التطبيع أداةً صهيونية لإعادة كتابة التاريخ.. الأسباب والسياقات والمآلات

نواصل الخوض في هذا الملف الخاص حول التطبيع، والذي توجهنا في إطاره إلى عدد من الباحثين والكتّاب العرب لسبر آرائهم حول هذا الموضوع في جوانب مختلفة منه، محاولين التوصّل وإياهم إلى فهم التطبيع في منشأه، وتحولاته في سياقاته الزمنية والسياسية والثقافية، وما يترتب على ذلك من آثار تنعكس على القضية الفلسطينية بوصفها لا قضية تحرير وحسب، بل أيضا قضية تحرر لا يمكن فصلها عن مطلب الحرية الذي انتفضت لأجله الشعوب العربية، منذ بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وحتى اليوم.

هنا جزء ثان نتناول فيه التطبيع في سياقه الإعلامي وانعكاساته في الإطار الثقافي العام.

في ظل غياب "ربيع فلسطيني" أو بقائه ملتبسا بأفضل الأحوال، لماذا فضّل المستوى السياسي والفصائلي الفلسطيني، بتوجهاته العامة، النأي بالنفس عن التورّط في الربيع العربي، بينما وقف بعض مثقفيهم ومعهم مثقفون عرب، لا سيما من "اليسار"، كانوا قد انحازوا إلى معركة التحرير، ضدّ معركة التحرر ممثلة بتلك الانتفاضات الشعبية؟

يرى الكاتب المتخصص بالنقد الحضاري سامر خير أحمد أن غياب التحديث كان «سببًا رئيسيًا في ضياع فلسطين، وهذا يعني أن ثورات الربيع العربي سعت لاستعادة المشروع العربي الأصلي، النهضوي، من دون أن تتراجع عندها قيمة قضية فلسطين، ما يعني أن النتائج النهائية لثورات الشعوب العربية على الاستبداد ستكون هي ذاتها نتيجة القضية الفلسطينية: تحريرًا أو انتكاسًا». ويستغرب من «أن بعض القوى الفلسطينية - وهي الساعية للانعتاق من الاحتلال- اختارت الوقوف على الحياد من ثورات الربيع العربي، متناسية أنها مقدمة ضرورية لحل قضية فلسطين. ويكون غريبًا أكثر أن يختار مثقفون وسياسيون فلسطينيون الانحياز إلى قوى الاستبداد، بدعوى رفعها شعارات تحرير فلسطين، هذا برغم أنهم جربوها طويلًا، وعرفوا أنها ليست معنية بقضية فلسطين إلا من زاوية استعمالها شعارًا لتبرير ممارسة الاستبداد وقمع الحريات».

الكاتب والقاص والشاعر هشام البستاني يعتقد أن فلسطين التي غابت خلف غبار المعارك المحليّة مع صهاينة الدّاخل، بقيت حاضرة «في انتفاضات التّحرر باعتبارها جزءًا من مشروع التّحرير، سواءً َأُعلن ذلك أم لم يُعلن»، لكنه يتأسف لكون ذلك يتم دون أن يترافق «مع معركةٍ-انتفاضةٍ شعبيّةٍ فلسطينيّةٍ شبيهة ضد مجموعتها الوظيفيّة الحاكمة، التي تلعب دور وكيل الاحتلال المباشر في الضفّة الغربيّة؛ وربّما يكون هذا هو لبّ التناقض الموضوعيّ في القضيّة الفلسطينيّة، ونقطة الضّعف الكبرى له عربيًّا وعالميًّا: إن كان من يدّعون تمثيل القضيّة الفلسطينيّة رسميًّا يُنسّقون أمنيًّا مع "إسرائيل"، ويضعون أنفسهم (عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، بل وحتى جسديًّا) تحت رحمتها؛ وإن كان الشّارع الفلسطينيّ بعمومه، وبفصائله - خصوصًا تلك المنضوية في إطار ما يسمّى بـ"منظمة التّحرير الفلسطينية"- صامتًا نسبيًّا تجاه الأداة الأساسيّة التي أودت بالقضيّة الفلسطينيّة إلى الهاوية التي نحن فيها الآن: "السّلطة الفلسطينيّة" ومجموعتها الحاكمة؛ فكيف بمناصري هذه القضيّة وعدالتها، عربيًّا وعالميًّا، وأعداؤهم يرفعون بوجوههم هذه المواقف "الفلسطينيّة"؟»

