الفلسفة والأدب.. هكذا يُداوي الفكرُ النفس البشرية في أوقات الأزمات

يستدعي العثور على السلام الروحي معرفةً عميقة بالحياة، لذلك يلجأ كثيرون ممّن يتعطشون لفهم الحياة إلى الفلسفة والفكر والأدب والتاريخ، وينبشون في النفس البشرية، ويفككون آلامها وقلقها وعذاباتها.

رافقت الأزماتُ الإنسانَ منذ الأزل. سواء كانت كوارثَ تصيبُ العالم الخارجي المحيطَ به، أو حتى أزماتٍ نابعةً من دواخله الضاجّةِ بالقلق والأسئلة. وليست الأزمات مجرّد كوارث وأوبئة وحروب، بل إنها أيضاً تعامُل الإنسان مع الكوارث والأوبئة والحروب والمشاكل، ودرجةِ تأثره بها، وهو تعاملُ نابعٌ بالأساس من المشاعر التي تعتملُ بداخله وهو يعيش هذه التجربة.

الخوف، القلق، الألم، الكآبة واليأس.. كلّها مشاعرُ تأتي من أعماق الإنسان، وليس من خارج جسدِه، وإلّا لما كان هناك أشخاص متمسّكون بالأمل بالرّغم من الأشياء المحبِطة المحيطةِ بهم، وآخرون متشبّثون بالرضى والسلام النفسي بالرغم من التقلّبات التي تجري في عوالمهم الخارجية.

يقولون إن حقيقةَ الإنسان تظهرُ في أوقاتِ الأزمات. الصّبر، الرزانة، الحفاظُ على الهدوء والتعامُل مع الأمورِ بحكمة، أو اليأس والسقوط في الإحباط والاستسلامُ للخوف. أحياناً يحتاج الإنسان إلى مَن/ ما يُرشِده ويُنير طريقه ليجدَ السلام الروحي، وأحياناً عليه أن يبحثَ بنفسِه عن دفء الثباتِ داخلَه.

لكنّ العثورَ على السلامِ الروحي لا يتحقّق أحياناً إلّا بالمعرفة العميقة للحياة. اللجوء إلى الفلسفة والفكر والأدب والتاريخ، والنّبش في النفس البشرية، وتفكيك آلامها وقلقها وعذاباتها.

"التداوي بالفلسفة"

يرى كثيرون أنّ الفلسفة مجرّد ترفٍ فكريّ، ويعتقدُ آخرون أنها جنونٌ لا طائل من ورائه. لكنّ المفكّر المغربي سعيد ناشيد جاء بكتابه "التداوي بالفلسفة" ليفنّد هذه الأفكار ويُثبِتَ أنّ غايةَ الفلسفةِ المُثلى هي مواجهةُ الحياةِ وصروفِها، ويُبيّن علاقتَها الوطيدة بالحياةِ الإنسانية.

يقول مؤلّف الكتاب: "إن لم تنفعك الفلسفة في أشدّ ظروف الحياة ضراوةً، فمعناه أنّ دراستك لها مجرّد مضيعةٍ للوقت وعليكَ أن تُعيد النظرَ في أسلوب التعلّم، ثمّ إنك لست بحاجةٍ إلى الدراسةِ الأكاديمية المتخصّصة إذا رغِبت في تعلّم فلسفة الحياة، أو تأثير الفلسفة في حياتِك".

في السياق نفسه، اعتبر الفلاسفة الرواقيون أنّ الفلسفة ليست مجرّد تسلية، بل طريقةً للحياة وممارسةً حياتية خالصة.

لكنْ، كيف يمكن التداوي بالفلسفة؟ وكيف يمكن مواجهةُ الأزمات بها؟

ينبغي أولاً أن نتّفق على أنّ الفلسفة والمعرفةَ الفلسفية أداةٌ مهمّة للتفكير النقدي، ورفعِ الزيف عن الأشياء، وسيلةٌ للبحثِ عن الحقيقة والتخلّص من الوهم ـ ولو أنّ الحقيقةَ مؤلمةٌ في الكثيرِ من الأحيان ـ من أجلِ رؤيةِ العالم كما هو، وتقبّل الحياة في صورتِها الأصلية.

يشرحُ سعيد ناشيد في كتابه "التداوي بالفلسفة": "حين يقوم التفكير النقدي بنزع السحر عن الأشياء، فإنه يحمينا من خيبة الأمل، سواء تعلّق الأمر بالتاريخ أو الحبّ أو الثورة أو السعادةِ أو الألم أو الموت، وبالتالي نكتسب القدرة على العيش بأقلّ ما يمكن من الآمال والأوهام".

