الإنسان ما بين الدين والفلسفة

الإنسان ما بين الدين والفلسفة
الرابط المختصر

 

الإنسان موضوع مهم لكل من الدين والفلسفة وبالتالي لفلسفة الأديان، فقد رأته الديانات المختلفة بأنه صورة الله "خلقه على صورته ومثاله" أو "إبن الله" أو "خليفة الله على الأرض" أو "عيل من عيال الله" والإنسان مدعو إلى الارتقاء فوق ماديته لتحقيق مثاله الأعلى وإنسانيته المؤلهة (كما في الديانات الشرقية).

 

بينما نجد أن أول تعريف للإنسان عند أرسطو "أنه حيوان ناطق ويعرفه آخرون بأنه حيوان ذكي مفكر. أعاد أرسطو الإنسان إلى مملكته الأرضية وردّه إلى جنسه الطبيعي أي الجنس الحيواني دون أن يبخس بأحد ميزاته أي النطق ومن ثم العقل الذي يتميز بالذكاء والتفكير كما صاغها ديكارت "أنا أفكر أنا موجود".

 

أظن أن الدين تمنى على الإنسان أن يرتفع فوق حيوانيته إلى مستوى عالٍ وراقٍ فنحته كصورة لله، باعتبار ما سيكون أو يجب عليه أن يكون، وهذه نظرة ميتافيزيقية للإنسان "المثال أو الساكن لعالم المثل" بينما رؤية بعض الفلاسفة له "كحيوان ناطق" باعتبار ما هو واقعي أو ذكي. أي ما هو عليه في طبيعته البيولوجية، فالإنسان يشترك مثلاً مع الشمبنزي في 98-99% من الجينات دون أن يبخّس من عقله وذكائه وتفكيره.

 

السؤال، هل يمكن إجراء حوار ما بين هذه النظرة الميتافيزيقية وتلك النظرة البيولوجية المختلفة عنها تماما؟ سيجيب البعض بأن هناك إمكانية لمثل هذا الحوار، وآخرون بأنه لا يمكن أن يتم التوافق ما بين نظرة ميتافيزيقية وأخرى بيولوجية. تكتفي فلسفة الأديان ببيان هاتين الصورتين دون انحياز إلى إحداهما. ويكمن عملها في تحليل هاتين الفكرتين تحليلاً عميقاً لبيان مرجعيتهما التاريخية أولاً والأهم مرجعيتهما الفكرية أو العقلية ثانياً، فتسأل: لماذا تكونت صورة للإنسان ميتافيزيقية الطابع، أي تصورته على صورة الله وهي لم ترَ الله أبداً؟ يقول اللاهوتيون أن ثلاثة أمور ميزت الإنسان عن باقي الحيوانات، وهذه الأمور لا يمكن أن تكون من منشأ أرضي مادي وواقعي، بل من منشأ سماوي إلهي ومثالي. فالإنسان يتميز بالعقل والذكاء، وهو روحي الطابع ليس مادياً أو حيوانياً، ويتميز بحرية الإرادة عكس الحيوان الذي تسيرة غرائزه، ويتميز بالمقدرة على الحب ويمتلك شعوراً وعواطفاً بينما الحيوان لا يمتلكها. وكل هذه الأمور توجد في الله، العقل والذكاء الأول، وصاحب الإرادة المطلقة، والمحب للبشر والمخلوقات.

 

تقدم الفلسفة نقاشاً لكل هذه المقولات مبتدئة بالأمور التي توجد في الله وتقول للدين: هل عرفت حقاً أم تصورت أن هذه الصفات موجودة في الله؟ يجيب اللاهوت والدين: استنتجت ذلك استنتاجاً عقلياً، أي بعد أن رأيت خلق الله للإنسان ومن المخلوقات والكون الذي يدل على خلقه. تسأل الفلسفة: إذا لم ترَ شيئاً موجوداً هل يمكن أن تتخيله، مجرد محض خيال، دون أن يكون لك ولو فكرة بسيطة عن الموجودات؟ يجيب اللاهوت: صحيح ما تقوله الفلسفة إلا أن  ما هو موجود يدلنا على الغائب البسيط يدلنا على الموجود المعقد أو إلى الأعقد منه وهكذا. تسأل الفلسفة مرة ثانية: لو لم ترَ العقل الذكاء والإرادة والمحبة لدى الإنسان هل كنت لتستطيع أن تتخيلها في الله؟ يجيب اللاهوت: إنه موجود في الإنسان بشكل نسبي ولكن لا بد أنه موجود في الله بشكل مطلق. وهنا يتدخل الفيلسوف فيروباخ ليقول: صحيح أن كل هذه الصفات إنسانية ونسبية، إلا أن الإنسان نسبها إلى قوة مطلقة تقع في خارجه سماها الله، ومن ثم أطلقها من نسبيتها فاغترب عنها. فلم يرَ أحدهم الله يفعل خيراً، بل رأوا أن الإنسان يفعل خيراً محدوداً نسبياً، بعدها تصور وجود كائن يمتلك خيراً مطلقاً فسموه الله وأعطوه صفة الخير الأعلى أو الخير المطلق، وهكذا غرب الإنسان خيره وأسكنه في مكان خارج نفسه، وهكذا فعل بكل الصفات الإنسانية الأخرى، فيقول فولتير "إذا كان الله صنع الإنسان على صورته ومثاله، فقد رد له الإنسان الجميل" أما فيروباخ فيقول" إن الله من صنع تصورات الإنسان الذي أبى إلا أن يغرّب صفاته الإنسانية ولا يقبل بنسبيتها، بل نسبها إلى قوة مطلقة تقع في خارجه".