ويشير البستاني إلى الدّجل الذي يمارسه بعض من يسمّون أنفسهم "مثقّفين يساريّين" ظلّوا حسب قوله «يصدّعون رؤوسنا بـ"عمالة الأنظمة العربيّة" وتواطؤها وقمعيّتها وفسادها واستبدادها" والذين "عندما انتفضت الناس على هذه المجموعات الحاكمة، اصطفوا إلى جانبها في مواجهة "الفوضى" (أي الناس)" وإلى أن جزءا من تبعات هذا الاصطفاف "هو توقّفهم عن طرح الموضوع الفلسطينيّ فيما يتعلّق بسلطات بعينها، كي يستروا عوراتها الفاضحة في هذا السّياق (وليستروا عوراتهم أيضًا، باصطفافهم معها)، رغم أنّهم كانوا - في فترات سابقة - هم طليعة الدّفاع عن القضيّة الفلسطينيّة، قبل أن يصمتوا اليوم صمت الأموات بعد أن تحوّلوا إلى كورس دعاية لمجموعات حاكمة ما زالت فاسدة، وما زالت تقمع، وما زالت تتواطأ على مواطنيها، وعلى بلدانها، وعلى فلسطين، وعلى أي شيء، شرط أن تبقى في السّلطة».

بالمثل يرى الكاتب نزار السهلي أن «خسارة الفلسطينيين وقضيتهم في العقد الأخير، هي بإدارة الظهر  للشارع الفلسطيني والعربي، كما كان استخدامهم استعماليًا في الشعارات، وإضعاف وسائل مقاومة التطبيع، بالتحالف مع الطغاة لا مع الشعوب، التي ما تزال تحمل القضية في كل تحرك. وإذا قلنا إن أي مطلب وشعار يرفعه الشارع العربي يشكل خطرا على مشروع الحركة الصهيونية، وعلى وظيفة من يحميه في النظام العربي فهذا ليس مجازًا تعبيريًا، فكل عبارة عن الحرية والمواطنة والعدالة والمساواة والتبادل السلمي للسلطة تفضي بنهايتها لرفض المحتل وفكرته الاستعمارية التي لا تخص الفلسطيني وحده بل حرّكت ضمائر في العالم أجمع لرفض الاحتلال والدعوة لمقاطعته».

 

التطبيع مُختَرِقا الإعلام العربي

هل كان الإعلام العربي منذ عصر الفضائيات، عونا في مقاومة المشروع الصهيوني ومحاولات تمرير السردية الصهيونية إعلاميا؟ وإلى أي حد بات اليوم مخترقا ببروباغاندا التطبيع؟

تعتقد الإعلامية سعاد قطناني أنه في عصر الفضائيات «بدأ المتلقي العربي يتلفت حوله بتعطش لمعرفة ما يدور بعيدًا عن الرواية الرسمية، فكانت بعض الفضائيات العربية بمفهومها الجديد نقطة تحول جديدة وانفتاحًا على عالم جديد لم يكن متاحًا، وهذه قصة صار لها ما يقرب من ثلاثين عامًا بدأتها قناة إم بي سي في البث من لندن عام 1991 في أيلول/سبتمبر بعد حرب الخليج وقبل مؤتمر مدريد بقليل، ولا أعرف إن كان لهذا التوقيت علاقة بافتتاح القناة. ولكن، كان لزامًا على القائمين على هذه القناة أن يحاكوا اهتمامات المشاهد العربي أينما كان، ويبتعدوا بمسافة قد تكون محدودة عن الرواية الرسمية، وهذه المسافة كانت مكسبًا للمشاهد العربي الذي انفتح الأفق أمامه واسعًا مع افتتاح محطة الجزيرة عام 1996 وأبو ظبي وغيرهما من المحطات الفضائية وخاصة مع توفر الإنترنت كفضاء معرفي».

