العقل والذكاء الإنساني

العقل والذكاء الإنساني
الرابط المختصر

يقف الدين موقفاً متشككاً إلى حد ما من العقل والذكاء الإنساني، بينما تقف الفلسفة موقفاً داعماً للعقل وللذكاء الإنساني، ولكل أسبابة ومنطلقاته.

 

فالدين يعترف بالعقل وبالذكاء الإنساني، إلا أنه لا يمنحه كامل ثقته ولا يتركه حراً وحيداً في تقرير مصير الإنسان والعالم. بل يمنح السلطة العليا واليد الطولى للوحي وللشرائع السماوية، وما على العقل إلا التسليم والطاعة، ثم يأتي دوره في تدبير شؤون الحياة اليومية البسيطة، والتي لم يأت بها وحياً مباشراً لينظمها.

 

بينما تقوم الفلسفة أصلاً على تمجيد العقل والدفع بالذكاء الإنساني إلى أقصى حدوده، ولا تعترف بسلطة فوق سلطته. فالعقل حر وكلما زادت حريته زاد من إبداعه وتألقه، وحقق للإنسانية المزيد من الفتوحات العلمية والحضارية، التي لم يستطيع الدين تحقيقها على مدى عمره الطويل.

 

ينطلق موقف الدين من منطلق سلبي: لو كان للإنسان عقل راجح وذكاء متقد، لاستطاع إسعاد نفسه واكتشاف وجود الله خالق الكون، ولعجزه عن فعل ذلك، راح يتخبط في ظلام لا حدود له، فاضطر آله الكون أن يظهر نفسه ويوحي إلى أنبيائه بالشرائع التي تنظم الحياة وتعّرف الإنسانية بإله هذا الكون الذي لا يوجد سواه.

 

تنطلق الفلسفة من القول"أن العقل تطور بتطور الإنسان، فعندما كان العقل بدائياً كان الإنسان بدائياً أيضاً والعكس صحيح، وكلما نما الإنسان وتطور، نما عقله وتطور، ونقله من مرحلة إلى أخرى، من الحالة البدائية إلى الحالة الحضارية ومن الظلام إلى النور، وتدرج الإنسان وعقله في أكتشاف أسرار الكون وظواهره، إلى أن بلغ شأواً عظيماً في ذلك، فبنى الحضارات الواحدة تلو الأخرى، وتقدم في العلوم والفلسفة وها هو العقل يسعد الإنسان ويجعل حياته سهلة بفضل منجزاته.

 

يعترف الدين بالمنجزات المادية والحضارية والتكنولوجية للعقل، إلا أنه يعتبره ناقصاً وغير كامل في مواجهته مع الأمور الأدبية والأخلاقية وحتى في فهم الأسرار الإلهية، فهو بحاجة إلى مساعدة من الوحي وإلى نور إلهي سماوي يضيء له الطريق في هذه المسائل والأمور، لأنه عاجز لوحده عن فهمها.

 

تعترض الفلسفة على مقولة الدين عن "قصور العقل" وتقول: صحيح أنها لا تقر باكتماله ونضجه بل بتطوره رويداً رويداً إلى تدبير شؤون الإنسان الأدبية والأخلاقية. فالأنظمة العقلانية التي أنشأها الإنسان منذ فجر التاريخ، كانت كفيلة بأن تدبر شؤون عالمه ودنياه، وقد نظم العقل قضايا الإنسان الأخلاقية أيضاً، فهناك منظومة أخلاقية مبينه على العقل تحسب الحقوق والواجبات وتنظمها في قوانين أثبت فاعليتها في إدارة حياة الافراد والجماعات. فالنظام العلماني الذي اخترعه العقل هو منظم لحياة الأفراد والجماعات ولاخلاقيتهم، ووثيقة حقوق الإنسان منظومة عقلانية أخلاقية مقبولة من مختلف طبقات وأفراد المجتمعات الإنسانية.

 

يجيب الدين بالقول أنه لو لم يؤسس لهذه المنظومات لما كان بمقدور( العقل) الوصول اليها، فالدين هو الذي اعترف بحقوق الفرد وهو الذي أعطى الإنسان قيمة (أمام الخلائق الاخرى) لأن الله اصطفاه بين كل المخلوقات وصنعه على صورته ومثاله، وأعطاه العقل والنفس الخالدة والإرادة الحرة ليختار ما يشاء وما يناسبه.

