السلطة ورهان الإصلاح في فكر الماوردي

سيكون على الباحث في الفكر السياسي الإسلامي أن ينتبه إلى المكانة الشرفية التي تبوأها الخطاب الفقهي في مجال السياسة، إذ يمكن القول،دون كبير مجازفةٍ، إن الخطاب الفقهي استطاع أن يحتكر، إلى حدٍ بعيدٍ، النظرَ في فكرة السياسة وما يحوم في فلكها من مفاهيم غالبًا ما عبرت عن وعيٍ شقيٍ بالراهن السياسي، كمفهوم الدولة والسلطة والملك والحكم والعدل. ولعل ما يظهر هذا الحضور البارز لفقه الدولة في الثقافة الإسلامية اتصالُه الفريدُ بسؤال المشروعية الدينية التي مثلت رأسمالٍ رمزي من دونه لا يستقيم استئثار الدولة بالحكم. وهي ملاحظةٌ لا تُقال فقط عن اللحظات التأسيسية للدول المتعاقبة على الملك، بل إن الحاجة إلى خطابٍ مُشَرْعِنٍ غالباً ما نشأت في رحم لحظات الأزمة التي مافتئت تهز كيان الإمبراطورية الإسلامية، والعباسية منها تحديداً، خاصة بعد أيلولتها إلى وضعٍ من التمزق والتفتت[1]. يدرك المهتمون بتاريخ الفكر السياسي الإسلامي أن إمداد السلطة بالمشروعية الدينية ظل حكراً على خطاب فقه الدولة، الذي كان عليه أن يفرض نفسه في حقلٍ فكريٍ نافستْه على احتكارِه ضروبٌ أخرى من القول السياسي، من قبيل الفلسفة السياسية وعلم الكلام والآداب السلطانية ومرايا الأمراء.

لقد حاول الفقهاء التأسيسَ لخطابٍ سياسيٍ من خلال تجميع شذراته المتناثرة في المدونات الفقهية الكبرى، ثم باشتقاق أحكامه الشرعية منها ثانيًا، والانفتاح على أفق آداب النصيحة في مرحلة أخرى، فكان من نتائج ذلك أن ضمنوا تشريعاتهم وآراءهم تصورًا مبطنًا للسلطة والسياسة يمكن أن يكون مكمن استفادة للبحث عن تصورهم لفكرة الإصلاح كذلك. ولعل الماوردي، وهو الفقيه المقتدر الذي خبر طبيعة السياسة ومحنة الخلافة، يبقى الأنموذج الأظهر في هذا المقام.

مثلت آمال هذا الفقيه لحظةً مفصليةً في مسار تشكل الفقه السياسي. فعلاوةً على أنه كان في جملة من أسسوا لأنموذجِ كتابةٍ فريدةٍ في الفقه السياسي كان مدارهُ على الأحكام السلطانية[2]، فإنه استطاع أن ينقل إشكالية الدولة والمُلك من مستواها الكلامي[3]، إلى مستواها الفقهي العملي، ليجد لها أصولها الفقهية التي ترتفع بها إلى مستوى القضايا المُؤسِسة للمذهب الفقهي[4]. ومن المؤكد أنه كان لحالة الوهن التي تخبطتْ فيها الخلافة سهمها البارز في إقدامه على هذا العمل؛ إذ إننا أمام خطابٍ خرج من جوف أزمةٍ سياسيةٍ خانقة، وراهن في الآن ذاته على بناء مشروعٍ إصلاحيٍ من شأنه أن يُنقذ ما تبقى من الخلاقة المتآكلة. وقد اقتضى منه ذلك التحرك على جبهاتٍ فكريةٍ متعددةٍ جعلتْهُ يتنقل بسلاسةٍ عز نظيرها من الفقه إلى آداب النصيحة، ومن النوازل القضائية إلى الأحكام السلطانية، لينتهي به المطاف إلى إنشاء نمطٍ فريدٍ من الكتابة الفقهية السياسية، تُوائم بين نَفَسِ النصيحة والفقه. وهو ما نقرأ فيه تعبيراً عن الحاجة إلى فعالية النصيحة وقدرتها على ترشيد العمل السياسي، خاصةً إن هي وُصلتْ بمقدماتٍ فقهيةٍ صارمة، كتلك التي أقام عليها فقيهنا تصوره لهندسة دولة الخلافة في كتابه العُمدة؛ الأحكام السلطانية .

مَثل هذا الأخير الخلفية النظرية المسوغة لسياسة الإصلاح السني على حد تعبير رضوان السيد[5]، بيد أنه لم يكن النص الوحيد الذي تضمن ملامح فكر الإصلاح في متنه. ولعل مرد ذلك إلى أن الإصلاح بالنسبة إلى هذا المفكر لم يكن ينحصر في التقعيد للمؤسسات المشروعة التي ترتفع بالخلافة إلى مستوى الدولة القوية على نحو ما قام به هو نفسه في كتاب الأحكام، بل إن ذلك لا يتحقق إلا بإعادة النظر في مفهوم السلطة باعتبارها علاقةً جدليةً ديناميةَ بين الحاكم والمحكوم، يُحركها هاجسُ انتزاع الاعتراف بحيازة كل طرفٍ قدراً من السلطة يمكنه من الصيرورة جهةً محددةً لمسار الحياة السياسية، أي لطبيعة المُلك. إن ما نروم الوقوف عنده في هذا المقال هو تحديداً تصور صاحب نصيحة الملوك لماهية السلطة باعتبارها مدخلاً لفكرة الإصلاح، وذلك في ضوء تعليقٍ للأحكام النمطية التي نُسجتْ حول متنه السياسي، والتي غالباً ما تسرعت في المُمَاهاة بين نصائحه وتلك التي نضحتْ بها كتبُ النصيحة التي كانت تعج بها الساحة الثقافية والسياسية في ذلك الحين، إذ يبدو أن الفقيه الأشعري كان على بينةٍ من البوْن الذي يجعل الفجوةَ بين مواقفه ومواقف كتاب الآداب السلطانية غير قابلةٍ للجسر، وذلك بحكم صدروه عن تمثل للسلطة غير الذي حكم تصورهم الخاص للدولة والسياسة بصفة عامة. كيف تمثل الماوردي فكرة الإصلاح؟ وما علاقة ذلك بفهمه لطبيعة السلطة السياسية؟ وهل يمكن القول إننا أمام مجاوزة فعلية للأفق الذي تحرك فيه العقل السياسي الفقهي لحظتئذٍ؟

