المسرح والدراما الأردنية: بحث عن الصدق وسط ركام التصنع والتراجع

الرابط المختصر

في قلب المشهد الثقافي الأردني، حيث تتقاطع ذاكرة الإبداع مع رهانات الواقع، يلوح شبح التراجع في الدراما والمسرح، كأنما الزمن يمضي بعيدًا عن أمجاد مضيئة صنعها روّادٌ ومبدعون زرعوا في الوجدان الأردني صورًا لا تُنسى. لكن ما نشهده اليوم هو فتور واضح، وترهل لا يخفى على المتابع الفطن، ترهلٌ بنيوي وفني يكاد يُفقد الفن جوهره ويُبقيه في قوقعة الأداء الشكلي والمبالغة الجوفاء.

ففي وقت كانت فيه الخشبة الأردنية تُنجب ممثلين يحملون في أصواتهم وملامحهم صرخات مجتمع، وتحمل شاشاتنا دراما تنبض بالهوية وتخاطب الوجدان العربي، نشهد اليوم ممارسات تمثيلية تفتقر إلى الصدق، يطغى عليها التكلّف، ويغيب عنها ذاك العمق النفسي الذي يحوّل النصوص إلى لحظات نابضة بالحياة. يغدو التمثيل عند البعض مهارة صوتية أو جسدية مفصولة عن المعنى، تُقدَّم بحركات مدروسة ولكنها خالية من النبض.

التمثيل الحقيقي، كما أشار إليه ستانسلافسكي، لا ينبع من الخارج، بل من الداخل، من قدرة الممثل على استحضار "الذاكرة الانفعالية"، من استغراقه الكامل في دوافع الشخصية وتعقيداتها، من صدقه في محاكاة الانفعالات التي تُلهب أرواحنا كمشاهدين. لكن هذا النهج الصادق لا يبدو حاضرًا بما يكفي في إنتاجاتنا المعاصرة، وكأن التمثيل بات مهمة آلية تُنجز تحت ضغط الزمن وإكراهات السوق، لا تجربة روحية وفكرية تعاش وتُترجم على الخشبة أو أمام الكاميرا.

تتعدد أسباب هذا الواقع المحبط. لعل من أبرزها هشاشة البنية التدريبية للممثل الأردني، حيث تغيب المؤسسات التي تُعنى بتطوير أدوات الممثل الداخلية وتنمية وعيه الجمالي والنفسي. كما أن ضغوط الإنتاج، وشحّ الدعم، وسرعة الإنجاز كلها عوامل تضعف من جودة التجربة الفنية. يُضاف إلى ذلك غياب الرؤى الإخراجية الطموحة القادرة على النبش في داخل الممثل، ودفعه إلى تخطي قشرة الأداء نحو جوهر المعايشة.

ولا يمكن إغفال مسؤولية الجهات الرسمية والمؤسسات الثقافية، التي كثيرًا ما تفتقر إلى استراتيجية واضحة للنهوض بالمسرح والدراما بوصفهما رافعتين أساسيتين للهوية الثقافية. فبين مهرجانات موسمية تُنظّم على عجل، ومشاريع درامية تُنتج دون رؤية فنية متكاملة، يظل الفنان في الأردن في صراع دائم مع محدودية الفرص وغياب الأمان المهني.

ورغم ذلك، لا يخلو المشهد من ومضات أمل. هناك جيل جديد من المخرجين والممثلين والكتّاب، يسعى جاهدًا لفتح ثغرات في الجدار، لابتكار لغة مسرحية ودرامية جديدة، ترتكز على الصدق والوعي والتجريب. تحركات فنية شبابية، مبادرات مستقلة، وورش عمل قائمة على فهم عميق للفن كأداة للتغيير المجتمعي، لا مجرد وسيلة ترفيه.

إن المسرح والدراما، في جوهرهما، هما مرايا تعكس نبض الناس وتوقهم للحرية والمعنى. حين يلامسان الحقيقة، يصيران قوة محركة للوعي، وملاذًا جمالياً يُعيد تشكيل الوجدان العام. أما حين يُختزلان في تقنيات جوفاء، فإنهما يتحولان إلى صور باهتة لا تصمد أمام الزمن.

لقد آن الأوان لثورة فنية ناعمة تعيد بناء الجسور بين الفن والجمهور، بين الممثل ودواخله، بين المخرج ورؤيته، بين المسرح كحيّز طقسي، والدراما كأرشيف حي للروح الوطنية. آن الأوان لأن نسترد من المسرح والدراما الأردنية ذلك البريق الغائب، لا من باب الحنين، بل من باب الإصرار على أن الفن الحقيقي لا يموت، بل ينتظر من يوقظه من سباته.