الاستراتيجيات السردية وسياسة التمثيل في رواية ما بعد الحداثة

الاستراتيجيات السردية وسياسة التمثيل في رواية ما بعد الحداثة
الرابط المختصر

 

يختلف تحديد ما بعد الحداثة تبعا للسياق الذي تتحدد فيه، ومن أهم السياقات التي أثرت في استراتجيات السرد ما بعد حداثي هي: السياق التاريخي، والسياق الفلسفي، والسياق الأدبي. فمن ناحية السياق التاريخي أو التاريخي الاجتماعي فإن ما بعد الحداثة هي الفترة التي تلت الحداثة تماما، إذ أن الحداثة جاءت بعد عصر النهضة, وتميزت هذه الفترة  بإنهيار العقلانيّة وروح التنوير. أما في السياق الفلسفي فإن ما بعد الحداثة تشير إلى نقد القيم التقليدية والإيديولوجيات، فضلا عن كونها مرحلة نهوض التشكيكات المعرفية ونقد ما أطلق عليه القصص الكبرى أو ما وراء السرديات. ويقترب هذان المفهومان من المفهوم الأدبي لما بعد الحداثة، فعلى المستوى الأدبي فإن ما بعد الحداثة تشير إلى النظرية الأدبية والتطبيق الذي ينتقد ويتجاوز الأشكال السردية والتأويلات وطرق التحليل الأدبي التقليدية والحداثية على حد سواء.

 

وفي حين تتميز الحداثة بوحدة منهجية - وإن كانت ضبابية - لأنها تضع وزنا كبيرا لطريقة أو شكل التقديم. تتميز ما بعد الحداثة بالتنوع الذي لا يحاول خلق انطباع بنيويّ. ومما لا شك فيه أن مصطلح ما بعد الحداثة التاريخي وثيق الصلة بما بعد الحداثية الأدبية، إذ يشير أكثر الأدباء إلى أن أصل المصطلح مرتبط  بالحرب العالمية الثانية، والإبادات الجماعية للأقليات التي سبقت هذه الحرب أو تزامنت معها، أي التي شظت بصورة جوهرية الإيمان بالعقلانية بوصفها مصدر الفلسفة الإنسانية والتطور والأخلاق.

 

إن توظيف العقلانية  لتحقيق أهداف شائنة، وأسلبة الرعب بوساطة استغلال الفن يستجوب صلاحية العقلانية وأضحى التركيز على قضية "من الذي يوظف العقلانية  لمصالحه وللوصول إلى أي هدف؟ السؤال الذي يقترب في فكرته الأساسية من مفهوم "سياسات التمثيل"The politics of representation .  يشير مصطلح التمثيل إلى تركيب أو بناء جوانب من الواقع / الحقيقة مثل الناس أو الأماكن أو الأحداث أو الهويات الثقافية أو غيرها من المفاهيم المجردة في بنية ما يمكن أن تكون جنسا أدبيا أو بناء هندسي أو عمل فني.

 

منحت ما بعد الحداثة المبدعين إجمالا فرصة للتحرر من القيود، إذ يقول ليوتار:

"الفنان والكاتب  يعملان الآن بدون قواعد من أجل تشكيل وصياغة  قواعد ما سيتم انجازه".

 

يفترض التقليد او المحاكاة Mimesis  أن التمثيل هو نسخة طبق الأصل عن "الواقع"  ويفترض أيضا أن هناك واقعا لتمثيله. وإذا ما وظفنا هذا التحديد للتمثيل, تقول هتشيون "أن ما بعد الحداثة  تتحدى افتراضات التمثيل المرتكز على التقليد والمحاكاة " أي أن الفاعل (روائيا   كان أو فنانا أو مهندسا)  يقوم بنزع الطبيعة الأصلية عن الواقع التي افترضت الإيدولوجيا أنه الحقيقة. ولذا فإن روايات ما بعد الحداثة توظف ثم تخرب الاتفاقيات السردية لتحقيق هذه الغاية.

 

ويمكننا القول أن كل ما يكتب حول شخصية ما في العمل الفني  يشكل فضاءً استطراديا discursive space , ومركزا  مبهما  لتمثيلات متنافسة. إن رمزية الفضاء الاستطرادي تلفت انتباهنا إلى أمور عدة، أولها: التركيز على الخلاف؛ فهناك دائما في الحياة الاجتماعية صراع حول كيف يجب أن تفهم الأشياء، ولهذا السبب فإن الحديث عن سياسة التمثيل يحمل معانٍ كثيرة.