أولاً؛ في أسباب الفساد:

كانت فكرة فساد النظام السياسي سليلة وضعية الوهن التي من جوفها خرجت كتابات الماوردي ومعاصريه[6]، وهو ما يوضح لنا سر غيابها عن مُؤَلفٍ سابق لهم كذلك الذي عقده أبو يوسف في الخراج[7] بحكم معاصرته لأوج الخلافة العباسية زمن هارون الرشيد. والقارئ في نصيحة الملوك يدرك أنه أمام نصٍ يحاول عقل مظاهر الفساد التي في تربتها أينع، وقد خصص الماوردي الفصل الثالث منه للنظر في أسباب فساد المُلك، خاصةً ما تعلق منها باختلال قاعدته الدينية[8]، الأمر الذي يشي بأن الرجل كان على وعي بإمكانية تفادي حالة الفساد من خلال التقعيد الجيد للمُلك، وهو ما بسط القول فيه في تسهيل النظر. بيد أن هذا الاعتقاد سرعان ما يتزعزع عندما نلتفت إلى تصور الماوردي للتاريخ من حيث هو تعاقبٌ للدول يقوم على مقتضى حتمية فسادها، مما يُفرغ فكرة الإصلاح من مضمونها تحت وطأة تلك الحتمية. نقرأ له في هذا السياق قوله[9]؛ "واعلم أن الدولة تبتدئ بخشونة الطباع، وشدة البطش لتُسرع النفوس إلى بذل الطاعة. ثم تتوسط بالليْن والاستقامة لاستقرار المُلك وحصول الدَعَة. ثم تختم بانتشار الجور وشدة الضعف لانتقاض الأمر، وقلة الحزم. وبحسب هذه الأحوال الثلاثة يكون ملوكها في الآراء والطباع. وقد شبه المتقدمون الدولة بالثمرة؛ فإنها تبدو حسنة الملمس، مرة الطعم، ثم تدرك فتلين وتستطاب، ثم تنضج فتكون للفساد والاستحالة. وكما تبتدئ الدولة بالقوة وتختم بالضعف، كذلك تبتدئ بالوفاء وتختم بالغدر، لأن الوفاء مُشيِد والغدر مُشرِد". يحسن بنا أن ننتبه أولاً إلى إقرار النص بحتمية فساد الدولة، إذ ينم تشبيه مسار حياتها بمسار نضج الثمرة عن مثل هذه القناعة. فكما أن فساد الثمرة يكون بعد نضجها، كذلك فساد الدولة يأتي تعبيراً عن انتشار الجور في ثناياها. ولعل ما يسترعي الاهتمام في هذا النص أن الماوردي، ورغم عدم إقراره بأن العدل يشكل أساس الدولة عند قيامها، بل اكتفى بربط ذلك بالبطش واليد القاهرة، فإنه عدّ الجور من علامات فساد الدولة، وهو ما يعني أن العدل لا يمثل مطلبًا لتأسيس الملك، بل إنه لا يصير كذلك إلا في اللحظة الموالية؛ أي عند استقراره وحصول الدَعَة، لذلك فإن الفساد يصير في هذا المقام كنايةً عن اختلال هذا الاستقرار الذي يدل عليه انتشار الجور.

ويجب أن ننتبه ثانياً، إلى أن الماوردي لا يكاد يشير في هذا النص إلى إمكانية إصلاح الدولة بعد أن يدب الفساد في أَوْصالها. وهو ما يحمل على الاعتقاد بأنه لم يكن مقتنعًا بجدوى إنقاذ الدولة ما دام أن أيلولتها إلى الفساد تبقى سُنَةً طبيعيةً لا مجال لدرئها[10]. لذلك يُطْرح السؤال عن الدور المتاح أمام الفعل الإنساني في توجيه مسار الدولة، أي عن دوره في الزمن والتاريخ. إذ الملاحظ أن الماوردي لم ينته إلى موقفٍ حتميٍ في تمثله للتاريخ كالذي انتهى إليه ابن خلدون، مادام أن من شأن هذا الموقف أن يقود إلى نفي إمكانية الإصلاح، خاصةً عندما تكون أسباب الفساد من فعل الزمان على حد تعبير الفقيه الأشعري. لذلك وجدناه يعد فساد الزمان من "أشد ما يمنى به الملك"[11]. لكنه كان مقتنعًا، في مقابل ذلك، بقدرة الملك على الفعل والتصرف، مادام أن "للملك فنوناً لا تُرتقب، وللزمان حوادثٌ لا تُحتسب"[12]. إن هذا الوعي بالحاجة إلى الفعل الإنساني هو ما يفسر إصرار الماوردي على التمييز في أسباب فساد الملك بين الإلهية والإنسانية، متجنبًا بذلك السقوط في موقف جبري يقطع الطريق أمام إمكانية الإصلاح، مادام أن الأمر يتعلق بفعلٍ إنسانيٍ لا بقدرٍ إلهي. نقرأ له في هذا السياق قوله[13]؛ "وأشد ما يُمنى به المَلك في سياسة مُلكه شيئان؛ أحدهما أن يفسد عليه الزمان. والثاني أن يتغير عليه الأعوان. فأما فساد الزمان فنوعان؛ نوعٌ حدث عن أسبابٍ إلهيةٍ، ونوعٌ حدث عن عوارض بشرية"[14]. يهمنا هذا القول من جهة دلالته على دور الإنسان في فساد الزمان، بحيث يُمكن أن يُفهم بأنه دورٌ في إصلاحه كذلك. من هنا تنبع فكرة تأسيس المُلك باعتبارها ضمانةً لتجنب فساده، إذ يمكن القول إن من بين ما سعى إليه هذا الفقيه هو بيان إمكانية إقامة الملك على أسسٍ متينةٍ تحول دون سقوطه في لحظة الفساد، وهو ما يسميه "استقرار قواعد المُلك على التأسيس" في مقابل استقراره على السياسة التي تشكل مرحلةً لاحقةً على لحظة التأسيس[15]. ومن المؤكد أن لفكرة الإمكان دوراً في هذا الموقف المنفتح على الإصلاح، بحكم أنها أسعفت المذهب الأشعري بتكسير قاعدة الضرورة التي من شأنها أن تجعل التفكير في الإصلاح أمراً مستعصياً[16].