وتضيف أن الإعلام العربي الجديد سعى لكسب المشاهد العربي، عن طريق محاكاة اهتماماته المعاشية اليومية والسياسية، وكان للقضية الفلسطينية، المركزية حتى ذلك الوقت، حيز على مستوى الأخبار أو البرامج أو المسلسلات والوثائقيات، ورغم انطلاق عملية السلام على المستوى الرسمي العربي لم يكن التطبيع «جزءًا من سياسات المحطة بل كانت تلاحق الرأي الجمعي العربي بوقوفه مع القضية الفلسطينية، وكانت صدى للشعوب العربية ولاهتماماتها وتسعى لإرضاء هذا الجمهور، فعلى سبيل المثال عُرض مسلسل التغريبة الفلسطينية ولأول مرة عام 2004 على قناة إم بي سي، في حين أحجمت قناة إم بي سي والعديد من الفضائيات عام 2008 عن بث مسلسل "الاجتياح" الذي يتحدث عن اجتياح إسرائيل لمخيم جنين عام 2002، ولكنها ما لبثت أن عرضته على شاشتها عام 2009  تزامنًا مع الحرب على غزة في نهاية عام 2008 انسجامًا مع غضب الشارع العربي من محيطه إلى خليجه».

ووجد الكاتب والشاعر حسام الدين الفرا أن اتفاقيات السلام بدءًا من سبعينيات القرن الفائت (مصر) وتسعينياته (الأردن) «لم تستطع اختراق الحاجز النفسي للشعب العربي الذي بقي رافضًا لأي تطبيع مع العدو، ولا سيما التطبيع الثقافي. وحاول الكيان الإسرائيلي قرصنة وترجمة بعض الأعمال الأدبية العربية، وإذاعة وعرض بعض البرامج الثقافية، مع أدباء عرب على قنواته، أو إقامة حوارات أيضًا عن طريق التدليس من بعض إعلامييه الذين يحملون هويات وجنسيات مموهة ومزدوجة، ويقيمون في أوروبا، ولكن كل ذلك جوبه بالرفض من المثقفين والأدباء العرب الذين استنكروا أن تترجم أعمالهم، وأن تقرصن حواراتهم لتعرض على القنوات الإسرائيلية. ووصل الأمر إلى انسحاب أدباء ورياضيين وفنانين من مسابقات ومؤتمرات دولية، بسبب وجود واشتراك شخصيات إسرائيلية فيها، ولنا في انسحاب الروائي والشاعر إبراهيم نصر الله من مؤتمر للرواية في نابولي الإيطالية خير دليل على ذلك... ولم يكن مستغربًا أن يرفض الأدباء التطبيع الذي يتطلب إقامة علاقات طبيعية، مع الكيان الإسرائيلي، على حساب حقوق الشعب الفلسطيني. فكتب أمل دنقل قصيدته الشهيرة "لا تصالح" مستفيدًا من السيرة الشعبية المعروفة ووصايا كليب لأخيه الزير سالم ليعلن رفضه للتطبيع مع العدو، وحظيت القصيدة بشهرة كبيرة، قبل وبعد إبرام اتفاقية كامب ديفيد، لأنها تتماهى مع موقف الشعب العربي. ولم يكن مستغربا بسبب الرفض الشعبي للتطبيع أن نرى أعمالًا درامية وسينمائية كثيرة في مصر كفيلم عادل إمام "السفارة في العمارة" أو مسلسل "رأفت الهجان" الذي لاقى رواجًا ومتابعةً كبيرةً، لأنه ينطق بلسان العربي الرافض لأي علاقة مع الكيان الإسرائيلي بوصفه عدوًا يجب النيل منه. وظهرت في سورية أعمال درامية كبيرة وثقت لمحنة الشعب الفلسطيني وما لاقاه بسبب البطش والجرائم الصهيونية، والتهجير، كمسلسل "التغريبة الفلسطينية" من تأليف الكاتب الفلسطيني وليد سيف، ومسلسل "الزير سالم" للكاتب الراحل ممدوح عدوان الذي حمّل المسلسل إسقاطات ومقولات ترفض التصالح مع العدو».

وتذهب قطناني إلى أن التطبيع في ذلك الوقت لم يكن مطروحًا «إلا كفكرة مرفوضة شعبيًا، ودون طرحها الفج الحالي، بل كان التطبيع محدودا بظهور بعض المحللين والمتحدثين الإسرائيليين على بعض الشاشات العربية، ولكن رغم هذا الشكل من "التطبيع" الخجول إلا أن هذه الفضائيات قدمت فسحة جديدة من الحرية للمشاهد العربي الذي كان يمتلك مناعة وحصانة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فلم يكن لهذا التطبيع الإعلامي حبور لدى المشاهد العربي ولا قبول، وظل التطبيع ضمن مساحة محدودة جدًا تتمثل بوجود "الرأي الآخر" حسب ما يقول القائمون على تلك الفضائيات».



