الانسان في ما بعد الحداثة (3/4)

الانسان في ما بعد الحداثة (3/4)
الرابط المختصر

 

 

يفكك الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز والمعالج النفسي فيليكس غواتاري في كتابهما  (ضد أُوديب) وهو الجزء الأول من مجلد مشترك بعنوان (الرأسمالية والفصام)، النظرية الفرويدية المتعلقة بعقدة أُوديب ونظرية الفقد اللاكاني ويقولان بان الرغبة لا ترتكز على الفقد سواء كان فقد عقدة أُوديب أو الفقد اللاكاني، ولكنها آلة إنتاج متعددة ودائمة التدفق. يكتب غواتاري ودولوز في مقدمة (ألف هضبة) وهو الجزء الثاني من المجلد: " لقد كتبنا نحن الاثنين (ضد أُوديب)، ولأن كل منا متعدد، فقد كان هناك ازدحاماً كبيراً. هنا وظفنا كل شيء في متناول أيدينا، مهما كان بعيداً أو قريباً. كما أننا اعتمدنا استعارات بارعة للتخفي. ولكن لماذا كان علينا أن نحتفظ باسمينا؟ إنها العادة ولا شيء آخر. لنجعل من نفسينا غير معروفين. لنتحول إلى غير مدركين، ليس ذواتنا ولكن ما يجعلنا نعمل ونشعر ونفكر. ولأنه من اللطيف أن نتحدث كالآخرين، أن نقول أن الشمس تشرق، عندما يعرف كل شخص أنها طريقة للحديث. وحتى نصل، ليس إلى مرحلة لا يقول فيها أي شخص أنا، ولكن عندما لا يصبح لقول كلمة أنا أية أهمية تذكر. عندما لا نصبح أنفسنا. كل فرد يعرف نفسه. عندها نكون ملهمين، متعددين، ومتعاونين".

 

من الواضح أن دولوز وغواتاري يرفضان فكرة الذات أو الأنا الثابتة والمستقرة والموحدة، تماما كما يرفضان موقف الشخص الثابت. ويعتقد الفيلسوفان الفرنسيان بأن (الإيجو) يجب أن تزال لصالح اللاوعي حيث الرغبة واللا-سيطرة. وبرفضهما لفكرة الذات الحداثية العقلانية المستقرة ولفكرة الذات المركبة اللاكانية، يؤكد دولوز وغواتاري على أن الأشخاص في ما بعد الحداثة هم كائنات رغبة فصامية. وقد قادت هذه الفكرة عن الشخص الفصامي الفيلسوفان إلى التحول من التحليل النفسي الفرويدي واللاكاني إلى التحليل الفصاميschizoanalysis. ويرى دولوز وغواتاري أن (الفصامي السليم) يتمتع بلاوعي منتج وانه لا يتخيل أو يتوهم، ويؤكدان انه يصنع وينتج الحقيقة. وهذا المفهوم يتعارض تماما مع المفهوم الفرويدي واللاكاني عن اللاوعي الذي يراه الاثنان دراميا وهميا رمزيا ومائعاً، ولذلك فإنهما يربطان الرغبة بالفقد. بمعنى أن الرغبة ترغب بما هو وهمي وغائب ومقموع. وهكذا فإن الرغبة بالنسبة لكليهما متورطة تماما بكل ما هو مفقود ويحتاج إلى تمثيل. وهكذا، فإن الرغبة تفسح المجال لتمثيل ما هو مفقود، المغامرة الأُوديبية، الأنا المثالية. ولكن الفصامي لا يمكنه اختبار الفقد، وبالنسبة له فإن اللاوعي منتج دائما وغير وهمي على الإطلاق.ولأن اللاوعي الفرويدي غير مثمر فإن التحليل النفسي الفرويدي واللاكاني لن يقدما شيئاً للإنسان. لذلك فإن الفصامي يحلل ويفكك الرموز ويعيد تشكيل الحوار في عملية التحليل النفسي، وبالتالي فإنه يغير مظهر الدلالةإلى الواقع ويرفض أن يكون أُوديبياً. والفصاميون " يهربون من الترميز، ويحللون الرموز ويفرون في جميع الاتجاهات لـ[أنهم ] أيتام (بلا أمأوأبأوذات)، ملحدين (بلا معتقد) ورحالة (بلا عادات أوتخوم محددة)". وهكذا فإنالفصامية عند دولوز وغواتاري لن تسقط في فخاخ السلطة والقمع وشبكات استبدادالدوال التي تشبع بها المجتمع وممارسات التحليل النفسي. وقدرة الفصامي على تحليل وتفكيكالرموز هي التي يربطها دولوز بالرأسمالية المعاصرة، ذلك إنالرأسمالية المعاصرة يمكنها أن تقحم نفسها في أي مكان أو في كل مكان بوصفها قادرة على تفكيك الرموز والخوض في غمار الطرق الوعرة.