نستفيد مما تقدم أن تأسيس الملك يمثل بالنسبة إلى الماوردي مقدمةً ضروريةً لكل حديثٍ عن إصلاحه، إذ يتعلق الأمر "بتثبيت أوائله ومبادئه"[17]، وقد ميز في تأسيسه بين ضرورب ثلاثة هي؛ تأسيس دين، وتأسيس قوة، وتأسيس مال وثروة[18]. تضعنا هذه القسمة الثلاثية أمام اختياراتٍ متباينةٍ ترومُ كلُها الإجابةَ عن سؤال المشروعية الذي ظل يؤرق الدولة في الإسلام. لذلك لا يجب أن نعتقد أن الفقيه الأشعري ينتصر لتأسيس الدين استجابةً لموقفٍ إيمانيٍ متعالٍ أو قبلي، بل إن المسألة تتعلق بتفكيٍر في وجوه المشروعية التي يمكن أن تقوم عليها سلطةُ الدولة في ظرفية اتسمت بأزمة ضربت أساسها. فعندما يتحدث الماوردي عن ضروب التأسيس تلك فإنه يشير إلى وجوه المشروعية الممكنة لحظتئذٍ، والتي كانت تفرضها وضعية تفتت الخلافة وظهور الإمارات المستولية والمستبدة بحُكم القوة والنفوذ. غير أنه يشدد على أهمية تأسيس الدين باعتباره ضمانةً فعليةً للمُلك، وهو بموقفه هذا يحاول إعادة الاعتبار لمؤسسة الخلافة التي تحتكر وحدها المشروعية الدينية، في مقابل مشروعية القوة والمال التي كانت بحوزة الأمراء المستولين على الحكم والمنافسين للخليفة. ويؤكد الماوردي على مجافاة تأسيس المال والقوة لروح الدولة الشرعية، باعتبار أنهما يقودان إلى نمطٍ في الحكم غير شرعي يعتمد القوة والقهر والبطش بالرعايا، وهو ما نقرأ فيه اعترافاً جهيراً بازدواجية مصادر المشروعية وانشطارها من جهة، وتفشياً لاحتكار السلطة بالغلبة والمال بدلاً من الشرع والدين من جهة أخرى. لم ينته الماوردي إلى الاعتراف بمشروعية هذا الواقع، بل حاول مقاومته حتى إن اقتضى منه الأمر إضفاء المشروعية الدينية عليه في بعض الأحيان. لذلك لم يألُ به قوله هذا إلى مآب ابن خلدون الذي اكتفى بملاحظة احتضار الدولة والاعتراف بأن التغلب والعصبية هما المنبع الذي تتدفق منه المشروعية الواقعية للسلطة[19]. إذ يثبت، ضداً على ذلك، إمكانية استثمار الشرعية الدينية في إقامة نمطٍ من السلطة يسوده العدل والاستقرار، في إشارة منه إلى جعل المرجعية الدينية سبيلاً لمقاومة استبداد المال والثورة والتغلب. لذلك يربط الماوردي هذا التأسيس بضرورة سيادة العدل أثناء سياسة الملك؛ ولعل السبب في ذلك إدراكه أن الدين من شأنه أن يصير حاملاً إيديولوجيًا لكل دعوة معارضة. الأمر الذي يفسر تمسكه بضرورة عناية الحاكم بالشأن الديني، خاصة ما تعلق منه بتوحيد الآراء المتضاربة حول الملة[20]، هذا رغم وعيه بأن اختلافها أمرٌ طبيعيٌ لا مجال لدرئه[21]، وهو ما يشي بأنه فطن إلى زئبقية وفعالية الدين وسهولة تحوله إلى رأسمال رمزي يمكن توظيفه لبث الخلل في أساس الملك[22].

