الرؤية الاسلامية للعلاقة مع الآخر بين النظرية والتطبيق

الرؤية الاسلامية للعلاقة مع الآخر بين النظرية والتطبيق
الرابط المختصر

مما لا شك فيه أن الرؤية مع الآخر هي المحور الأساس الذي تدور عليه الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، لأن الغاية الأساس من إرسال الرسل والأنبياء وتنزيل الكتب السماوية هي تحقيق العدل للإنسان على الأرض بوصفه إنسانا بغض النظر عن دينه و لونه و جنسه، إضافة إلى تعريف الإنسان بخالقه وبيان علاقته به ، قال تعالى "وأرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب ليقوم الناس بالقسط".

 

غير أن العلاقة مع الآخر اليوم باتت أكثر من أي وقت مضى  تعاني من خلل كبير، ومن رؤية سوداوية مظلمة ومشكلة خطيرة تهدد الرؤية الصحيحة النقية لسماحة الإسلام وعدله ورحمته وقدرته على مواجهة المشكلات الحادثة والمستجدة والمتوقعة لشمولية مبادئه وعمومية رسالته .

 

تبدأ الصدمة والمعضلة الكبرى ليس في العلاقة مع الآخر (غير المسلم) بل حتى في العلاقة مع الآخر (المسلم) ، فهناك مشكلة في النظرة الحزبية الضيقة وعدم قبول المشاركة مع الآخر بإدعاء أن الحق المطلق والرؤية الصحيحة ينفرد بها هذا الحزب أو ذاك. رغم أن حيز الحق المطلق والمسلمات والقطعيات التي لا تحتمل الاختلاف ولا تقبل به الحلقة الضيقة، بينما الحلقة الأوسع من الظنيات التي تحتمل الاختلاف في تفسير النص هي الأكبر والأشمل؛ فمقولة رأيي صواب يحتمل الخطأ تكاد تكون غائبة، والاعتراف بالآخر وقبول رأيه فضلا عن التعاون معه تكاد تكون غير موجودة في الأعم الغالب، علما بأن الرؤى المختلفة في الظنيات التي تحتمل أكثر من معنى وجدت أصلا لخدمة الدين ، وهي دليل واضح على عالميته وقدرته على المعاصرة والتطبيق مهما تعددت الأمكنة والأزمنة اذا فهم الفهم الدقيق الواعي الصحيح .

 

وهناك مشكلة أيضا في النظرة المذهبية والطائفية بين أبناء الملّة الواحدة، بين السلفي والصوفي، وبين السني والشيعي تعود إلى أحداث تاريخية مضت بمساوئها وأحزانها وما زالت اسقاطاتها حاضرة حتى اللحظة، تنتظر وقودا جديدا يشعلها لتحقيق مآرب ومصالح خاصة وضيقة، قد تكون دولا إسلامية ودولا غربية مستفيدة من الحالة الصدامية والحرب الطائفية والعرقية .

 

ولا شك أن المعضلة الأخرى تكاد تكون هي البيئة الحاضنة أو المسببة أو المنتجة لهذا الأفق الضيق وهذا الصراع الطائفي وهذه المسلكيات المتطرفة في العلاقة مع الآخر، أعنى بذلك العلاقة ما بين الآخر والدولة، والعكس صحيح فإذا كان تفسير حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) تفسيرا سطحيا نفعيا يحترم الدولة، أعني قوله عليه الصلاة والسلام "اسمع واطع وان أخذ مالك وضرب ظهرك ولا تنزعن يدا من طاعة" فإن  تقنين الظلم وحماية الظالم وعدم إنصاف المظلوم والضعيف وسوء الرعاية الاجتماعية  أو عدم تحقيق التنمية الاقتصادية أو عدالة التوزيع يجعل من طائفة المستضعفين ورقة بيد من يسعى لإثارة الفتنة والخروج على الدولة بدعوى تغيير المنكر باليد ولاستجابة لحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ....الخ" مرة أخرى نعود إلى الرؤية الضيقة في فهم النص وتجريده من ظروفه وأحواله وشروط تطبيقه أي أننا لم نعد قادرين على ممارسة التوازن بين الطاعة الواعية والمنضبطة للحاكم وبين الطاعة العمياء للحاكم أو المسؤول أو رئيس الحزب والتنظيم، فالقيادة تريد الطاعة المطلقة التي تؤسس للقهر والاستبداد والفرد يريد الطاعة الواعية المنضبطة التي تؤسس للأمة والوطن والقيادة والمجتمع.

