الوجودية والسؤال الوظيفي في "يوميات سراب عفان" لجبرا ابراهيم جبرا

الوجودية والسؤال الوظيفي في "يوميات سراب عفان" لجبرا ابراهيم جبرا
الرابط المختصر

 

تعد رواية ( يوميات سراب عفان،1992) لجبرا ابراهيم جبرا رواية عن الرواية، وهذا منزع تجريبي ما بعد حداثي، كان الأساس لعديد من الأعمال الإبداعية الغربية والعربية نذكر منها (ثلاثية نيويورك) لبول أوستر, و(ذاكرة الجسد) لأحلام مستغانمي, وإلى حد ما (عالم بلا خرائط) لجبرا وعبد الرحمن المنيف. وقد استطاع جبرا أن يدمج بين مشروع كتابة الرواية والرواية نفسها، وأن يعرض للقارئ سرّ الصنعة الروائية. فكل شيء يتم هنا، يتم أمام عيني القارئ، ففي حديثه عن مشروع كتابة الرواية الذي لم يكن هذا المشروع إلا الرواية نفسها. استطاع أن يعرض كل التفاصيل الداخلية لتفكير الروائي بآلية وطريقة إخراج العمل روائيًا، وهو بذلك يلغي الحاجز الفاصل بينه وبين القارئ في عملية الصناعة تلك. لقد أتاحت طريقة القص المذكورة للروائي أن يبدو ليس بوصفه مشاركاً للقارئ في صنع الحدث أو بناء الشخصيات أو ضبط حركتها فحسب ، وانما  بوصفه روائياً وشخصاً مندمجاً في عمله. وهذا ما يوفر الهامش المطلوب لعملية اندماج كافية للقارئ أيضًا. فالشخصية المركزية (سراب) تكتب في يومياتها ((إنني لست أكتب رواية، كما حاولت في السابق أكثر من مرة. إنني الآن أضع مخططًا قابلًا للتنفيذ, سواء نفذ أم لم يُنفذ. . . . يوميات سراب عفان:33).

 

أما الشخصية الثانية( نائل )التي يتأكد اندماج الروائي بها عندما: ((يرتجل من وحي اللحظة، ولا يعتمد على خزين الذاكرة، رغم أهميته، بقدر ما يعتمد على تصاعد الكوامن العشوائية في اللاوعي وشبه الوعي لديه. . . . . . . . يوميات سراب عفان:160).

 

سراب عفان هو اسم بطلة الرواية. فتاة عراقية من أصول فلسطينية، في أواخر العشرينيات من عمرها. تقرأ سراب رواية بعنوان (الدخول في المرايا) لكاتب اسمه نائل عمران. وقد سبق أن قرأت له روايات سابقة ولكن تبهرها هذه الرواية بالذات. تسرح البطلة في عالم الخيال الساحر وتود أن تهرب من واقعها الرتيب حيث لا يوجد في حياتها ما يثير. ولكن لسراب موهبة مميزة في الكتابة. لذلك فإنها تستغل أوقات فراغها في البيت أو في العمل وتبدأ بكتابة رواية خاصة, بها أو يوميات من وحي خيالها. لكن طريقة كتابتها للرواية طريقة حية تشبه السيناريو. تعيش قصة روايتها التي تدور حول حلمها بالالتقاء بنائل عمران صاحب الرواية التي اشترتها. ويحدث أن يصبح الخيال واقعا والحلم حقيقة وتلتقي سراب بوائل. ويسهب جبرا في وصف التجاذب الغامض الذي حصل بين الاثنين. حتى اختفت سراب فجأة, ودون مقدمات بعد ستة أشهر من علاقة حب عاصفة. ويعتقد نائل أن لغيابها علاقة بمنظمة فلسطينية عرفها عليهاوقررت سابقا أن تنضم إليها، ويأمل أنها(( قد تفيق من نومها تحت شجرة زيتون في تل من تلال القدس, فتأخذ نفسا عميقا لتملأ رئتيها بأنسام مدينة جدتها، وتحشو عبها بأشعة شمس لم يخلق الله مثلها إلا على جبل المكبر، عندها فقط تكون قد حققت حريتها. . . . . . يوميات سراب عفان:219)).