ثانياً؛ السلطة مدخلَ إصلاحٍ:

1- حمل التفكيرُ في إصلاح أحوال الخلافة الماوردي على التقعيد لمشروعه ذاك في مستويين اثنين؛ ارتبط أولهما ببلورة رؤيةٍ أنموذج لدولة الخلافة من خلال التأسيس لوجوهها المؤسساتية المشروعة، في حين انصرف في المستوى الثاني إلى إبراز أنموذج السلطة الواجب اتباعه من أجل ضمان استقرار الملك الذي يكون العدل من أبرز سماته. بذلك ينتقل فقيهنا من لحظة التأسيس للملك إلى لحظة سياسته التي في أعقابها يكشف فقيهنا عن تصوره للسلطة من حيث هي علاقة جدلية بين مختلف مكونات منظومة الملك. مما يعني أنه يقدم فَهْماً تركيبياً للُعبة السلطة، يكون فيها استقرارُ المُلك نتيجة تفاعل مجموعةٍ من العناصر المقتسمة للسلطة المنظمة له. وهو ما يأذن لنا بالقول إن فقيهنا ينأى بنفسه عن التصورات "الاستبدادية"[23] التي يكون فيها المُلك مختزلاً في المَلِك أو الحاكم وخاضعاً لإرادته المطلقة، ولعل ما أسعفه بذلك رؤيته إلى السلطة بحسبانها نتيجة تفاعل المَلِك مع مكوناتٍ أربعةٍ أساسيةٍ في نظره؛ عمارة البلدان، وحراسة الرعية، وتدبير الجند، وتقدير الأموال[24]. ولا يمكن ضمان الاستقرار السياسي من دون خلق نوعٍ من التوازن بين هذه المكونات التي تتبوأ، عند هذا الفقيه، مكانة مراكزِ الثقلِ التي تحدد طبيعة توزيع السلطة بين مختلف مكونات المنظومة الدولتية والسياسية. يمكن الاعتراض على هذا الاستنتاج بالقول إن الماوردي لا يتجاوز في تصوره هذا الأفق الذي تحرك فيه كتاب الآداب السلطانية، إذ إن معظمهم ركز على علاقة الملك بالرعية والخاصة والجند وتدبير بيت المال[25]. ولعل الحامل على هذا الاعتراض أن صاحب الأحكام السلطانية يُساحل، بتمثله هذا، تصور أولئك الكتاب الذين انتبهوا إلى علاقة الحاكم بعناصر الملك تلك[26]. بيد أن ما يمتاز به تصور الماوردي هو قدرته على زحزحة مركزية الملك في تمثله للعبة توزيع السلطة رغم وعيه بأن قيمة عناصر الملك لا تتحدد إلا في ضوء علاقتها بالمَلِك بما هو تعبير عن وحدة السلطة ومركزيتها. إذ يدرك أن التدبير الجيد للحكم يقتضي إخضاع السلطة لمقتضيات العدل الذي يستلزم الاتصال الدائم بالمقدمات الدينية المُؤسِسَة للمُلك. لذلك يقر الماوردي بأن[27] "السعيد من وقى الدين بمُلكه، ولم يوق المُلك بدينه؛ فأحيا السنة بعدله، ولم يُمتها بجورْه، وحرس الرعية بتدبيره، ولم يُضِعْها بتدميره؛ ليكون لقواعد مُلكه مُوَطداً، ولأساس دولته مشيداً".

ما الذي يعنيه هنا الربط بين إحياء السنة والعدل من جهةٍ، وإماتتها والجَوْر من جهةٍ ثانيةٍ؟ يعني ذلك أولاً، أن الماوردي ما يزال متمسكاً بالمشروع السني باعتباره قاعدةً لكل إصلاحٍ ممكنٍ. إذ يبدو، من أول وهلةٍ، أن العدل لا يعني في هذا النطاق سوى تطبيق السنة وإخضاع الراهن السياسي لمقتضياتها، الأمر الذي يشي بأن الجور هو الخروج عنها إلى واقعٍ آخرَ غير مقبولٍ من منظور العقل السني. لذلك قد يعتقد البعض أن كل ما يسعى إليه الماوردي هو إقامة مدينة الشرع "الفاضلة" التي لا وجود لها في زمانه خاصةً. لكن الانتباه إلى إقحام عنصر الرعية سيحملنا على القول إن الفقيه الأشعري يدرك العدل والجور كعلاقةٍ بالرعية تستقيم على مقتضى مقولات الشرع. وهو ما يُفقد الشرع والعدلَ بعدهما المتعالي والقبلي ليزج بهما في جدلية الحق والواجب الجامعة بين الملك والرعية[28]. والملاحظة عينها يمكن أن تقال عن تمثله لعلاقة الملك بالجند وتدبير بيت المال[29] والأرض. لذلك وجب الاحتراز في فهم كلمة العدل التي سرعان ما تتلون بطبيعة الخطاب الذي ترد فيه؛ فهي لا تعني في كتب الأحكام أكثر من تنزيل قواعد الشرع على الواقع، مثلما تعني العدالة توفر الصفات المعيارية الضرورية في الإمام. لكنها في كتب النصيحة تشير إلى جدلية العلاقة التي تربط بين مختلف مكونات المُلك، فتدفعنا إلى الوقوف عند تمثل الفقهاء لتلك العلاقة في مختلف مستوياتها عامة، وما تعلق منها بالرعية على وجه التحديد.