 

أما العلاقة مع الآخر غير المسلم فتلك مصيبة المصائب بل الطامة الكبرى بين من يفسر النصوص تفسيرا انتقائيا ظاهريا وينكر الآخر- المسلم- ويكفره ويستحل دمه وماله وبين هؤلاء وهؤلاء يتدخل الغرب لتشويه صورة الإسلام والاستدلال على عدم قدرته وجهوزيته لمعالجة مشكلات المجتمع والأمة، بل عدم قدرته على التطبييق في الواقع المعاصر لأن نزوله وتشريعاته ليست إلا وقتيه ظرفيه في زمن محدد وعصر لن يتجدد .

 

والأغرب أن يقوم الغرب نفسه وكأن نظامه وثقافته وقيادته الفكرية والسياسية هي المؤهلة لقيادة التاريخ وهي المؤهلة لرفع الظلم عن المستضعفين وكأن سيف العدل لا يفارقه والحق يملكه دون منازع .لكن الحقيقة التي لا مراء  فيها أن الغرب في علاقاته وتدخلاته وسياسته يكيل بمكيالين فحين   تكون الضحية غير مسلمة تقوم الدنيا وتركب البوارج وتنطلق قاذفات الصواريخ لتأديب الخارجيين على القانون حسب عرفهم،  لكن عندما تكون الضحية مسلمة في  ميامار وعندما تحفر الخنادق لحرق المسلمين أحياء فلا حراك ولا ائتلاف ولا أحلاف وعندما ترتكب                               اسرائيل جرائم الحرب وتخرق القوانين الدولية والأعراف المجتمعية وتقتل الاطفال والنساء والشيوخ وتهدم المساجد ويحرق غلاة المستوطنين الأطفال أحياء ويحرقون المساجد فلا  حراك  ولا ضجيج ولا عقاب. نعود إلى الرؤية الإسلامية الواعية والمشرقة في العلاقة بالآخر مسلما وغير مسلم، لنجد المئات من الأيات والأحاديث التي تعد بحق علما ظاهرا على عظمة هذا الدين وذلك بالنظر إلى المسلمات الآتية:

 

أولا:- الإسلام دين الرحمة- والرحمة ليست خاصة بالمسلمين بل هي للعالمين قال تعالى"وما أرسلناك الا رحمة للعالمين" ، فهل يعقل أن يوصف الإسلام بالرحمة، والبعض في سلوكه يظهر القسوة والغلظة وكأن الإسلام دين قتل وسفك دماء،  فظاهرة القتل على الهوية لا تمت إلى الإسلام بصلة، وظاهرة المعاقبة بالحرق إلى البوذية أقرب والاسلام منها براء، وقتل الأطفال والنساء والشيوخ أمر مخالف لوصية الرسول (صلى الله عليه وسلم ) لجنده ("لا تقتلوا طفلا ولا إمرأة ولا شيخا ولا عسيفا (أجيرا) ولا راهبا بصومعة ولا تقطعوا شجرة...") فإظهار الرحمة في العلاقة بالآخر وسيلة من وسائل الدعوة وإظهار عدل الإسلام في التطبيق وسماحة الإسلام وعفوه جزء لا يتجزأ من أساليب الدعوة الى الله .