 

وسراب مثلها مثل وليد مسعود  في رواية  (البحث عن وليد مسعود) هجرت حياتها التي توفرت فيها كل أسباب الحياة الراقية، وكان يمكن لها أن تعيش مترفة، تتفنن في انتقاء ملابسها، في زينتها، في تدللها وغنجها, لتلتحق بالمقاومة في فلسطين. ويعثر نائل على سراب بعد سنوات تدرس بباريس بعد حصولها على منحة دراسية من المنظمة التي تعمل معها وحين يطلب منها أن تعود إلى بغداد تجيب سراب:

 

((أتريدني أن أعود إلى القسر, والعمى، والأحادية اللعينة في كل شيء، بلية كل العرب ؟ أنا هنا في القلب من كل شيء، وعلى طريقتي. وما التزمته من نشاط هو الآن حياتي كلها. . . . يوميات سراب عفان: 273)).

 

ولا تعني سراب بـ (هنا) المكتبة بالطبع, ولكن باريس هي التي أصبحت قلب الحياة بالنسبة لها. والمكتبة هنا ترمز إلى العقل والفكر والثقافة. وقد جاء بها جبرا تحديدا ليؤكد على نوعية التزام سراب نحو القصية الفلسطينية. إنه التزام ثقافي فكري وليس اندفاعا عاطفيا. وسراب مثلها مثل وليد مسعود نتاج عالم النخبة الذي عرفها وائل عليه لذلك فإنه يتفهم تماما كيف يمكن لها أن تعيش منعمة في باريس، في حين أنها تتباكى على ما يجري في فلسطين.

 

إن تنفيس سراب للقهر والإحباط الذي تشعر به من خلال كونها معجبة بالأدب, ثم قارئة ملتزمة, ثم مناضلة من أجل الحرية يصف بدقة نمطا من الشخصية العربية جرى إغفالها في أدب الحداثة العربي: الشخصية الكونية في جوهرها وتطلعاتها. وحين يقول سارتر إن" علينا أن نشبه الالتزام الأخلاقي ببناء عمل فني " ، فإن التزام سراب يعكس بدقة هذه العلاقة. إن سراب المثالية المتقدة العاطفة مثلها مثل وليد مسعود, ووديع عساف تمثل روح المبادرة والفعل المفقود في العالم العربي.

 

تجسد الشخصيات الثلاث الشعار السارتري " الالتزام الكامل " ولكنها ترفض الفكرة السارترية بأن((المهم التزامك الكامل، ولا يمكن لحالة خاصة أو عمل خاص أن يحدد التزامك الكلي))" : لذا نراها تقول ((وكل ما أفعله إنما يصب في النهاية في الانتفاضة نفسها، في ثورة الحجارة, هذه الثورة التي أذهلت العالم. . . يوميات سراب عفان274)). كان حماسها أعقد مما يبدو ولكن اسمها سراب يرتبط بالصحراء أو الوهم أو اللا-جدوى. أما مطاردة نائل لها فإنها تستحضر روح امرؤ القيس الشاعر الجاهلي العظيم وسراب نفسها تشير إلى العلاقة بوضوح حين تقول ((إنه كالشعراء العرب, يقرن الحب بالجنون ويستقر بهما في الجنان, الذهن بمعناه الفلسفي. يوميات سراب عفان:174)).

وفي حين تجسد الرواية روح العمل في شخص سراب، فإنها تجسد المثابرة والإصرار ورباطة الجأش في شخص نائل الذي لا يكل عن متابعة سراب حتى يعثر عليها في باريس، ففي حوارهما الأخير تقول سراب ((ألا ترى، نائل، أنني ما قررت أن أجابه الموت إلا بملء إرادتي، وأنا في القمة من صحوي الفكري وصحوي الجسدي ؟. يجيبها نائل:

 

آه لو أن الجسد يوجد كطاقة ذهنية صرف، كشيء لا حدود له، لا وزن له، كفكرة تتصاعد كالفقاقيع، وتتلاشى. . . ويظل البقاء والفناء متلازمين، متداخلين, على نحو ما. . . . يوميات سراب عفان:276)).

 

وهنا نلاحظ أن مواجهة الموت ليس فعلا عاطفيا بقدر ما هو مسار فكري. فتقول سراب ((والبقاء, ما الذي يعنيه ؟ نائل، البقاء حسا ولذة، كما في هذه الساعة, والبقاء وجعا ومواجهة للموت, للقتل, كما في كل ساعة. . . البقاء في إعصار من أوهام مدومة في قلب اللحظة الآنية، هذه اللحظة الرَّاضة بحقائقها, الجارحة بالحاحاتها. . . . . والبقاء في زوبعة من الأصوات العاصفة من كل صوب، المتصاعدة إلى ذروة من العنف, ثم الصمت فجأة, كصمت الإغماءة وانقطاع تيار الحياة. . . . . . . يوميات سراب عفان:276)).