2- ولعله من النافل القولُ إن فكرة الرعية ظلت في جملة الهموم المركزية التي استبدت بمختلف قطاعات الفكر السياسي الإسلامي. إذ أتت تُعبر عن الوضع الذي يحتله المحكوم في علاقته بالحاكم. لم يجد فقهاء الإسلام صعوبةً في البحث للفكرة تلك عن أصولٍ في السنة النبوية[30] تلتمس لها المشروعية الدينية والتاريخية، الأمر الذي أضفى على المفهوم طابعاً من البداهة يكاد يبتلع القدر الهائل من الغموض الذي يسكنه[31]. يدرك الماوردي أن الأزمة التي تعصف بالسلطة تمس، في حيزٍ مهم منها، علاقة الملك بالرعية، وهو ما عبر عنه بالتنبيه إلى شعور الرعايا بالغبن إزاء السلطة القائمة، ذلك أنه "إذا لم يكن في سلطان الملك سرور لرعيته كان ملكه ظلماً"[32]. مما يأذن لنا بالقول إن مقبولية الدولة ومشروعية سلطتها يمكن أن تُقاس بشعور الرعية بالسرور أو بالغبن. فالمشروعية لم تعد مسألة تطبيقٍ وإنزالٍ حرفيين للشرع على الواقع فقط، بل غدت تعبر عن آثار ذلك في الحياة اليومية للأفراد. يمكن أن ننتبه إلى أن الحديث عن السرور هنا تم انطلاقاً من اعتباره شعورًا يتحقق داخل الدولة في علاقة معيشة مع السلطة، فهو حديث إذن عن موقف عام من الدولة؛ مما يعني أن إصلاح وضعيتها لا يمكنه أن يتم إلا من خلال تغيير هذا الشعور الذي يخامر الفرد كلما فكر في السلطة أو عاش تجربة معها. ويبدو أن الماوردي فطن إلى أن تحقيق ذلك يقتضي إعادة النظر في العلاقة التي يمكن أن تجمع بين الملك والرعية بحسبانهما طرفيْ معادلةِ السلطة.

كانت من علامات ذلك أن ارتفع الماوردي بتلك العلاقة إلى مستوى القاعدة المؤسسة لسياسة الملك. فوجدناه ينبه الملك إلى أن الرعية "أمانات الله التي استودعه حفظها، واسترعاه القيام بها"[33]. ما الذي يعنيه الاستيداع هنا؟ يمكن للبعض أن يحمل الكلمة على معناها الحرفي، فينتهي به الأمر إلى المطابقة بين موقف الماوردي وموقف مرايا الأمراء[34]. بيد أنه يتجاهل بذلك أن فقهاء السياسة كانوا يذكرون الملك بالرقابة الإلهية عليه بحثًا منهم عن ضمانةٍ لحماية المحكوم من بطشه، والاستيداع هنا يُفهم في ضوء التذكير بوصاية الشرع على الحاكم. ولعل تشبيه الماوردي علاقة الحاكم بالرعية بتلك التي تجمع اليتيم بولي أمره خير دليل على ذلك[35]؛ فكما أن ولي اليتيم "المندوب لكفالته، والقيم بمصالحه، يلزمه بحكم الاسترعاء والأمانة أن يُقَوِّم زَلَلـَهُ، ويُصلح خلله، ويَحفظ أمواله، ويثمر مواده" فكذلك مكانة الملك "من الرعية في الذب عنهم، والنظر لهم، والقيام بمصالحهم"[36]. ومن المؤكد أن لهذا التشبيه بُعدَهُ السلبي الذي يقر بقصور الرعية قياساً بالحاكم الذي يتبوأ فيه مكانة الوصي. بيد أن هذه العلاقة يجب أن تفهم من منظور غائي، أي بالنظر إلى الغاية التي ترومها، والتي عبر عنها الماوردي بحفظ الأموال والمصالح. إذ سرعان ما ينبه الحاكمَ إلى وجود علاقةٍ متبادلةٍ، دنيويةٍ هذه المرة، تحكمُ هذا النوع من المسؤولية، مادام أن "النفع بصلاح أحوالهم عائدٌ عليه، والضرر متعدٍ إليه، فلن توجد استقامة ملك فسدت فيه الرعية"[37]. تهمنا هذه الملاحظة لأننا نقرأ فيها تنبيهًا للحاكم إلى القوة الضاغطة التي تمتلكها الرعية إن هي أمست ضحية الجوْر. لذلك نجد الماوردي يشدد على خطورة أن يطال الفساد سيرة الملك في الرعية، خاصةً إن هي اتسمت بقوة الاستقامة، إذ من شأن ذلك أن يقود حتمًا إلى فقدان الملك[38].

وفي هذا المقام بالذات يقحم الماوردي مفهوم العدل بحسبانه الآلية الأضمن لتجنب مثل هذا الوضع المثخن بالفساد. بيد أن هذا المفهوم يتخذ في هذا السياق معنىً عاماً يكاد يتماهى مع جملة الحقوق التي للرعية على الحاكم، والتي حصرها الماوردي في عشرة بدت له أساسية لإقامة الملك[39]. وُيسعفنا تدقيق النظر في طبيعة هذه الحقوق بالانتباه إلى أنها محكومة بهاجسين اثنين؛ هاجس الشرعية الدينية المتمثل في إقامة الحدود والحقوق الإلهية على الرعية (الحقين السادس والسابع)، وهاجس الشرعية الدنيوية الذي يمتد ليشمل مصالح الرعية، من قبيل ضمان حق السلم، والملكية، والنصَفَة، وحفظ المياه والقناطر، وغير ذلك.

يحق للبعض أن يعترض على هذا التأويل، الذي ينأى بتصور الماوردي للسلطة عن التصورات الاستبدادية التي استتب لها الأمر في الثقافة الإسلامية، خاصةً إن هو تذكر أن هذا الفقيه لم يتردد في أن ينصح الملك بالحاجة إلى الرهبة في التعامل مع الرعية، الأمر الذي يجعله أقرب إلى تصور مفكرٍ كابن طباطبا الذي عد الهيبة مقياسًا لصحة الملك وسلامته[40]. بيد أن إعمال الفقيه لمفهوم الرهبة تم في إطار وصله بمفهوم الرغبة الذي ورد في معرض تحديدٍ دقيقٍ لواجبات الملك تجاه الرعية. كما أن توظيف هذا الزوج المفاهيمي (الرغبة/الرهبة) اقتضى منه ربطه بزوجٍ مفاهيميٍ آخر هو الإنصاف والانتصاف[41]، في محاولةٍ منه لصرف الأول منهما عن أي تأويلٍ استبدادي. إذ يتخذ الإنصاف صورة "عدلٍ يفصل بين الحق والباطل"، لذلك فإنه شكل آليةً لضمان الاستقرار الاجتماعي والسياسي، "يستقيم به حال الرعية وتنتظم به أمور المملكة، فلا ثبات لدولةٍ لا يتناصف أهلها، ويغلب جورها على عدلها"[42]. في حين يكون الانتصاف هو "استيفاء الحقوق الواجبة، واستخراجها بالأيدي العادلة". أما ما يهم الماوردي من كل ذلك فهو أن في "الانتصاف قوام الملك، وتوفير أمواله، وظهور عزه، وتشييد قواعده. وليس في العدل ترك مال من وجهة، ولا أخذه من غير وجه، بل كلا الأمرين عدلٌ لا استقامة للملك إلا بهما"[43].