من التطبيع السياسي إلى ثقافة التطبيع

يذهب الكاتب والمترجم مالك ونوس إلى أن العزلة الدولية لولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الصاعد حديثا، نتيجة انتهاجه سياسة قمع حريات وصلت إلى حد احتجاز أمراء ورجال أعمال، وتكلَّلت باغتيال الصحافي جمال خاشقجي وتقطيع جثته، جعلته بحاجة "إلى من يكرِّس شرعيته التي باركها له الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مرَّةً، ثم عاد وفرمل حماسه تجاهه. ولجأ بن سلمان إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ليعيد له ما انقطع مع الأميركيين لضمان استمرار اعترافهم بشرعيته. كما وجد نتنياهو فيه فرصة للعبور إلى الخليج عبر تضخيم الخطر الذي تشكله إيران والإرهاب على الإسرائيليين والعرب وضرورة مواجهتها معًا. وفي هذا المسعى، خالف بن سلمان ما اتَّبعه الحكام العرب، منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين سنة 1948، في انتهاج سياسة معاداة إسرائيل ومناصرة القضية الفلسطينية لتُكسبهم شرعية غير قابلة للشك، فتوسَّل شرعيته عبر التقرب من الإسرائيليين. وفي سبيل ذلك سعى للتأسيس لعلاقات طبيعية مع الكيان الإسرائيلي".

يضيف ونوس «رأينا غض السلطات السعودية النظر عن زيارة سعوديين إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة. كما رأينا زيارة إسرائيليين وفريق عمل محطة تلفزة إسرائيلية أراضي المملكة. وظهور كتابات في الصحف وشرائط فيديو وتغريدات على "تويتر" يتحدَّث فيها سعوديون عن إعجابهم بدولة الاحتلال الإسرائيلية، ويتهجَّمون على الشعب الفلسطيني وينكرون تاريخه وأحقية قضيته، بل ووجوده، وقد راجت كثيرًا هذه الأيام، مع أن صاحبها كان يُجرّم بسببها في الماضي. كما سمعنا كلام بن سلمان عن "حق إسرائيل في الأرض" و "في العيش كدولة قومية"، وهو تصريح لم يسبقه إليه زعيمٌ عربي. كما صرح خلال اجتماعه برؤساء المنظمات اليهودية في نيويورك أن: "على الفلسطينيين القبول بما يُعرض عليهم من تسويات أو فليصمتوا"».

 

الدراما

بالإضافة إلى غض النظر عن المبادرات الفردية المُطبِّعة مع الاحتلال، هل ما يجري اليوم هو محاولة لتقريب السردية الصهيونية من وعي وقلب المشاهد العربي عبر تلك الدراما الرمضانية؟ وهل نحن أمام تطبيع ثقافي، وهل تتورط تلك الدراما فعلا في التمهيد للإقرار بالسردية التاريخية الصهيونية على حساب حقوق الفلسطينيين وحقائق التاريخ؟

يعتقد ونوس أن بعض الدراما الرمضانية الخليجية هذا الموسم حفلت بخطاب تطبيعي فتخطى الأمر «مسألة التطبيع الثقافي ليصل إلى مرحلة تكريس ثقافة التطبيع ومَأسَستها، لتساعده على تهيئة الرأي العام في البلاد والمنطقة للتطبيع الكامل. وأفضل السبل لتكريسها بثها في فترة رمضان حيث يكون وعي المشاهد مُهيَّئًا لتلقي ما يشاهده باستسلام مع تَخدّرِ عقله بعد امتلاء معدته فتنعدم لديه قدرة النقد، وبالتالي النقض. لقد استغلت شركات الإنتاج المقربة من ولي العهد السعودي التي أنتجت مسلسلي "أم هارون" و"مخرج 7" ومحطات التلفزة التي يملك الأمير السعودي أغلب أسهمها هذا الظرف لبث العملين ونشر الادعاءات التي جاءت فيهما حول الكيان الإسرائيلي وحول الشعب الفلسطيني. وللمفارقة، كان أول من بادر وأكّد أن العملين يمهدان للتطبيع مع الإسرائيليين هو رئيس قسم الدراسات الشرقية في جامعة حيفا، يارون فريدمان، الذي نفى وجود جالية يهودية كبيرة في الكويت، بل أفاد أن الأمر لم يتعدَّ مجموعات يهودية صغيرة كانت موزعة في منطقة الخليج العربي. وهو في هذا يؤكد ما جاء به كثيرون عن تعمُّد العملين تشويه التاريخ لصالح الإسرائيليين».

