الصوفية والتفكيكية: هل قرأ دريدا ابن عربي ؟

الصوفية والتفكيكية: هل قرأ دريدا ابن عربي ؟
الرابط المختصر

في مناسبات عديدة رفض دريدا نفسه أن يمنحنا تعريفا دقيقا للتفكيكية التي بشر بها. وعلى الرغم من ذلك فإن أبسط الطرق لمقاربتها هو البحث عن الافتراضات التي تقوم عليها. إذ خلافا لما يعتقده البعض, فإن التفكيكية ليست وسيلة أو تقنية أخرى لقراءة النص كما أنها ليست أدآة مفاهيمية تمكننا من فك مغاليقه. تقوم التفكيكية على عدة فرضيات حول اللغة والواقع وما الذي يمكن أن يحدث حال تقاطعهما. أما المعطى الحقيقي للتفكيكية فهو أنها مكنتنا من فهم كيف تراوغ اللغة أيَّ صيغ أو تشكيلات سهلة, وتأثير ذلك على البشرية وعلى معتقداتها. وبهذا المعنى فإن التفكيكية ليست فلسفة، ولكنها حدس أو تبصر بحقيقة ما تم تركيبه باللغة في صورة نصوص سواء كانت شعراً، أو روايات، أو فلسفات، أو خطب، أو تصريحات سياسية، أو تاريخ .....الخ . وعلينا أن نتذكر أن دريدا قد صاغ تفكيكيته في إطار ما بعد البنيوية وتبعا لذلك فإن العلامات لا تمتلك معنى وظيفياً إلا ضمن شبكة من العلاقات الثنائية مع علامات أخرى. أي أن العلامات لا تمتلك معنى لأنها تطابق شيئا واقعياً أو جوهرياً، ولكن لأنها تنشأ ضمن شبكة من الثنائيات المتقابلة، والمتضادة والمختلفة التي تشكل في النهاية اللغة. والأهم من ذلك هو أن مبدأ الثنائيات المتضادة هذا لا يقتصر على الكلمات في اللغة، ولكنه ينسحب إلى مفاهيم مركزية في فكر الإنسان مثل الحقيقة، والضلال، والخير، والشر، والجمال، والقبح.....الخ. إن أهم مخرجات هذا التحليل هو ما أطلق عليه دريدا التمركز العقلي logo-centrism أو التمركز حول اللوغوس. بمعنى أن كل المعرفة الحقيقية متجذرة في دال متعال موجود في الأساس خارج /وما وراء الثنائيات المتعارضة التي تتضمن هذه العلامات. هذا الدال المتعال يمكن أن يكون الله ,أو فكرة, أو الذات, أو الروح, أو الكينونة. إنه أساس كل فكر، وثقافة، و لغة، وأساس كل الأحكام القيمية في العالم بلا منازع. كما أنه أيضا أساس الثنائيات المتضادة التي تتركب من خلالها الحقيقة، وبمعنى أوسع فإن هذه الثنائيات تضم متضادات رئيسية من مثل الخير/ الشر، الروحية/ المادية، الإلوهية/ البشرية، المعقول/ اللامعقول وهلم جرا. كما أن لكل هذه المتقابلات نظام هيكلي يقذف بكل الدونيات نحو الهامش بحيث لا تعرض إلا بوصفها ملاحق أو تكملات غير أساسية، هذا الهامش وتلك الزوائد هي اهتمامات التفكيكيين.

 

إن التفكيكية هي برنامج نقدي إن جاز التعبير لتفكيك الطبقات الخفية من المعاني في النص (وبالنسبة لدريدا فإن كل شيء هو نص: القصة نص، القصيدة نص، الكتاب الفلسفي نص، اللوحة نص، المبنى المعماري نص ...) ، وإظهار احتماليتها المطلقة واعتباطيتها. كما أنه يهدف إلى هدم تحيزات التمركز الكلامي في النص من خلال حل المعارضات الثنائية التي يقوم عليها. وفي النهاية، فإن كل نص يقوض افتراضاته الخاصة، ويعترف بعدم قدرته على إنتاج مصداقيته الذاتية. يرفض التفكيك أي منظور يزعم أننا نستطيع فهم وتمثيل الحقيقة والنتيجة هي الاعتقاد بأن اللغة تحدد أو تعرّف الحقيقة ولكنها لا تمثلها. وأن خبرتنا عن الحقيقة هي نتيجة اللغة (لا مانعَ من استخدامِ لغةٍ توحي بما لا تقصُدُه..), وأن أي محاولة لتحديد معنى النص تُقوض بوساطة منطقه الذاتي, وتناقضاته, وميوعته, وتشظي المعنى والاختلاف:

إنها فلسفة المثالية اللغوية linguistic idealism, التي تقول أننا نخلق العالم الذي نعيش فيه بتوظيف لغة تابعة للعقل وللتصنيفات الاجتماعية. وتكمن الصعوبة في كيف يمكن أن نُعطي شكلاً حرفياً لهذه الرؤية بحيث لا تتعارض مع حقيقة أننا (نحنُ الذينَ علينا لا تصحُّ قواعدُ اللغةْ... ), اللغة التي أصبحت في فكر ما بعد الحداثة نظام غير مستقر للمرجعيات , بدلا من كونها نموذجاً مضبوطاً للمعنى.

 

وفي اللحظة التي نعتقد فيها أننا قد ارتطمنا بمعنى النص، فإننا ملزمين بمواجهة نتيجة ما قمنا به, لأن حصيلة تفكيكنا تحمل دائماً خطر بناء النص من جديد. ولا سبيل للخروج من هذا (التفاعل اللانهائي بين الدلالات). كل ما علينا هو الاعتراف بها وربما أن نتعلم بصبر وتواضع إعادة القراءة ، والتفكيك والتركيب من جديد .