ثمة ملاحظتان على قدرٍ كبيرٍ من الأهمية يجب الانتباه إليهما؛ تتعلق أولهما بالمكانة التي يحتلها مفهوم العدل في تصور الماوردي لمسألة الإصلاح. فهو من هذه الجهة لا يمثل استثناءً بالنسبة إلى فقهاء السياسة الذين تمسكوا بشعار العدل في مواجهة فساد الدولة الذي تقاطع فيه انقسام الدولة ووهنها بانتشار الجور والقهر[44]. لكن العدل هنا ليس ينحصر في بعده الشرعي المحض، أي باعتباره شرطًا قبليًا يجب توفره في الإمام قصد تمكينه من تنزيل مقتضيات الشرع على الواقع السياسي، مادام أن جل الفقهاء انتهى إلى التنازل عن شرط العدالة باسم المصلحة[45]. لذلك نلمس توجهًا صوب ربط العدل بسياسة الدنيا[46]. وهنا وجب أن نلاحظ ثانياً، هذا الارتباط بين العدل من حيث هو رعاية للمصالح وتشديد الماوردي على جدلية الحق والواجب التي يجب أن تقام السلطة على قواعدها. إن ما يقصده الفقيه بفكرة العدل في مقامنا هذا هو هذه العلاقة المتوازنة بين الرعية والملك، والتي تبقى المدخل الأساسي لكل إصلاح ممكن في نظره.

خاتمة:

التفكير في السلطة عند الماوردي تفكير في أنموذج للعلاقة المشروعة بين الحاكم والمحكوم، وقد استخلص ملامحها في خضم معاينةٍ مريرةٍ لمشاهد تَحَلُلِ الخلافة وتفتتها إلى دولٍ قامت على أساس الغلبة والقهر والعصبية. لذلك كان رهانه على إصلاح الدولة يقتضي البدء بإصلاح علاقة الملك بالرعية من خلال إخضاعها لمنطق الحق والواجب، أي بتحويلها من مجال "حراسة الدين" إلى "سياسة الدنيا" دون التخلي عن مقدماتها الشرعية التي تمكنها من احتكار الهالة الرمزية التي تحتاجها مؤسسة الخلافة. يمكن للمرء أن يعترض على هذا التأويل بالقول إن تشديد الماوردي على العدل مع الرعية جاء تعبيراً عن لحظة فقد فيها الخليفة نفوذه الفعلي، لذلك لم يتبقَّ له غير الانفتاح على الرعية لأنها آخر ما يمكن اللجوء إليه. بيد أن مثل هذا الاعتراض لا يأخذ في الحسبان أن الفقيه لا يخصُ الخليفةَ بحديثه عن تأسيس الملك أو إصلاحه، بل لا يكاد يذكره في مقام توجيه نصائحه إلى الملك والوزير. كما أن تصوره للعلاقة بالرعية يأتي حلقةً ضمن سلسلةالعلاقات التي تحدد طبيعة المُلك، من قبيل العلاقة بالجند وبيت المال والخاصة...الخ، وهي أمور يمكن أن يُقال عنها ما قيل عن علاقة الحاكم بالرعية، إذ حاول هذا المفكر أن يجعل الصلة المعتدلة بها قوام تصوره التركيبي للسلطة، وهو ما يعني منحها قدراً من الاعتراف بامتلاك نصيب معين من القدرة على توجيه الملك وتأسيسه، بل وفي فساده كذلك.

[1]-ابن خلدون، المقدمة، بيروت؛ دار الكتب العلمية، 1993. ص. 228.

[2]-الماوردي، الأحكام السلطانية، بيروت، دار الكتب العلمية، ص. 5.

[3]- وهو ما قام به مؤلفو كتب الإمامة؛ أنظر على سبيل المثال؛ ابن مهران الأصبهاني، تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة، بيروت، دار الإمام مسلم، 1986. وأنظر كذلك؛ سيف الدين الآمدي، الإمامة، من أبكار الأفكار في أصول الدين، بيروت، دار الكتاب العربي، 1992.

[4]- سعيد العلوي، خطاب الشرعية السياسية في الإسلام السني، القاهرة، رؤية للنشر والتوزيع، 2009. ص. 50.

[5]- رضوان السيد ضمن؛ الماوردي، قوانين الوزارة وسياسة الملك، بيروت، دار الطليعة، 1993، ص. 64.

[6]- تحضر هذه الفكر كذلك عند فلاسفة السياسة في الإسلام، وخاصة منهم الذين عايشوا أزمة الخلافة كالفارابي الذي حاول بدوره فهم أسباب فساد النظام السياسي (المدينة على حد تعبيره)، غير أنه لم يعمل على فهم الأزمة انطلاقا من مرجعية فقهية ربما بسبب إيمانه بمحدوديتها، في مقابل الفلسفة التي اعتقد أنها أقدر على تقديم فهم معقول لماهية النظام السياسي ولكيفية إصلاحه.

