بذور ما بعد العلمانية في فكر ما بعد الحداثة

بذور ما بعد العلمانية في فكر ما بعد الحداثة
الرابط المختصر

ينظر مايك كنج إلى تعريف ليوتار لما بعد الحداثة بأنها التشكيك بالسرديات الكبرى, احتفاء خفيا بالروحانية. إذ أن ليوتار وفي الوقت الذي يطالبنا فيه بالتشكيك في روحانية ما قبل العلمانية البدائية يشككننا أيضا بنظريات الحداثة العلمانية والإلحادية كالماركسية والوجودية وغيرها. أما الكتابات المتبادلة بين جاك دريدا إيمانويل ليفيناس صاحب الصرخة الشهيرة (الإنسان أكثر قداسة من كل الأرض المقدسة), فإن كنج يرى فيها إبرازا لتوتر لم يحسم بين الفلسفة واللاهوت. ويرى أن ليفيناس وإن كان يهاجم في كتابه (الكلي والمطلق) الأديان الاستبدادية ما قبل العلمانية على طريقة ما بعد الحداثة إلّا أنه كتاب مفعم بالروحانيات. وكان تجاوب دريدا في مقالته الشهيرة (العنف والميتافيزيقا) هو الترحيب بالنقد اللاذع للاستبدادية وبعض أشكال الروحانيات وخصوصا اللاهوتيات السلبية أو ما يطلق عليها التقاليد المسيحية الآخرية أو السلبية (Apophatic Christian Tradition), إلّا أنه رأى أن يفيناس وان كان يتبع نهجا فلسفيا إلا أن عمله في الواقع لاهوتي. وجاهد دريدا من أجل أن يحتفظ بالتاج على رأس الفلسفة كما دائماً. فكان رد يفيناس في مقالته (الله والفلسفة) أن دافع عن حقه في أن يكون لا فيلسوف في مقالة فلسفية وعن حقه في أن ينتزع مساحة هيمنة الفلسفة لصالح الدين.

 

لم تكن ما بعد الحداثة إذا علمانية خالصة، فضلا عن أن فكر ما بعد الحداثة قد سمح لكثير من اللاهوتيين باستغلاله لتنشيط اللاهوتية. ولعل دون كوبيت مؤسس تيار بحر الإيمان هو المثال الأبرز في هذا المجال. ومن المفارقة كما يقول جون كابيوتو-العالم اللاهوتي- في مقالة له بعنوان (بدون سيادة, بدون كينونة: اللاشرطية, الربّ القادم وديمقراطية دريدا الموعودة):"إن العلمنة تفترض دائماً لاهوتا تعمل على علمنته. ولذلك, فمن حسن الحظ أو سوئه, فإن العلمنة هي استمرار لذلك اللاهوت بطريقة أو بأخرى". ويتابع كابيوتو الذي كتب مقالات عديدة تتبع الأثر اللاهوتي في تفكيكية دريدا قائلا" هناك دائماً ما أطلق عليه دريدا اللاهوت غير المصرح به, قضمة لاهوتية غير مهضومة في حلق حتى أكثر المجتمعات علمانية, ومن دون تحديد العنصر الضابط في هذا النظام التكافلي, فمن الواضح أن فكره الله ترتحل مصاحبة لفهمنا عن أنفسنا وعن فهمنا الخاص للنظام الاجتماعي وأن السيادة هي ميراث اللاهوتية العلمانية".

 

يبدو أن دريدا هو عرّاب الدين في فكر ما بعد الحداثة ولم يجد اللاهوتيين صعوبة في تقصي الأثر الديني والروحاني في فلسفة دريدا وكتاباته. يزعم كابيوتو أن دريدا لم يكن فيلسوفا فحسب بل عالما دينيا أيضا. مهدت ما بعد الحداثة لظهور عدد من المؤمنين الجدد الذين أسسوا لأرثوذكسية راديكالية تنسف الميتافيزيقيات التي سادت لألفيات وتعيد بلورة دين ما بعد حداثي جديد.

 

في كتابه(بعد الله: مستقبل الدين، 1997) يصف دون كيوبيت العالم الذي ورثته ما بعد الحداثة عن الحداثة يقول:" الوضع هو أنه لا توجد مطلقات أو ماهيات مفهومة جلية تنتظرنا هناك, قادرة على عقد عدد من المعاني اللغوية الثابتة حول شيء ما على الأقل. بل على النقيض من ذلك, فإن كل كلمة في المعجم لها تاريخ, الثقافة لها تاريخ والدين والفلسفة وحتى المنطق والرياضيات لها تاريخ. لم يحدث أن امتلكنا ـولن يحدث بالطبع. وجهة نظر أو مفردة تكون ضرورية لإثبات حقيقة الواقعية. بدلا من ذلك لقد وقعنا جميعا في مصيدة ما أطلق عليه البعض التداولية الجديدة أو العدمية أو ما وصفه الآخرون بما بعد الحداثة. ونحن نرى ببساطة أن ذلك كله كان من النتائج البعيدة المدى للحداثة. لقد كانت العودة إلى النظرة الذاتية الإنسانية المهلكة مربحة جداً لقرون عديدة ولكن علينا الآن أن نسدد فاتورة الحساب عندما أدركنا متأخرين أن عالمنا سيبدو في النهاية وهما زائلا مثلنا تماما". ولكن ما الذي يجب علينا فعله بعدما أدركنا الانهيار التام لعالم الحقيقة الحداثي وغياب التقاليد الدينية الرئيسية؟ لا يتفق كيوبيت مع النزعة التشاؤمية أو الكلبية أو السلوك المذعور أو غيرها من السلوكيات التي دعمتها ما بعد الحداثة. وبدلا من ذلك يعرض كيوبيت مقاربة جمالية تقول بأن" الحقيقة العظيمة الواحدة "قد ولت إلى الأبد ويقترح على الناس أن يبتدعوا(لوحة استراتيجيات سلوكية): مرجع شخصي صغير من الحقائق المختلفة والمسارات والأهداف تنقذه من التقاليد الدينية البالية. ويقول كيوبيت الذي يعرف نفسه في موقعة الاليكتروني بأنه نصف مسيحي وربع بوذي وربع يهودي معا, إن هذه اللوحة" ستساعد الإنسان في العيش في تيار الأنانية الجاري حيث يقبع الإلهة التقليدي" .

 

وفي النهاية فإن دون كيوبيت وتياره يروج لفكرة أن (الإله ليس ذاتا أو كينونة، بل هو مجرد بؤرة أخلاقية).

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1-  أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2-  الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3-  نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4-  فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.

أضف تعليقك