أما حول ادعاء أحد المسلسلين بأن التطبيع سيساعد على ازدهار الدول العربية، فيرى ونوس أنه «لدينا تجربة ماثلة أمامنا لا تحتاج لكثير من التعمق في البحث لتساعدنا على اكتشاف زيف هذا الادعاء. إنها تجربة مصر في التطبيع مع الكيان الإسرائيلي. وبمقارنة بسيطة بين حال مصر قبل التطبيع مع العدو الصهيوني وبعد التطبيع نجد أنها ازدادت سوءًا وتراجعت بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام بينهما. وكانت السلطة في مصر تعوِّل على "معجزات" الإسرائيليين في الزراعة لنسخها وتطبيقها في مصر، وهو ما لم يتحقق. كذلك كانت تأمل بالاستفادة من تقدمها التقني والصناعي، لتطوير الصناعة المصرية. غير أن تلك الآمال تكسَّرت على صخرة واقع يقول بأن هذه الأنظمة لا تفعل شيئًا سوى البحث عن أدوات تديم حكمها، عبر أشكالٍ وآلياتٍ كان بينها الإنجازات الكبيرة والتنمية، تراجع معظمها ولم يبقَ منها سوى آليةٍ واحدة، هي آلية القمع والترهيب الذي في ظله تستمر هي وتعتاش الطفيليات التي تنمو على أطرافها».

ويذهب الفرا إلى أنه «يُراد اليوم تصفية القضية الفلسطينية، بموجب صفقة القرن المزعومة، ولذلك يتم التركيز على خلق قبول شعبي لها وخاصة في دول الخليج العربي، من خلال مسلسلات مشبوهة، كمسلسل "أم هارون" ومسلسل "مخرج 7" ومحاولة إيجاد مظلومية لليهود العرب، وتعويضهم لاحقًا، ونسيان الشعب الفلسطيني، وما تعرّض له من ويلات ونكبات ونكسات»، و«يسعى الكيان الإسرائيلي إلى استثمار كل شيء من أجل التطبيع، في الرياضة والتجارة بإرسال وفوده الرياضية والتجارية إلى بعض الأقطار العربية البعيدة عن دول الطوق، وكذلك عن طريق  الإعلام، وجعل  المحللين والساسة الإسرائيليين  ضيوفًا دائمين على بعض القنوات العربية، ويسعى عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي لأن يحقق نوعًا من التطبيع مع محيطه العربي، وما يفعله أفيحاي أدرعي دليل على ذلك. فهذا الناطق باسم الجيش الإسرائيلي يخاطب العرب بلغتهم الأم، ولا ينسى أية مناسبة تخصهم، من الإسراء والمعراج، إلى ليلة القدر، حتى أن بعض بني جلدتنا صار صديقًا له، يتقبّل تهانيه وتبريكاته، بل ولا يعرف هذه المناسبات إلا من خلال أدرعي للأسف». ويستهجن الفرا سعي بعضهم ولا سيما من بعض ثائري الربيع العربي لزيارة إسرائيل، وتصويرها على أنها صديقة للعرب، فكيف يقبل هؤلاء، الثائرون على الظلم والاستبداد في بلدهم، التطبيع مع كيان مستبد بطش بالفلسطينيين ويقضم حقوقهم. كما يرفض تبرير ذلك بأنه «رد فعل على مثقفي الممانعة، وأنظمة الاستبداد والمقاومة التي تاجرت بالقضية الفلسطينية، منذ عشرات السنين، لإلهاء الشعب وحرفه عن مطالبته بالحرية والديمقراطية، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المعركة مع العدو».

وتشير قطناني إلى تغير في الجغرافيا، وانقسام في السياسات والمصالح، وتفتت للقضية الفلسطينية تحت سياط أوسلو "وعملية السلام" المزعومة، والانقسام الفلسطيني، وإلى أجيال عربية لم تعرف من فلسطين سوى اسمها. ومع اندلاع الثورات العربية لتقارع الاستبداد والديكتاتورية «انقسم الإعلام العربي حسب رؤى الممول ومدى قربه من الاستبداد وكياناته، تغيرت مفاهيم وولدت مفاهيم. ويمكن القول إن ما حدث في العالم العربي خلال ثلاثين عامًا كان أشبه بزلزال على كافة المستويات، ولم تكن القضية الفلسطينية بعيدة عن هذا الزلزال فكان الثمن دائما لمصلحة المحتل، وتوج بصفقة القرن لتصفية ما تبقى من قضية ووعي في وجدان الشعوب، وصار العمل على ترويج فكرة قبول إسرائيل والتطبيع معها جزءًا من سياسة عامة تحاول لي عنق الحقيقة والابتعاد عن السردية الفلسطينية تحت مسمى "قبول الأمر الواقع والتعامل معه"».