[7]- القاضي أبو يوسف، كتاب الخراج، بيروت، منشورات الجمل، 2009.

[8]- الماوردي، نصيحة الملوك، القاهرة، مكتبة الفلاح، [د،ت]، ص. 67.

[9]- الماوردي، تسهيل النظر وتعجيل الظفر، مصدر سابق، ص. 206.

[10]- كما هو الشأن عند ابن خلدون

[11]-. الماوردي، تسهيل النظر وتعجيل الظفر، مصدر سابق ، ص. 247.

[12]- المصدر نفسه، ص. 222.

[13]- المصدر نفسه، ص. 247.

[14]- يمكن أن نلاحظ غياب التفسير الطبيعي لتطور الدولة ومآلها.

[15]- المصدر نفسه، ص. 203.

[16]- أنظر تعليق عبد المجيد الصغير على موضوع العلاقة بين العقل الأشعري ومفهوم الإمكان في؛ عبد المجيد الصغير، المعرفة والسلطة في التجربة الإسلامية، قراءة في نشأة علم أصول ومقاصد الشريعة، القاهرة، رؤية للتوزيع والنشر، 2010. ص. 63.

[17]- الصفحة نفسها. في النص الذي حققه السيد ترد كلمة "مباديه" بدلا من "مبادئه".

[18]- الصفحة نفسها.

[19]- يقول ابن خلدون؛ "اعلم أن مبنى الملك على أساسين لابد منهما؛ فالأول الشوكة والعصبية وهو المعبر عنه بالجند، والثاني المال الذي هو قوام أولئك الجند، وإقامة ما يحتاج إليه الملك من أحوال. والخلل إذا طرق الدولة طرقها من هذين الأساسين" المقدمة، مصدر سابق، ص. 230.

[20]- "ولو أهملوا (=المسلمين)ونوازع الأهواء جاذبة، واختلاف الآراء متقاربة؛ لتمارجوا وتغالبوا، ولما عرف حق من باطل، ولا تميز صحيح من فاسد". الماوردي، تسهيل النظر وتعجيل الظفر، مصدر سابق، ص. 199.

[21]- "وكان مما جرت عليه أمور العالم واستمرت عليه أنه لم تكن مملكة إلا وكان أسها دين، ولم تكن ديانة قديمة أو حديثة إلا كان فيها دعوة إلى العبادة الله-جل وعز-وتوحيده والترغيب في ما عنده للمطيعين المتدينين من جزيل الثواب وكريم المآب (...) والواضع لأركان ملتها حقا كان ذلك أم باطلا، من بينها، وقع الاختلاف فيما بين أمته، والتنازع في أهل ملته، فربما كان ذلك منافسة في الرياسة، وربما كان مخالفة في الدين"؛ الماوردي، نصيحة الملوك، مصدر سابق، ص. 67.

[22]- الوعي بالدين هنا يتم من جهة وظيفته الإيديولوجية أساساً. نقرأ للماوردي قوله؛ "فإذا طرأ على الدين هذه الأسباب (...) ونهض إلى طلب الملك من يقوم بنصرة الدين، ويدفع تبديل المبتدعين، ويجري فيهم على السنن المستقيم أذعنت النفوس لطاعته، واشتدت في مؤازرته ونصرته، ورأوا أن بذل النفوس له من حقوق الله المفترضة، وأن النصرة له من أوامره الملتزمة؛ فملك القلوب والأجساد، واستخلص الأعوان والأجناد. فإن نلوا معه من الدنيا حظاً، وجمعوا به من بين صلاحي الدين والدنيا صار مجتذباً إلى الملك لا جاذباً، ومرغوبا إليه لا راغباً، ولان له كل صعب، وهان عليه كل خطبٍ، وتوطد له من أس الملك ما لا يقاوم سلطانه، ولا يفل أعوانه، لفرقٍ بين ملك الطالب والمطلوب، وتباين ما بين طاعة الخطاب والمخطوب". الماوردي؛ تسهيل النظر وتعجيل الظفر، مصدر سابق، ص. 204.

[23]- لا أستعمل كلمة "الاستبدادي" كحكم قيمةٍ، بل كوصف لواقع احتكار شخص واحد للسلطة واستبداده بها.

[24]- الماوردي، تسهيل النظر وتعجيل الظفر، مصدر سابق، ص. 207.

[25]- أنظر؛ أبو بكر الطرطوشي، سراج الملوك، بيروت؛ دار صادر، الطبعة الثالثة، 2012. ص. 259. وكذلك؛ الجاحظ؛ تاج الملوك، مصدر سابق، ص. 172 (الفقرة 143).

[26]- يقتضي فهم هذا التقارب التخلص من الفهم الاستبدادي لكتب الأحكام السلطانية التي اعتبرها البعض قولا في الإستبداد. وقد سبق لمكرم عباس أن انتقد هذه القراءة التي دافع عنها محمد عابد الجابري وكمال عبد اللطيف وغيرهما، في كتابه الإسلام والسياسية في العصر الكلاسيكي، مرجع سابق، ص. 36-37.

[27]- الماوردي، تسهيل النظر وتعجيالالظفر، مصدر سابق، ص. 202. أنظر كذلك؛ نصيحة الملوك، مصدر سابق، ص. 35. وأتظر تعليق سعيد العلوي؛ في بنسعيد العلوي؛ خطاب الشرعية السياسية في الإسلام، القاهرة؛ رؤية للنشر والتوزيع، 2009. ص. 50.