 

وبالطبع لا يقبل اللاهوتيون هذا المنطق ويتهمون فيروباخ بالمادية الفجة، ويعود الفلاسفة متسلحين بالعلم إلى نسبة الإنسان إلى أرضه وواقعه، فيقولون بأن العلم أثبت نظرية تطور وتأقلم الأنواع الداروينية التي يمكن أن تفسر تطور الإنسان على مدى ملايين السنين من إنسان بدائي يشبه الحيوانات إلى حد بعيد، إلى إنسان مستعمل لعقله وذكائه ولعواطفه.

 

فإذا كان عمر الإنسان على الأرض يزيد عن ملايين السنين، فقد خضع لعملية تطور وتأقلم طويلة أكسبته مهارات عديدة استعمل فيها دماغه وطور أدواته وبنى حضارته شيئاً فشيئاً فأصبح إنساناً على شاكلة اليوم.

 

ويستدلون على أن الأنواع الأولى (البشرية) كانت تملك 400مل3 من حجم الأدمغة (حجم الدماغ) وإنسان اليوم يملك 830مل3 من حجم الدماغ، وهذا بدوره مع الاستعمال والمهارات أدى إلى مضاعفة الذكاء.

 

لا تكتفي فلسفة الدين بمراقبة هذا الحوار أو الجدال الذي يدور ما بين الفلسفة والدين، إنما تحاول جهدها في جعله معقولاً، ومن ثم في تحليله، لتقول: أن المنطلقات الدينية النظرية تختلف عن المنطلقات الفلسفية والعلمية ومن ثم ينتج عن هذا البناء النظري اختلاف في النتائج للرؤية الدينية للإنسان، وللرؤية الفلسفية للإنسان. فبينما تركز الرؤية الدينية وتنطلق من منطلقات قصدية أي أنها تعرف قصدها لذلك تبني نظريتها، وقصدها هنا الرفع من إنسانية الإنسان ومن ثم دفعه إلى التسامي عن طبيعته الحيوانية والغرائزية للوصول إلى الروحانية، تبني الفلسفة منطلقها النظري من الواقع الإنساني المادي والبيولوجي، لتبين ما هي طبيعة هذا الإنسان ومن ثم ما يمكنه وما لا يمكنه فعله.

 

وبين النظرتين هناك تقاطع وافتراق، فرفع الطبيعة الإنسانية إلى فوق هو عمل جميل ومجهد وصعب، وفهم الطبيعة الإنسانية وحدودها هو عمل جميل وصعب أيضاً، فهل يمكن للدين أن يأخذ بحسبانه هذه الطبيعة ولا يجور على الإنسان ولا يتخيله غير ما هو عليه؟ وهل يمكن للفلسفة أن تساعد الدين في جهوده لرفع الطبيعة الإنسانية إلى مستوى أعلى من الروحانية والتسامي؟ هنا تصبح فلسفة الدين ممكنة ومثمرة ومن ثم قادرة على مساعدة الإنسان في مسعاه نحو إنسانيته العليا دون تحايل ودون جهل بهذه الطبيعة ونسبيتها وحدودها.

 

عضو الجمعية الفلسفية الأردنية وأستاذ الفلسفة في الجامعة الأردنية حاصل على دكتوراه في اللاهوت من جامعة اللاتران بإيطاليا، دكتوراه في الفلسفة من جامعة كليرمونت في كاليفورنيا دكتوراه في الفلسفة من جامعة الكسليك في لبنان.

أضف تعليقك