 

هذه الرغبة الغريبة لسراب في تكون في قلب اللحظة ضد الموت، محاطة بالأصوات من كل ناحية، تعيد إلى الذاكرة السطر الأخير من قصة كامو (الغريب), حين يتمنى مارسو أن ينفذ فيه حكم الإعدام وسط صيحات الحقد والكراهية .

 

أما البطولة في قضية سراب فلا يمثلها إلا الشهيد، تماما كما في رواية وليد مسعود ولكن السؤال هنا هل التزام سراب إيديولوجي أم وجودي؟. يعتمد الفرق بين الالتزامين على مدى ارتباط نشاطها وفاعليتها بالقضية الجوهرية: احتلال فلسطين وطرد أهلها منها. والسؤال السارتري هو: هل قراراتها ناجمة عن ولائها الصادق لقضيتها ؟. لا توضح الرواية الكثير فالفتاة عراقية تتمتع بحرية السفر والتنقل, وارتباطها بالقضية نتج أساسا عن علاقتها بناشط فلسطيني. أما صور فلسطين التي تملأ رأسها, والنوستالجيا التي ورثتها فقد ساهمت في تفصيلات خطة عملها. وبهذه الطريقة تكون الفتاة قد أحيت تراث عائلتها في الوقت الذي دفنت فيه قناعاتها الخاصة. وربما لهذا السبب رفض جبرا أن يضع لنا استنتاجا لقصتها في نهاية الرواية فقد أصبحت سراب في النهاية ((نجمة نائية لا تطال، ومرة كجمرة لاهبة، وتنزلق كل مرة من بين أصابعي كزئبق بت معتادا عليه، مستمتعًا بانزلاقه واستعادته. . . . . يوميات سراب عفان: 277))، ذلك أن التزامها بقي بالنسبة للقارئ (إرادة تستحث فعلا). وهي فلسفة سارترية واضحة إذ يقول سارتر أن ((إرادة الحرية، التي هي جزء من الحرية ذاتها))، بل إن إرادة الحرية هي التي تحدد الحرية بدرجة كبيرة. لذلك فإن التمادي في وصف تحقيق حرية الفعل لن يؤدي إلا إلى إخماد الجذوة التي أشعلته. يقول سارتر((فنحن لا نتكلم أبدا عن لا معقولية العمل الفني, وإذا ما ذكرنا لوحة لبيكاسو مثلا، فإننا ندرك جيدا أن اللوحة قد صارت إلى ما هي عليه في وقت رسمه لها، وأنها جزء متكامل من حياته كلها)) .

 

وهنا لابد لنا أن نتوقف قليلا لنرسم ملامح وجودية جبرا الخاصة، فالفلسفة الوجودية حين قالت بأن كل الخيارات بلا أساس أو مبرر, جعلت السؤال عن جدوى العمل مبررا بطريقة أو بأخرى. ولكن جبرا حاول أن يرسم علاقة بين الفعل المقصود ومفهوم الحافز أو الدافعية حين ربطه بمفهوم الحرية والاختيار: المفهومان الأبرز في الفلسفة الوجودية. لقد أعاد جبرا تعريف مفهوم الدافعية ووظف الوجودية ليثبت الوجود الخاص للدافعية الملموسة (حالة إنسانية من نوع ما). إن الفلسفة السارترية لم تترك مكانا للدافعية؛ لأنها قالت بأن كل فكرة عن الدافعية تحدث بعد الحقيقة، وليس لها أي تأثير على خيار الفرد الحر. وهذا القول صحيح إلى درجة كبيرة، إذا كنا نقصد مفهوم الدافعية من المنظور النفسي، الذي قد يقودنا إلى الإيحاء الذاتي حسب علم النفس أو الخداع وسوء الطوية حسب سارتر. تفند روايات جبرا هذه الفكرة على أرضية أن فكرة الدافعية متضمنة في مفهوم الوجود لذاته ؛ لأن الوجود لذاته لن يكون أبدا الوجود في ذاته. حاول جبرا سيقنة الدافعية في الوجودية بمعنى أنه نجح في التوفيق بين الوجودية والدافعية حين وظف فكرة المشروع الأصلي السارترية وطبقها على ما يمكن أن نطلق عليه الدافعية الوجودية أو الخصائص الدافعية للوجودية.