 

تعترض الفلسفة وتقول أن قيمة الإنسان تأتي من عقله وذكائه الإنساني، فلولا هذا العقل واستعماله لهذا الذكاء لما تفوق الإنسان على الحيوان وتميز عنه في بناء علمه وحضارته وتدبير شؤون عالمه. أما القول بأن للإنسان قيمة لأن له نفس خالدة- فهذا مفهوم ميتافيزيقي- لا يخضع للبرهان العقلي. أما حرية الاختيار لدى الإنسان فتأتي من كونه عاقلاً، فلو لم يكن عاقلاً لما استطاع الاختيار وتمييز الصحيح من الخطأ.فلا حرية دون عقل، ولا عقل دون حرية، فالحرية ملازمه للعقل والعقل ملازم للحرية بالضرورة.

 

أما ان العقل كان قاصراً تاريخياً عن رؤية صالح الإنسان، فهذا الأمر نسبي، فما هو صالح في زمان ومكان معين، يختلف عما هو صالح في زمان ومكان آخرين، والعقل كان قادراً على التمييز والتأقلم مع المتغيرات.

 

يخاف الدين من أن يمجّد العقل والذكاء الإنساني إلى حدّ تأليهه من قبل الفلسفة، فهذا العقل المسؤول عن الحضارة، مسؤول عن تدميرها ايضاً، وهذا العقل الذي نشر مبادئ التنوير في القرن الثامن عشر منطلقاً من أوروبا، هو نفس العقل الذي برر استعمار ونهب ثروات الشعوب الأخرى. وهذا العقل الذي اكتشف دواءً للقضاء على شلل الأطفال، هو نفس العقل الذي فجر الذرة ودمر وقتل مئات بل ملايين الناس من خلال الأسلحة الكيماوية والجرثومية والهيدروجينية، لذا تجيب الفلسفة أن الأديان كانت مسؤولة عن إراقة دماء كثيرة ومازالت، وأن الأديان ناقضت كل ما وصلت إليه فلسفة الأنوار، فقد رفضت فلسفة الأنوار في القرن الثامن عشر الشعوذة والسحر والتعصب والطغيان والاستبداد السياسي. وأنهت تسلط الدين على الدولة. ووسعت حرية التفكير والتعبير، وأعلنت المساواة في الحقوق. واعتبرت أن كل قانون تعاقدي، وطمحت إلى سيادة العقل. فالعقل قابل لمراجعة نفسه ونقد ذاته، بعكس الدين في هذا المضمار، فالعقل يعرف ويعترف عندما يخطئ أو يصيب، يكفي الفلسفة مثلاً، هجوم نيتشه على العقل الغربي وتحطيم جورج لوكاش لهذا العقل، كما تكفي فلسفة ما بعد الحداثة التي حاكمت ذاك العقل التنويري. الجميل في الموضوع أن العقل يملك في داخله ديناميكية نقدية وتصحيحية يجرب ويفشل فيحدد فشله ويبدأ من جديد، ويعترف بأخطائه المتراكمة ويصححها واحدة تلو الأخرى. فإذا أتيته بالبرهان القاطع يصحح نفسه لا محاله.

 

تخاف فلسفة الدين من تأليه العقل من جهة، ومن تجميد الشرائع الأدبية من جهة أخرى، فالإنسان في تطور مستمر وكذلك عقله وشرائعه وقوانييه وهو كيان تاريخي عليه أن يتأقلم مع محيطه الذي هو العالم الذي يعيش فيه، بما فيه من ظروف مادية واجتماعية وسياسية وأدبية...الخ.

 

كما تنبهه فلسفة الدين إلى قوى أخرى في الإنسان بحاجة إلى اهتمام وإلى اشباع، كقوة الوجدان والعاطفة والشعور وللاشعور .

 

فالإنسان ليس آلة متحركة كما أنه ليس محروماً من الوعي العقلي والوجداني والعاطفي، فإذا تعاون كل من الدين والفلسفة والعلم في فهمه وفي إشباع رغباته المادية والروحية وإيصاله إلى مرحلة الوعي والاختيار مع توفر الحرية، كان هو المسؤول عن ذاته وعن خياراته دون إملاء ودون فرض من سلطه أخرى.

 

 

· عضو الجمعية الفلسفية الأردنية وأستاذ الفلسفة في الجامعة الأردنية حاصل على دكتوراه في اللاهوت من جامعة اللاتران بإيطاليا، دكتوراه في الفلسفة من جامعة كليرمونت في كاليفورنيا دكتوراه في الفلسفة من جامعة الكسليك في لبنان

أضف تعليقك