وضمن هذا السياق، لا ترى قطناني في عرض مسلسل "مخرج 7" على قناة "العرب" إم بي سي خطوة تطبيعية فقط بل خطوة "تشويهية وتخريبية، فعرَض المسلسل الوقوف مع القضية الفلسطينية أو ضدها وكأنه اختلاف في وجهات النظر، وحاول أن يبين أن إسرائيل أمر واقع ويجب التعامل معه، مما ينفي فكرة وجودها كمحتل وغاصب، وهو ضرب لمجموعة القيم الأخلاقية التي تحكم المشاهد العربي المتعلقة بالوقوف ودون تردد ضد الاحتلال؛ لكن الهجوم على هذا المسلسل واستهجان الحوار الدائر  ضمن المسلسل عمل من حيث لا يتوقع القائمون عليه المفعول العكسي بتعميق الوعي الجمعي والتوافق على دعم القضية الفلسطينية، وبإمكاننا ملاحظة الهاشتاغات التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي وليس آخرها هاشتاغ "فلسطين قضيتي" الذي حصد تفاعلا كبيرًا ردًا على هذه الأصوات النشاز".

 

إضفاء الشرعية على الأنظمة العربية

قبل الربيع العربي شهدنا في المواسم الرمضانية السابقة أعمالا حققت رواجا جماهيريا وقامت بنقلة فنية نوعية على صعيد التعاطي مع السردية التاريخية الفلسطينية؟ لماذا تغيب هذه الأعمال اليوم، وهل يتوقع أن تحظى اليوم بنفس تلك المتابعة الجماهيرية؟ وهل عادت محاولات توظيف الدراما لإضفاء الشرعية على الأنظمة العربية من خلال اللعب على موجة القضية الفلسطينية؟

الفرا يعتقد أن مسلسل "حارس القدس" للمخرج الفلسطيني باسل الخطيب الذي «عرضه الإعلام السوري في رمضان ويحكي سيرة حياة رجل الدين هيلاريون كبوجي الحلبي الولادة والمقدسي الانتماء، لا يخرج عن السعي التقليدي للأنظمة العربية للمتاجرة بالقضية الفلسطينية وإيجاد كل المبررات، لقمع الشعب بحجة العدو الخارجي، وأن "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، حتى لو كان هذا الصوت صوت الشعب الجائع المطالب بحريته وكرامته».

وحول هذا المسلسل يذهب رئيس قسم الرأي في العربي الجديد الكاتب معن البياري في مقاله «"حارس القدس".. الدعاية وكبوجي معًا» (العربي الجديد 22 مايو/أيار 2020) إلى أن المسلسل «لم يفلح في إنقاذ نفسه، طالما أنه من إنتاج وزارة الإعلام السورية. ومحسومٌ أنه ليس من مهمّات الوزارة هذه غير الدعاية للحُكم الذي تمثله. وللإنصاف، سبق أن أنجزت المؤسسات الإنتاجية الحكومية السورية أعمالا سينمائية وتلفزيونية ممتازةً وعالية المستوى، حتى من منظور سياسي أحيانا، في عقودٍ مضت، غير أن ذلك الزمن ولّى، وصرنا في حالٍ آخر».

ويضيف البياري «ينبني "حارس القدس" على الذهاب من الحاضر إلى محطّاتٍ من الماضي، وتتناوب مشاهد من الزمنين، في "فلاش باكات" كثيرة وطويلة، غير موفّقة في مطارح غير قليلة. وذلك لحرص السيناريست والمخرج على أن يقدّما إطلالاتهما على المشهد السوري الراهن، من عيونهما المنحازة لرواية السلطة ودعاياتها، ومن منظورٍ يتصوّرانه متفقا مع ما كان عليه كبوجي». وثمة مشكلة يراها البياري «في المنحى البعثي الأسدي في غير موضع، مع تغييب تفاصيل أخرى، فمن غير الأمانة، مثلا، إغفال اهتمام ياسر عرفات بالمطران، وقد أرسل بعثةً خاصة لاستقباله في روما لمّا تم إبعاده إليها. ولا يجوز إهمال أن زيارة كبوجي الأولى إلى دمشق من روما كانت ليحضر اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني، بدعوةٍ من عرفات، وإنْ ليس مستبعدا أن يكون المطران هاتفَ حافظ الأسد لترتيب الزيارة، على ما شاهدنا في المسلسل الذي يكاد الأسد أن يكون من شخصياته من كثرة ما جاء السيناريو عليه حانيا على المطران، ومهموما بفلسطين وشعبها».