ولذلك، فإنّ الإنسان عندما يقعُ في مواجهةِ أزمةٍ ما، سواء كانت فقدان حبيب، أو خسارةَ شيءٍ عزيز، أو خيبةَ أملٍ مرتبطةٍ بشخص ما أو وظيفة أو عمل، وعندما يمتلك هذا الإنسانُ المعرفة الفلسفية والتفكير النقدي والقدرةَ على رؤية الأشياء على حقيقتها، تصبِح هذه المشاعر أقلّ حِدّةً وإيلاما، لأنّه يصير حينها قادراً على تقبّل الحياةِ بخساراتِها وآلامها وانكساراتِها.

إنّ المعرفةَ الفلسفية لا تقضي على الألمِ بصفةٍ نهائية، بل تهدّئه وتهذّبه، والتمتّع بالفكرِ النقدي لا يجعلُ ألمَ الإنسانِ تجاه الأزمات يختفي، بل يعطيه قوةً أكبر للتحمّل ويجعله يتخلّص من سطوةِ الانفعالات السلبية البدائية تجاه العالم والأشياء التي تحدث.

المناعةُ ضدّ المِحن

يربط كثيرٌ من الناس بين السّعادة والأشياء التي تحدث في العالم الخارجيّ، فيعيشون مكبّلين مسلوبي الإرادة. ينتظرون وظيفةً جديدة براتبٍ أفضل أو عطلةَ نهاية الأسبوع أو تحقيقَ هدفٍ في جمعِ المال وشراء بيتٍ أو سيّارة كي يشعروا بالسعادة، ويسقطون محبطين مهيضي الجناح من اليأس والحزن إذا لم يحقّقوا هدفاً من هذه الأهداف المادّية.

عندما جاءت البوذية، وضعت مجموعةً من التعاليم/الحقائق لتنوّرَ مناطقَ مظلمة في عقول الناس بخصوص السعادة والألم والمعاناة. يمكنُ الوصول إلى فهمِ الحياة وتعامل الإنسان مع الأزمات من خلال هذه الحقائق "النبيلة"، أوّلها أنّ الحياة لا تخلو من المعاناة ومصادرُها الولادةُ والمرض والشيخوخة والموت والإخفاق في الوصول إلى ما تتمنّاه النفس

الحقيقة الثانية التي تقوم عليها البوذية هي أنّ منشأ معاناة الإنسان هو التمسّك بالحياة ورغباتِها مثل السعادة والقوة والجمال والثراء. ولا يمكن التخلّص من المعاناة إلّا بالحقيقة الثالثة وهي التوقّف عن التعلّق بالحياة والشهوات.

أمّا الحقيقةُ الرابعة فتقوم على التفكير السليم الخالي من النزعات والرغبات، التركيز السليم في الأشياء وهجر اللذات..

إنّ فهمَ كونِ المعاناة جزءً من التجربة الإنسانية، واستيعابَ فكرةِ أنّ هذه المعاناة تتواصلُ منذ لحظةِ الولادة وحتى لحظةِ الموت، تجعلُ مرور الأزماتِ في حياة الإنسان أكثر سلاسة، وتمنحُ الحكمة في مواجهتها، بعيداً عن الغضب والحقد والانفعالات، وهي المشاعر التي اعتبرَها الفلاسفة الرواقيون مشاعرَ هدّامة ومنبثقةً عن أحكام خاطئة تجاه الحياة.

تجدر الإشارة إلى أنّ الفلاسفة الرواقيين، ومن بينهم لوكيوس سينكا وماركوس أوريليوس، اعتبروا أنّ الحِكمة هي منبعُ السعادة، وأنّ الإنسانَ الحكيم يمتلكُ مناعةً ضدّ المِحن.

حبّ القدر أو Amor Fati

يمكن للتعايش مع الأزمات والمشاكل أن يرتبط أيضاً بفكرة القدَر والعَود الأبدي، أي أنّ كلّ ما كان أو حدَث يحدث الآن وسيعودُ ليحدث مرّةً أخرى، بالطريقةِ نفسِها في كلّ مرّةٍ وإلى الأبد، في تكرارٍ دقيق للأشياء نفسِها، وأنّ القلق تجاه هذه الفكرة لا طائل من ورائه، بل ينبغي فقط التعايش معها في هدوء.

إنّ التعايش مع فكرة العود الأبدي، حسب الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه، يستدعي حبّ القدَر. والمقصود به ليس فقط الإذعان لقوانين الكون، بل عِشقَها أيضاً.