 

وثانيها: نجد أن للسلطة دورا في قضية التمثيل، إذ اهتم علماء الاجتماع اللذين درسوا الخطاب  بطريقة الناس أو المجموعات أو الهيئات في إدارة أو تحريك أو تعبئة المعاني, وكيف أن بعض التأويلات تصبح أكثر هيمنة ولصالح من يتم ذلك؟

 

ومن المعروف أن  السيطرة على الخطاب مصدر حيوي للسلطة ومن المعروف أيضا أن هناك حدود  لتلك السيطرة , ذلك إن المعاني مائعة وقد تهرب من موظفيها ويمكن تعبئتها وإعادة اشتغالها لتقاوم الهيمنة. نجد في رواية ما بعد الحداثة على سبيل المثال، رواية أو بناء تاريخيا موازيا لبناء الرواية ويقوم البناءان معا بقلب اتفاقيات وإيديولوجيات الثقافة السائدة والقوى الاجتماعية المهيمنة.  وما نحتاجه هنا ليس علاقة 1:1 بين العلامة والشيء, تلك العلاقة الاستبدادية الاعتباطية. إن نظرية التمثيل الموحدة هي التي سادت في مرحلة الحداثة وهي بالتحديد ما قامت ما بعد الحداثة باستجوابها والتشكيك فيها. هناك أمر مشترك بين ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية على حد سواء وهي أن العلاقة التي تحكم العلامات والعالم الواقعي قد عكست. إن حالة الأشياء في العالم الخارجي لم تعد هي التي تحدد  أنظمتنا التمثيلية  بل إن طبيعة أنظمتنا التمثيلية هي التي تقرر الطريقة التي ندرك فيها العالم الخارجي. تلخصت تبعات انتقاد وتفكيك معايير وقيم الحداثة في ثلاث اتجاهات؛ الأول: ما تبناه بودريلار بأن تفكيك ما وراء السرديات كان سلبيا, وأدى في النهاية إلى تدمير الشيء والموضوع على حد سواء, وبالمقابل كان الاتجاه الآخر الذي ثمن فقد الاتجاه الناتج و تعددية الخطابات واعتقد بأن الإطاحة بعرش العقلانية كان خطوة مهمة في طريق الحرية وكان كتاب "سياسات الرغبة " لليوتار الممثل الرئيسي لهذا الاتجاه أما الاتجاه الثالث فقد مثلته ليندا هتشيون التي وقفت  من ما بعد الحداثة موقفا دياليكتيكيا نقديا. إن مفهومها عن ما بعد الحداثة كان جماليا أدبيا على نحو خاص يوازن المخاطر والمزايا المحتملة.

 

إن أهم اشتغالات الرواية  في حقبة ما بعد الحداثة هو مَشْكَلة معرفة الماضي من منظور معاصر. و خلفية هذه المَشْكَلة هو نقد التمثيل.  وبتوظيف هذا المفهوم يمكننا تحديد باقي العناصر ما بعد حداثية في الرواية مثل نقد التأويل أيضا. فإذا ما انطلقنا من فرضية أن السذاجة التمثيلية( علاقة 1:1 بين العلامة والشيء) لم تعد خيارنا فإن أي تمثيل أو تأويل لا يعكس بالضرورة الوضع الذاتي  للقضايا المطروحة فحسب وإنما يتناول التفضيلات والميول وحتى  الأهواء والنزعات الشخصية لأولئك اللذين ورطهم الروائي في روايته. وهذا يعني أن الروائي الذي عرض علينا بنياته السردية وحرضنا على تشكيل فرضيات تأويلية لم يتمكن من تنحية تأثير اهتماماته الخاصة على ما يطرحه.

 

لقد طرحت الحداثة قضية ما إذا كان المؤلف وحده هو خالق النص ومبدعه (ملمحة إلى أهمية  التناص وتأثيره على الروائي) وبالتالي فإن اعتماد وجهة نظر واحدة ومتوحدة أصبح خاضعا للتشكيك والمساءلة. ومع تلاشي الموضوع الموحد الواحد. أصبح من غير المحتمل حكي قصة متماسكة. وتهتم ما بعد الحداثة تحديدا بالأبعاد السياسية  لهذا التفكيك: السلطة المهيمنة.  وعلى مستوى تقانات السرد  قامت رواية ما بعد الحداثة بمحاولات عديدة لتشظية البناء السردي / السلطوي إن لم يكن محوه تماما موظفة نوعا أدبيا ما بعد حداثي أطلقت عليها ليندا هتشيون ما وراء القص التاريخي الذي يتعامل مع التاريخ والتخييل بوصفها تراكيب لغوية وإيديولوجية مُنِحت صلاحية وشرعية تستند إلى وفرة النصوص السابقة.

