب وإذلال ذكوري سادي، تعرضت لها صديقة البطلة، وانتحرت جرّاءها. 



وفي سعيها للانتقام لصديقتها تلجأ البطلة إلى أساليب إبداعية واسعة الخيال، لتذكّر المغتصب، والمشتركين معه في الحادثة بالتواطؤ والتستّر، ببشاعة جريمتهم، وقبح نفوسهم. وتدفع حياتها وفاءً لصديقتها، وثمناً لفضح المجرمين. 



رسمت المخرجة وكاتبة السيناريو الصينية المولد "كلوي زاو" شخصيات فيلهما "نومادلاند" بعناية كي لا تعلق في ذهن المُشاهد. وباستثناء الشخصية التي جسدتها الممثلة "فرانسيس ماكدورماند" بطلة الفيلم، الحاملة في جعبتها جائزتي أوسكار سابقتين، ستختلط في ذاكرة المشاهد ملامح الشخصيات المساندة، نساء ورجالاً. ولكنّ الحالة الإنسانية التي تعبر عنها الشخصيات ستظل عالقة في الذهن.



تأثير الفيلم ينبع من القصة الجماعية التي تحكيها الشخصيات، قصة فئة كبيرة من الناس تفرض عليهم قوانين الاقتصاد الرأسمالي أن يعيشوا حياة لا هي عصرية، ولا هي بدائية، وإنما هي بين هذه وتلك.



تُجمِع شخصيات الفيلم على التشبّث بهويتها الآدمية، وحماية كرامتها الإنسانية، في ظل نظام اقتصادي يميل إلى التضحية بحقوق الفئات الهشة من العمال وصغار الموظفين فور تعرضه لهزة مالية قوية كالتي وقعت في أمريكا عام 2008، فيجدون أنفسهم مطرودين من أنظمة الأجور والمعاشات والتأمينات والسكن الثابت.



تجد بطلة الفيلم نفسها أمام خيارين بعد أن فقدت عملها في أحد المصانع المفلسة، فإما أن ترضى بتصنيفها مشردة، وتصبح عالة على المجتمع والأقرباء، وإما أن تعيش متنقلة في سيارة "فان" قديمة، معتمدة على الوظائف اليومية ذات الحد الأدنى من الأجر.



"مانك" أحد أبرز الأفلام المرشحة لجائزة الأوسكار هذا العام. وهو الوحيد من بينها الذي لا ينتمي مخرجه "ديفيد فنشر" إلى فئة الكتاب المخرجين. لكنّ موضوع الفيلم يؤكّد الاهتمام الخاص الذي توليه صناعة السينما لكتّابها في هذه الدورة من جوائز الأوسكار.



فالفيلم يستعيد بالأبيض والأسود سيرة كاتب السيناريو الإشكالي "هيرمان مانكيوفيتس"، وهو الناقد الاجتماعي المتمرّد، ومؤلف فيلم "المواطن كين" العلامة البارزة في تاريخ السينما الأمريكية، والمنتج عام 1941، للمخرج والممثل "أورسون ويليس".



فيلم "المواطن كين" نفسه يقوم على سيرة قطب الإعلام "تشارلز فوستر كين"، الذي لعب دوراً مهماً في تطوير الصحافة الأمريكية في مطلع القرن العشرين، من خلال صحيفة "الإنكوَيرر" النيويوركية الشهيرة.



وبين الفيلمين، كما في بقية قائمة الترشيحات، تتداخل السير وتتناسل من بعضها بعضاً، وتُتبادل الأدوار والاختصاصات في صناعة السينما، بين الكتاب والمخرجين والممثلين.

أضف تعليقك