 

لا يرى دولوز وغواتاري أنالرأسمالية متجانسة أو وحدوية. إنها لا تمتلك (الإيجو)أوالأناالخاصة أو أي هوية متوحدة، وبدلا من ذلك فإنها تعمل بوصفها مدمرة متعددة الأشكال للرموز. إنها تحطم باستمرار الحواجز الثقافية والرمزية واللغوية وتخلق تبادلا دائما في الحدود والتخوم. لذلك يؤكد الفيلسوفان على أن "الحضارة تحدد من خلال فك رموز ونزع حدود تخوم تدفقات الإنتاجالرأسمالي"  ويؤكدان أيضاًأن التدفق الفصامي يماثل التدفقات الرأسمالية من ناحيةقدرتهما على فك الرموز.

 

ولا بد من الإشارة إلى أن دولوز وغواتاري يتفقان مع فريدريك جيمسون في تحديد الإنسان ما بعد الحداثي بوصفه فصاميا وبربط الفصام بالرأسمالية، إلا أن جيمسون الذي ينطلق من خلفية ثقافية مغايرة، يرى " أن الفصام هو تمثيل الإنسان ما بعد الحداثي الذي منح رؤية غير متمايزة للعالم من حوله ". ويقول ""الخبرة الفصامية هي خبرة الدلالات المادية المنفصلة والمنعزلة التي فشلت في الترابط والوصول إلى سلسلة متماسكة. وتبعا لذلك فإن الفصامي لا يعرف هوية شخصية بإدراكنا، لان شعورنا بالهوية يعتمد على إدراكنا باستمرارية الـ(أنا) و(لي) على مر الزمن". الأمر الذي فصمته مرحلة المرآة اللاكانية. ويرى جيمسون أن الرأسمالية المعاصرة قد وسعت أعراض الفصام إلى الجماهير العريضة في صيغة الثقافة ما بعد الحداثية. ذلك أنه ينظر إلى ما بعد الحداثية والفصام بوصفهما قوى ثقافية تحلل وتشوش، وتبعاً لذلك فإن التشويش الفصامي يحطم إمكانية المنظور الحاسمة التي سادت مرحلة الحداثة. وفي ظل هذا التشظي فإن الرأسمالية والاستهلاكية يزدهران دون معارضة تذكر. وعندما يقول بأن الثقافة ما بعد الحداثية هي ثقافة فصامية فإنه يعني أنها ليست إنسانية كاملة، ذلك أنها كالفصامي تماما " فشلت في التوافق الكامل مع عالم اللغة والحديث "، وتميزت بالاقتلاع والانفصال عن التاريخ وبأنها خارج الزمن الإنساني.

 

ينزع تدفق الرغبات، حسب مفهوم دولوز،(flow of desire)حدود الإنسان (deterritorization)ويحوله إلى جسد دون أعضاء، ويصبح عبارة عن رغبات لا- إنسانية محضة. يهدف هذا التحول (becoming) الدولوزي ـ الذي يعني تفجير الطاقات الكامنة ـ إلى إدراك الافتراضيvirtual)) بوصفه طاقات كامنة potentiality))، وتكرارا للفشل. ذلك أن التحول المحض يتوافق مع التكرار، تكرار الفشل.

ويمكننا أن نأخذ فكرة التحول عند دولوز من الإنسان إلى الحيوان (becoming animal) بوصفها مثالا يوضح مفهومه عن التحرير الافتراضي وتدفق الرغبات اللا- إنسانية وخلق التعددية داخل الإنسان.

 

 

باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

 

1-       أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2-       الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014.

3-       نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4-       فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.

أضف تعليقك