 

تستجوب رواية ما بعد الحداثة ـ التاريخية منها على وجه الخصوص ـ  الحدود بين التاريخ والتخييل بل أنها تسعى لإظهار "أن التخييل هو تكييف تاريخي وأن التاريخ تركيب استطرادي  لذلك يمكن القول أنها قد نجحت في توسيع النقاش عن التضمينات الإيديولوجية للسلطة والمعرفة " من أجل  "تقديم السياق التاريخي ومَشْكَلت قضية المعرفة التاريخية برمتها " ولفتت  الانتباه إلى وجود بديل للمفهوم المحدد للتاريخ بل أنها قدمت النموذج البديل لتوظيفات الحكاية التاريخية والزمن الخطي . يتبنى الروائي ما بعد الحداثي موقفا محددا (ضد) التاريخ بوصفه حليفا للسلطة الإيديولوجية والمؤسسة الرسمية المهيمنة. لذلك لجأ إلى توظيف الاستراتيجيات الشكلية مثل التناص والتهكم والمحاكاة الساخرة والمفارقة التاريخية ومزج الأجناس الأدبية لتحقيق نقلة من  إدراك الأدب الذي ينتج تحت ظروف سياسية معينة إلى الأدب الذي يستجوب السياسات التي أنتجته وهذا هو بالتحديد ما أطلقت عليه هتشيون "سياسات التمثيل".

 

يرتكز التناص ما بعد الحداثي في الرواية على ثلاث فرضيات:

1-أن هناك نوعا خاصا من التناص ممايزا لأدب ما بعد الحداثة ويختلف عن التوظيف السابق للتناص

2-إن التناص في كتابات ما بعد الحداثة تفكيكي, وانتقادي للخطابات المتجانسة والسرديات الكبرى

3-إن هذا التناص الخاص جدا هو العنصر الأساسي  في أدب ما بعد الحداثة .

 

وظفت معظم  الروايات التناص  ـ ومنذ زمن بعيد ـ  ولقد  نظر إليه في السابق بوصفه تفاعل بين القارئ والمؤلف, ذلك أن المؤلف  يفترض أن قارئه على علم بتناصاته ويفترض القارئ أن المؤلف يعلم بمعرفته عن هذه التناصات وبالتالي يصبح التناص علاقة واعية جدا بين القارئ والمؤلف. وفي كتابات ما بعد الحداثة فان النص الذي لا يتأثر بالتناص أضحى في حكم المستحيل.  ولكن الطرق التي تدخل فيها هذه التناصات ضمن النص لم تعد في نطاق وعي القارئ أو المؤلف. وبينما كان المؤلف الحداثي يتحكم في التناصات التي يرغب في لفت نظر قارئه إليها فان القارئ لنصوص ما بعد حداثية يترك وشأنه ليقرر بنفسه التناصات التي سيضعها في اعتباراته القرائية ذلك أن تناول كل التناصات في نص ما أصبح مستحيلا. ومن التداعيات الأخرى  لتوظيف ما بعد الحداثة للتناصات هو استجواب طبيعة أي نص بوصفه وحدة متكاملة لأن التناصية تشظي النص إلى تشظيات مختلفة على القارئ أن يعيد تجميعها بحرية تامة. تبنت ما بعد الحداثة تقانة المرجعية الذاتية من الحداثة, وهناك عدة طرق يلمح النص ما بعد الحداثي بها إلى نفسه ولكن خصوصية المرجعية الذاتية ما بعد الحداثية تتجلى في التركيز على سياسات التمثيل وتتضح في المساءلة المتكررة لتوظيفات وحالة كل نص.

 

إن توظيف التناص في رواية ما بعد الحداثة يطابق نظرة هتشيون لكتابات ما بعد الحداثة التي تتورط مع  التناص ثم تنتقده . التورط معه بمعنى أن التناص يساعد في إضفاء انطباع متماسك  وواقعي وانتقادي لأن التناصات تكشف الطبيعة التخيلية لأجزاء النص الأخرى . وبهذه الطريقة فإن التناص يضرب مثلا على المشكلة المعرفية التي تميز ما وراء القص التاريخي والتي هي بحد ذاتها مثلا على التشارك والنقد في آن واحد.

 

باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:*

 

1-  أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2-  الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني

أضف تعليقك