[28]- هذه خاصية تجمع بين جل فقهاء السياسة الشرعية، إذ لا يعني الشرع عندهم مجرد قواعد للمعاملات بل ضمانة لسيادة علاقة شرعية بين الحاكم والمحكوم، لذلك يمكن أن نقرأ في تشديدهم على الشرع محاولة منهم لوضع ضمانة تحد من التسلط والتغلب في كثير من الأحيان. قارن؛ القاضي أبو يوسف؛ كتاب الخراج، م،س، ص. 142.

[29]- لم يكن صدفة أن يعقد الفقهاءء مصنفات تهتم بتدبير بيت المال؛ إذ السبب في ذلك وعيهم بضرورة إخضاع تصرف الحاكم في المال العام لضوابط الشرع. أنظر؛البلاطنسي؛ تحرير المقال في ما يحل ويحرم من بيت المال، القاهرة، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، 1989. وأنظر كذلك؛ ابن سودة؛ كشف الحال عن الوجوه التي ينتظم بها بيت المال، بيروت؛ دار الكتب العلمية، 200.

[30]- هذا هو مضمون الحديث المتداول بين الفقهاء والكتاب؛ "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته"

[31]-.Bernard Lewis, Le langage politique de l’islam, in, Islam, Paris, Gallimard, p. 755

[32]- الماوردي، تسهيل النظر وتعجيل الظفر، مصدر سابق، ص. 215.

[33]- المصدر نفسه، ص. 214.

[34]- ونقرأ في كتاب سر الأسرار ما يلي؛ "الملك من استرعاه الله أمر عباده، وقلده أمورهم وتدبيرهم، وأطلق يده على أبشارهم وأموالهم ودمائهم وجميع أحوالهم، كالإله، فهو متشبه بالإله" ذكره، عبد المجيد الصغير، المعرفة والسلطة في التجربة الإسلامية، مرجع سابق، ص. 125.

[35]- في ضوء هذا الموقف يجب أن نفهم موقف القاضي أبي يوسف من ممارسة السلطة على الذميين، إذ يذكر الخليفة بضرورة تجنب الاعتساف في ذلك. مما يعني أننا أمام تصور لينٍ للسلطة. أنظر؛ القاضي أبو يوسف، كتاب الخراج، م،س، ص. 148.

[36]- الماوردي، تسهيل النظر وتعجيل الظفر، مصدر سابق، ص. 214.

[37]- المصدر نفسه، ص. 252.

[38]- "فإن استدرك صلاح ملكه بعدل سيرته وصحة سياسته، وإلا تطاولت عليه الرعية بقوة الاستقامة، وكان معهم بين أمرين؛ أحدهما؛ أن يصلحوه حتى يستقيم؛ فيصير مأمورا بعد أن كان آمرا، ومقهورا بعد أن كان قاهرا، وتزول هيبته، وتبطل حشمته، ولا يبقى له من الملك إلا اسم مستعار قد استبقوه تفضلاً.(...) والثاني؛ أن يعدلوا إلى غيره فيملكوه عليهم فيكونوا له أعوانا إن نوزع، وأنصارا إن قورع، فيصير بفساد سيرته مزيلا لملكه، ومعينا على هُلْكه". المصدر نفسه، ص. 253. (التشديد من عندي).

[39]- "والذي يلزم الملك في حقوق الاسترعاء عليهم عشرة أشياء؛ أحدها؛ تمكين الرعية من استيطان مساكنهم وادعين. والثاني؛ التخلية بينهم وبين مساكنهم آمنين. والثالث؛ كف الأذى والأيدي الغالبة عنهم. والرابع؛ استعمال العدل والنصفة معهم. والخامس؛ فصل الخصام بين المتنازعين منهم. والسادس؛ حملهم على موجب الشرع في عباداته ومعاملاتهم. والسابع؛ إقامة حدود الله تعالى، وحقوقه فيهم. والثامن؛ أمن سبلهم ومسالكهم. والتاسع؛ القيام بمصالحهم في حفظ مياههم وقناطرهم. والعاشر؛ تقديرهم وترتيبهم على أقدارهم، ومنازلهم؛ فيما يتميزون به من دين وعمل وكسب وصيانة". ،المصدر نفسه، ص. 214.

[40]- سبق للباحث عز الدين العلام أن تبنى هذا الموقف في تحليله لنصيحة الملوك للماوردي، ويبدو لي أن المطابقة بين الموقفين تنجم عن عدم التمييز بين الحقل الفكري الذي يتحرك فيه كل مفكر على حدة. أنظر؛ عز الدين العلام، الآداب السلطانية، دراسة في بنية الخطاب السياسي، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، 2007، ص. 190.

[41]- الماوردي، تسهيل النظر وتعجيل الظفر، مصدر سابق، ص. 225.

[42]- الصفحة نفسها.

[43]- المصدر نفسه، ص. 228.

[44]- أنظر الفصل الذي خصصه ابن خلدون للنظر في علاقة العدل بالعمران تحت عنوان؛ في أن الظلم مؤذن بخراب العمران، في؛ عبد الرحمان بن خلدون، المقدمة، بيروت، دار الكتب العلمية، 1993. ص. 223

[45]- أبو حامد الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، دار المناهج، جدة، 2008.ص، 296 .

[46]- لعله يجب التذكير بأن ظهور عبارة "سياسة الدنيا" كانت تعبيرا عن الانتقال بالفكر السياسي الإسلامي من ميثولوجيا الإمامة وفقهها إلى الاعتراف بقوة الواقع والعمل على التعايش معه. أنظر تعليق رضوان السيد على هذه المسألة في؛ ابن حداد، الجوهر النفيس في سياسة الرئيس، بيروت، دار الطليعة، الطبعة الأولى 1983. ص. 35

*مؤمنون بلا حدود

أضف تعليقك