 

ثانيا:- القرآن يهدي للتي هي أقوم، أي أفضل المناهج والطرق والتشريعات في التعامل مع الخالق والمخلوق ، قال تعالى ("إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم") ، والرسول (صلى الله عليه وسلم) نور وما جاء به من كتاب وصفه الله تعالى أنه يهدي من إتبع رضوانه سبل السلام، قال تعالى ("قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من إتبع رضوانه سبل الاسلام") والسلام يعني الأمن، والأمن عكس الخوف، والحرب تعدم الأمن وتحقق الخوف فلا يعقل أن يكون المنهج الأقوم كما وصف به القرآن، ولا يمكن أن يوصف من يحقق سبل السلام بأنه الإرهاب والتطرف، وأن يعتقد أحد أن الإسلام وسيلته للهداية والتطبيق هي السيف .

 

ثالثا:- الاختلاف بين البشر وفق الرؤيه الشرعية اختلاف تنوع وتعارف وتعاون  لا اختلافا طبقيا أو عنصريا أو استئصاليا أو احلاليا،  قال تعالى ("يايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم") .

 

رابعا:- الأصل اختلاف الناس في افكارهم وعقائدهم فالعمل لتوحيدهم جميعا أمر مخالف لسنة الله تعالى والعمل يجب أن ينصب على الاستفادة من اختلاف الأفكار وتنوع الثقافات لتحقيق التكامل بين البشر،  قال تعالى("ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ، ولا يزالون مختلفين إلا ما شاء ربك ولذلك خلقهم ") أي خلقهم هكذا ... مختلفين متنوعين في الرؤى والتوجهات والتصرفات .

 

 

خامسا:- الإسلام لا يبرر جواز ارتكاب الظلم بالآخرين وقتلهم بوحشية فقط كونهم
غير مسلمين، أو لأن الجهة الفلانية أو الدولة الفلانية ظلمت المسلمين، لقوله تعالى ("ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى ") ومن السنة النبوية قوله صلى الله عليه وسلم ("من آذى ذميا فقد آذاني ومن انتقصه حقا من حقوقه فأنا خصمه يوم القيامة ") والذمي من اليهود أو النصارى أو غيرهم ليس مسبة بل هي ممدوحة لهم ، لأن الذمي نسبة الى ذمة الله وذمة رسوله ، أي أن حقوقه مصونة    بعهد الله وعهد رسوله صلى الله عليه وسلم .

 

سادسا:- التعايش مع الآخر وفق الرؤية الإسلامية ليس شعارا ولا نظرية بل هي واقع كان ويجب أن يستمر ، والدليل عشرات الوثائق التي كتبها النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام لليهود والنصارى في المدينة المنورة واليمن والشام والعراق، ويكفينا فخرا وثيقة المدينة التي كتبها النبي عليه الصلاة والسلام وثيقة المواطنة بين المسلمين مهاجرين وأنصار ويهود وغيرهم أنهم أمة واحدة من دون الناس للمسلمين دينهم ولليهود دينهم ، ويكفينا فخرا العهدة العمرية التي أصلت لتوطيد العلاقة بين المسلمين والنصارى في بيت المقدس والمشهورة بالعهدة العمرية .

 

وفي عهدة عمر رضي الله عنه لنصارى تغلب في الشام والتي وافق فيها عمر رضي الله عنه على طلب نصارى نجران دفع الزكاة كالمسلمين بدل الجزية رغم أن الزكاة أضعاف أضعاف الجزية، وكذلك وثائق أبي عبيدة وخالد بن الوليد وغيرهم من قادة الصحابة للتعايش مع النصارى والمجوس، بأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، أن لهم حرية العقيدة والعبادة والزواج واللباس والطعام مقابل قبولهم أحكام الإسلام العامة في المعاملات والعقوبات.

فهل يعتقد هؤلاء الذين يفسرون الدين تفسيرا ظاهريا أنهم أقدر من الصحابة على فهم الاسلام وتطبيقه ؟؟!!.