 

هكذا يشارك دريدا الشيخ العارف ابن عربي الوعي بحجم الانحرافات والضلالات التي يمكن أن تكون عليها التمثيلات. فليس من المستغرب، إذن، أن كلا المفكرين يتحدثان عن الميتافيزيقيا في سياق السلاسل و 'العقد' ومحاولاتهما فك تلك العقد. وليس مستغرباً أيضاً أن يرى الاثنان في حالة الحيرة إمكانية لمعرفة أصدق وأكثر حقيقية. كما أنهما يعتقدان بأن النصوص تحمل عدد لا نهائي من المعاني، ويشتركان أيضاً في مفهومهما عن الذات (أو في الحقيقة كل الهويات الذاتية المستقلة ) باعتبارها متجذرة في هاوية... هذا المخزون المشترك من الأفكار والاستعارات أبعد ما يكون عن التشابه السطحي بين الفيلسوفين اللذين تفصلهما سبعة قرون أو يزيد ، ولكنها ببساطة تبعات تشكيك في العلاقة بين الفكر العقلاني والميتافيزيقي.

 

أما النقطة الثانية التي تربط الشيخ الصوفي بالفيلسوف الفرنسي فهي أنه عند بناء نظام افتراضي قادر في النهاية على الحديث عما هو غير معروف أو بلا تعريف من خلال توظيف الأسماء والكيانات وضع ابن عربي " الله " أو اللاهوت " خلف هذا النظام , في حين أن دريدا أطلق عليه «سو راتير sous rature» الفرنسية (بالإنجليزية: أندر إريشر under erasure) «تحت الممحاة» : الكلمة التي نظن أنها مُحيت وزالت تترك وراءها أثراً لا يزول ويمارس وظيفته أو آثاراً من وظيفته.

 

يقلقنا دريدا, وابن عربي حين يجعلاننا  نفكر مرتين في كل الأمور التي كانت بالنسبة لنا مسلمات، بل أنهم ينبهاننا إلى أن الثقة المفرطة التي نخدع بها أنفسنا حين نتحدث عن (الحقائق) التي لم نستجوبها قط. كما أنهما يثيران في أعماقنا احتمالات أن كل ما شعرنا بصدقه يوما عن الحقيقة، أو الأدب، أو التاريخ، أو الدين ربما كان في غير سياقاته الحقيقية أو أنها تشكلت من معتقداتنا وخبراتنا بدلا من كونها تجسد الأشياء نفسها.

 

ترى التفكيكية أيضا أن الذات مكونة من علامات لا معنى لها إلا بنسبتها الى علامات أخرى. وتشكل العلامات التي هي بدورها تراكيب اجتماعية. وعلى الرغم من أن الذاتية تتكون من خلال إنتاج العلامات, إلا أن الذات ليست حرة حتى تُكوِّن من هذه العلامات ما ترغبه أو تريده, بمعنى أنه لا يوجد ذات موحدة ثابتة ومستقرة تتحكم في تدفق الدلالات حسب ما تريد, ولكنها تجد نفسها في شرك شبكة من المعاني لم تخلقها. وفي النهاية فإن المجتمع من يفرض علينا هويتنا، التي لا تتمتع بأي استقلالية أو اختيار. وعليه فإن اختلاف المجتمع قد يفرض هوية مختلفة. بل و ربما جنسا مختلقاً.

 

في السياق ذاته فان  مسألة الأنوثة عند ابن عربي تتخذ طابعا معرفيًّا بشكلٍ واضحٍ وصريح؛ فيخترق الأزواج المفاهيمية على المستوى الأنطولوجي والأنتربولوجي، والمعرفي واللغوي… فـ " الأنثى " كمفهوم هي نقطة محرقيه لاستقطاب التجليات الإلهية كونها تمثل البعد المنفعل في تلقي الأنوار الإلهية.

 

لا يكف خطاب ابن عربي عن الاحتفال بالأنوثة( le féminin ) بحضوره الباذخ و بهائه اللامع ، وبحشمته المضيئة وعتمته الواعدة، وسريته الكاشفة، من داخل صونها المحير، ماهيته الأسرار كلها. والاعتراف "بالأنوثة والذكورة " كقطبية تميز الوجود، هو في ذاته إعادة النظر في مبادئ الفكر "العقلاني" ( مبدأ الهوية، الخلق ….) لذلك عمد ابن عربي لاعتماد مبادئ منها (التثليث، الحب، الرؤية …) الأمر الذي سمح له بمرونة تقبل القضية ونقيضها، فتتعدد الدلالات المتعلقة بنفس الموجود و تتقابل لتثير حيرة الفكر، هذه الحيرة التي يعتبرها عين الصواب وهي الطريق لمعرفة الكون نظرًا للطابع الخيالي الذي يتسم بها.

 

فالهوية عنده في تفتّح مستمر ومتواصل فالذات حركة دائمة في تجاه الآخر. ولكي تبلغ الذات الآخر لابد من أن تتجاوز نفسها، أو لنقل : لا تسافر الذات في اتجاه كينونتها العميقة، إلا بقدر ما تسافر في اتجاه الآخر وكينونته العميقة. "ففي الآخر تجد الذات حضورها الأكمل. الأنا هي، على نحو مفارق اللا أنا. والهوية، في هذا المنظور، هي كمثل الحب - تخلق باستمرار .

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

 

1-  أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2-  الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني

 

أضف تعليقك