يقول نيتشه: "وصفتي لوصول الإنسان إلى العظمة هي حبّ القدَر. ألّا يريد المرء لشيءٍ أن يتغيّر، لا في الماضي ولا في المستقبل ولا في الأبدية بأكملها. إذا استطعتَ أن تصل إلى تلك المرحلة من التعايش مع الحياة، بحيث لا تتقبّل قدَرك فقط بل تقَع في حبّه، فلا شيء سيعكّر عليك سلام روحِك، وحينها فقط ستختبر السعادة الحقّة، المتحرّرة من الأسباب الأرضية، غير المرهونة بنزوات القدر وتقلّبات الحياة".

ومع ذلك، كان نيتشه دائماً ممّن يدافعون عن قوة الإرادة، وعن أنّ الإنسان يستطيع أن يصنع قدره بنفسِه، وعليه أن يحبّ القدَر الذي رسمَه لحياتِه.

الأدب... إخراج الجمال من قبح العالم

ليست الفلسفة وحدَها الترياقَ للتخفيف من معاناة الإنسان تجاه الأزمات، فالأدبُ أيضاً له دوره في القدرة على مواجهة هذه الأزمات بصلابة. قراءةُ الأعمال الروائية والشعرية العظيمة في التاريخ تعطينا فكرةً واضحةً وشاملة عن النفس البشرية وآلامِها وأهوائها وسعادتِها وانكساراتِها، وتعلّمنا أنّ الألم يستطيع، بقدرة الإبداع، أن يتحوّل إلى جمال، وأنّ هناك زوايا مختلفة ننظر من خلالِها إلى المعاناة الإنسانية.

قراءةُ أعمال مثل روايات دوستويفسكي وتولستوي ونجيب محفوظ وأعمال شكسبير المسرحية والشعرية تجعلنا في مواجهةٍ مع فكرةِ أنّ المعاناة أصيلةٌ في الإنسان، لا لغةَ لها ولا جنسَ ولا عِرق ولا دين، أنّ معاناة راسكولينكوف في "الجريمة والعقاب" هي نفسها معاناة سي السيد في "بين القصرين" وهي نفسها معاناة ماكبث في أعمال شكسبير الشعرية التي تحمل نفس الاسم. هي معاناة الإنسان بصفة عامّة.

لا تعني قراءة الأدب أن يقارن الإنسان معاناته بمعاناة الآخرين، وقدره بقدرهم، بل هي أعمقُ من ذلك بكثير. رؤيةُ الحياةِ على حقيقتها، والنفاذ إلى جوهر الإنسان، والتصالح مع أخطائه، والاستفادةُ من تجاربه ومواجهته للأزمات التي يمرّ منها.

إن الأدب بالإضافة إلى ذلك، يمنحُ لذّة الإبداع وسعادةَ الارتقاء في الخيال وأدوات التفكير السليم، ويثبتُ لنا أيضاً أنّ الإنسان يمكن أن يستمدّ الجمال من القبح، كما تعلّمنا ذلك فلسفة الشاعر بودلير.

"الحياةُ جميلةٌ رغم كلّ شيء"

وإذا كانت الفلسفة تعلّمنا أنّ المعاناة أصيلةٌ في الإنسان، فإنّ الأدب يستطيع، في الكثير من الأحايين، أن يرى هذه المعاناة من زاويةٍ أخرى. تقول البوذية إنّ المعاناة موجودة وينبغي تقبّلها للوصول إلى السلام، وكتب إميل سيوران "مثالب الولادة" ليُثبت أن الولادةَ في حدّ ذاتِها لعنة، ورأى أدباء عديدون أنّ هذه الفكرةَ صحيحة، لكنّ عكسها أيضاً صحيح.

يقول الكاتب الفرنسي جان دورميسون: "أنا محظوظ، لقد وُلِدت. لا أشتكي من ذلك. سأموت بطبيعة الحال. وفي انتظار ذلك، أنا أعيش".

اختار دورميسون أن ينظر إلى المشاكل والأزمات والانكسارات كجزء يشكّل الحياة، مثلها مثل الفرح واللذة والرضى. كأنّ جمال الحياةِ لا يتحقّق إلا بوجود هذه المتناقضات جميعِها. لا يمكن أن توجد اللذة لولا الخيبة، ولا الفرح لولا الحزن، ولا الحياةُ لولا الموت.

يقول أيضاً: "الحياةُ جميلة لأنّ لها نهاية، الحياةُ جميلةٌ رغم كلّ شيء".

trt

أضف تعليقك