ويختم البياري أن كبوجي ساهم في تأسيس «أولى خلايا المقاومة المسلحة في القدس، بعد حرب 1967، ونضالُه من أجل فلسطين معلوم ومشهود، غير أن من الملحّ أن لا يُنسى أنه لم ينتصر للسوريين المظلومين، في ثورتهم ضد نظام العسف والاستبداد، والذين استهدفهم المسلسل التلفزيوني في مشاهد وفيرة، أريد فيها التعمية على أي قولٍ آخر، في غضون احتفاليةٍ مستحقّةٍ بالمطران كبوجي وسيرته».

ترى قطناني «أن مسلسلات مثل التغريبة الفلسطينية أو الاجتياح وغيرهما من المسلسلات غابت عن الذاكرة يومًا لقوة السيناريو والإخراج وأداء الممثلين، وشكلت وعيًا جمعيًا أعاد سردية النكبة والاحتلال وبشاعته» أما غيابها اليوم فلا تراه غيابا للفكرة بقدر ما هو غياب للرؤية والهدف، وللاستراتيجية والإرادة لفعل التغيير عند صاحب القرار والمال؛ وأنه لو «وجدت هذه الأعمال ستحظى بمتابعة جماهيرية كما في السابق، فرغم انشغال الشعوب العربية بهمومها وأوجاعها وموتها اليومي إلا أن طرح أي قضية عادلة ستكون محاكاة لحال هذه الشعوب، فالنزوح واللجوء والخيمة والوطن، كلها عناصر يتوق المشاهد العربي الذي يحلم بالحرية والكرامة على طول البلاد وعرضها لأن يرى نفسه فيها سواء كان يقارع محتلًا على أرضه أو يقارع مستبدًا قاتلًا في بلاده، ولهذا أعتقد أن أي عمل هادف يتمتع بسوية فنية وذائقة عالية سيحظى بالمتابعة».





الحاجة إلى منابر حرة

هل تنجح الدعاية الصهيونية اليوم بإقامة دولة إسرائيل لا في الواقع الملموس فحسب، بل أيضا في الثقافة والفكر والخطاب السياسي؟



يعتقد الفرا أن الشعب العربي رغم كل ذلك لا يزال «يردد مع الشاعر الراحل أمل دنقل:

لا تصالح

إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة:

النجوم لميقاتها

والطيور لأصواتها

والرمال لذراتها

والقتيل لطفلته الناظرة».

وتعتقد قطناني أنه «قد تنجح الدعاية والبروباغندا الصهيونية بدءًا من مسلسل فوضى أو الجاسوس على نتفليكس برغم التشوهات داخل هذه الأعمال الكبيرة والمغالطات الكثيرة سواء سرديا أو فنيا أو تاريخيًا، ولكن المال يحكي، والعمل ضمن مؤسسات ضخمة تضع هذه السردية كأولوية لها بالضرورة سيصنع وجهة نظر تروج لهذه الرواية. وصحيح نحن أقوياء بالحق، ولكن نحتاج لمؤسسات ثقافية وفنية تمول أعمالًا ضخمة تدعم هذا الحق كي نمتلك القدرة على الوقوف في وجه هذه الدعاية وهذه القدرة الصهيونية على الترويج. يحتاج صانعو الإعلام والفن لمساحة من الحرية ودعم مادي لخوض هذه المعركة؛ ونحتاج لمنابر حرة للترويج لرؤى السردية الفلسطينية والحقوق العربية، ونحتاج لبيئة كاملة من الحرية حتى ينفلت الإبداع من قمقمه لاستمرار المواجهة على مستوى الإعلام الذي يعيد كتابة التاريخ ولتوضيح سردية اللجوء ومقارعة الاحتلال».

العربي الجديد

أضف تعليقك