 

إن فهم سارتر لما هو إنساني يمكن تلخيصه في نظرته إلى الدافع الأساسي للعمل الذي لا بد أن يوجد في طبيعة الوعي الذي هو الرغبة في الوجود. ويعود الأمر لكل إنسان في أن يمارس حريته بطريقة لا يخسر فيها وقائعية وجوده على ضوء حقيقة أنه كائن إنساني حر. وإذا فعل ذلك فإنه سيعرف المزيد عن الخيار الأصلي الذي تمثله حياته بمجملها, وعن القيم التي سيجنيها. ومثل هذا الفهم لن يتأتى إلا من خلال أن يعيش المرء حياته الخاصة وأن يتجنب شرك استراتيجيات الخداع الذاتي وسوء الطوية. ويمثل هذا الخيار الأصيل إدراك العالم في فردية الحياة البشرية.

 

وجبرا الذي يخلط الدهشة والفجاءة والتلقائية بالبناء المتماسك بحيث يبدو كلا المفهومين هشا إنما يهدف إلى ما هو أسمى: إلى دولة حقيقة وحرية واستقلال لذلك نقول إن طاقته الإبداعية تتفجر بتلقائية لأن حافز أعماله اليوتوبي يحمل اسما محددا: فلسطين. وتبقى تلقائيته وتناقضاته مجرد احتمالات, ولكن البناء الراسخ المتماسك هو فلسطين والعودة إليه وهو الذي يمثل دافعية أبطاله جميعا. وفي النهاية تحاول رواية (يوميات سراب عفان) أن تلفت الانتباه إلى الخصائص التحريضية للوجودية.

 

شهد جبرا بنفسه تهاوي مشروع الوحدة العربية وتحرير فلسطين، وفي المحصلة تأثر مشروع الجمالية السياسية التي روج لها وأصدقائه بدرجة أو بأخرى. وهنا بدأ وصفه للحياة في بغداد يتغير من نبرة التفاؤلية النوستالجية التي سادت أعماله السابقة، التي ربما كان أفضل تعبير عنها هو ما وصفه في مقالته التي سبق أن أشرنا إليها والتي نشرها بالإنجليزية عام 1977 (المنفي الفلسطيني كاتبا) حين تحدث عن بغداد الخمسينيات والستينيات, التي تنفض عن كاهلها غبار قرون من التجاهل والكسل لتولد من جديد مدينة الفنون بأشكالها كتابة ورسم ورقص وموسيقى وغناء، الشوارع الخيالية المغطاة بأوراق الخريف والمطاعم الفخمة والصالات الفنية الراقية ودور السينما في شارع الأميرات . هذا الوصف التفاؤلي لبغداد تحول إلى أضواء خافتة وبيوت هجرها أصحابها ومطاعم مغلقة ووزراء سابقون متجهمون في بداية التسعينيات وتحديدا في يوميات سراب عفان ((أين أغاني الأمس ؟ آه أينها. . . سراب عفان:90)). ولكن الخلاص من هذا الجو الغامض الذي لمح إليه جبرا تلميحا فقط كان، ببساطة السفر إلى باريس. وينبغي أن لا تمر اللفتة الباريسية مرور الكرام لأنها تنقل توجه جبرا الأساسي وطبيعة وجوديته التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالمعرفية الفرنسية، ولكنها هامشية ميئوس منها بالنسبة للتجربة الفرنسية. لقد بقيت وجودية جبرا ممزقة بين جدواها بوصفها نهجا حداثيا لمواجهة تحديات ما بعد الحرب العالمية الثانية في المنطقة وخصوصا في فلسطين والابتداع الأوربي للفلسفة.

 

كانت وجودية جبرا وثيقة الصلة بالابتداع الأوربي، الذي رأى ضرورة التخلي عن الميتافيزيقيات في أزمة الحداثة. إن ميله لوضع باريس بوصفها الاكتمال الثقافي للعمل الفلسطيني، هدد بتعريض وجودية جبرا إلى انقسام جوهري، سمح للفكر الأصولي باستغلاله فيما بعد . لقد فهم جبرا منذ البداية خطورة طرح فلسفته في مواجهة الخطاب التقليدي سواء أكان تراثا أم قومية أو دينا لكنه لم يتخذ أي خطوة لتجنب هذا الخطر بالارتداد مثلا عن مشروع الهوية المرتكز على الميتافيزيقيات، أو نبذ الاهتمام بالانقسام بين الحداثة والتقاليد،بل إن وجوديته انبثقت من هذا التوتر الذي صبغ رواياته كلها.

 

باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

 

1-  أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2-  الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني

 

 

 

 

أضف تعليقك