الإنسان في ما بعد الحداثة (4/4)

الإنسان في ما بعد الحداثة (4/4)
الرابط المختصر

 

يزعم دولوز في كتابة (الجسد: اللحم والروح: التحول إلى حيوان) أن الجسد بنية برأس دون وجه، الأمر الذي يعني أن وجه الإنسان يتنصل أو يقمع الحيوانية (الروح الحيوانية) في الجسم.وبالنسبة لدولوز، فإن الرأس يدلل على الطبيعة الحيوانية للإنسان، في حين أن الوجه يرسم الطبيعة البشرية.

 

ويقول دولوز أن الرأس هو جزء "لا يتجزأ من الجسم، وأنه يمكن اختزال الجسد إلى رأس". ويؤكد على أن الرأس هو مكان "الروح الحيوانية". وهكذا فإن سلسلة الكنايات هي:(الجسد =الرأس = الحيوان= الروح). ولا بد أن يحدث التحول المنشود في الرأس. ويرى دولوز أن "التحول إلى الحيوان لا يشير إلى (افتتان بالخارج) بقدر ما أنه يشير إلى سرب أو قطيع أو تعددية تسكن في دواخلنا". ذلك أن كل حيوان بالنسبة لدولوز هو (سرب أو قطيع) أو (فرقة)، بمعنى أنه سرب من صيغ ووسائط وليس صفات فردية. وتحدث مواجهة الإنسان مع الحيوان عندما يظهر هذا الأخير في صيغة القطيع. يميز دولوز بين ثلاثة أنواع من الحيوانات:

1-   حيوانات أليفة متفردة تجذبنا نحو التأمل النرجسي.

2-   وحيوانات ذات خصائص أو سمات تشير إلى حيوانات أسطورية ويمكن أن تكون بمثابة الأمثلة أو النماذج.

3-   و حيوانات شيطانية والتي هي سرب أو قطيع وهي الحيوانات التي تشكل التعددية، والتحول، والمأهولية، والحكاية ".

يربط دولوز بين هذا الحيوان الشيطاني والتعددية بمصطلح فريد أطلق عليه المأهولية بالعدوى peopling by contagion)). ذلك أن الحيوان بالنسبة لدولوز لا يصبح سربا أو قطيعا بسبب الوراثة أو التكاثر الجنسي ولكن بسبب العدوى والأوبئة وساحات القتال والكوارث. وعند هذه النقطة فإنه يمكن إدراك التأثير المتبادلبين الحيوان والتعددية وبين الشيطانية الكارثية. إنه الحيوان الذي يسبب الشيطانية التي تنتشر بوصفها وباء إلى عناصر غير متجانسة أخرى بحيث يتسنى لجميع هذه العناصر تأسيس "ميثاق"أو "تعددية" وتشكيل دائرة من التعدد بوصفها اختلافات داخلية ضمن الحيوان. وتنطوي دائرة التعدد على السلسلة الكنائية التالية:(الحيوان= المرض (كارثة) = العدوى = التعددية). وتصبح عملية التحول مثل انتقال العدوى التي تحدث بسبب التباين الداخلي أو الاختلاف الداخلي بدلا من مجرد اندماج العناصر غير المتجانسة.

 

يقول دولوز: "لا تحدد التعددية من خلال عناصرها، ولا من خلال مركز التوحيد أو الإدراك..... وبسبب أن تبايناتها وأبعادها جوهرية بالنسبة لها، فإننا نصل إلى نفس الشيء عندما نقول أن كل تعدد يتكون من أطراف غير متجانسة تتعايش معاً، وأن هذه التعددية تحول نفسها باستمرار إلى سلسلة تعددات أخرى".

 

وما يهمنا في تعددية دولوز ليس تكاثر العناصر أو توحدها ولكن تباينها واختلافاتها الأصيلة والجوهرية والتي ستخلق سلسلة أخرى من التعدديات. وبالمقارنة فإن ما يريد دولوز وغواتاري الوصول إليه هو أن "أي شخص متعدد ومتكوثر. فدولوز يرى أن "ما نطلق عليه تسمية "الأنا" هو نسيج متناقض من آلاف الأنوات"، فالأنا تأليف بين أنوات متعددة، وهذا الأنا "لا يستقيم أمره إلا بالاعتماد على هذه الآلاف من الشهود التي تؤلفنا". ويلخص الفيلسوفان فكرتهما عن الفردية والتعددية بالقول :"لا يوجد هناك بيانات فردية، ولم تكن موجودة على الإطلاق. كل بيان هو نتيجة تجميع آلي وبعبارة أخرى، فإنه بيان مجموعة أفراد (وهنا فإن مجموعة الأفراد لا تعني الناس أو المجتمعات ولكنها تعني التعدديات). وهكذا فإن الاسم الشخصي nom proper)) لا يعين فرداً، بل إنه على العكس تماما، إذ إنه يعني الفرد عندما ينفتح على التعدديات وتتخلله إنتاج أقسى عمليات تبديد الشخصية الفردية.عندها فقط فإنه يستحوذ على اسمه الشخصي الحقيقي. ذلك الاسم الذي يعني الإدراك الفوري للتعددية....".

 

وهكذا فقد تحدت ما بعد الحداثة الفكرة الإنسانية التاريخية عن الإنسان العقلاني والموحد. وركزت على الإنسان المتناقض والمتعدد الطبقات. ولم يعد الإنسان أكثر من مجرد مكان وظيفي للغة التي تموضعه؛ فهو ليس مصدر اللغة ولكنه نتاج متشظٍ لخطابات مشتتة. وأصبحت (أنا) تدلل على إنسان مختلف في كل مرة بدلا عن الإنسان الكلي الثابت المتواصل في الزمان والمكان. وبذلك فقد الإنسان حالته الانطولوجية لصالح اللغة والخطاب.

 

ترفض ما بعد الحداثة فكرة أن العقل والوعي الإنساني هما أهم محددات تشكيل التاريخ الإنساني. وتفترض بدلا من ذلك الاعتقاد بأشكال التحول الاجتماعي الذي يفهم الحدود التاريخية والبنيوية والأيديولوجية التي تشكل احتمالية الفعل والانعكاس الذاتي. تشير ما بعد الحداثة إلى المجتمعات بوصفها أساساً لتطوير وفهم قدرة الفرد على اختبار العالم من حوله بطريقة ذات معنى. ومنحتنا، بصورة أكثر تحديداً، سلسلة من المرجعيات لإعادة التفكير في كيفية تكويننا بوصفنا أشخاصاً ضمن مجموعة من الشروط السياسية والاجتماعية والثقافية التي تتغير باستمرار. يًشكل الشخص بفعل القوى الخارجية، وباختصار، لقد أضحى الإنسان مجرد تركيب اجتماعي ولغوي. الأمر الذي يعني ببساطة إن قيم ولغات وفنون المجتمع وكل ما يحيط بنا هو الذي يحدد من نحن. بمعنى أننا لا نملك ذواتا منفصلة عما يحيط بنا بحيث تبقى ثابتة حتى لو تغيرت ملامح وظروف المجتمع الذي نعيش فيه.

 

لقد كانت المجتمعات التقليدية تحدد حالة الفرد تبعا للدور المنوط به، وفي المجتمعات الحداثية منح هذا التميز للانجاز، أما في حقبة ما بعد الحداثة فإن "الموضة والأسلوب هي التي تمنح الفرد حالته ووضعيته في المجتمع؛ فعندما تتغير الموضة لا بد أن نتغير معها، وإلا فإن هويتنا ستصبح موضع تساؤل"، وتبعا لذلك فإنه لا يوجد سياق خالد لحيواتنا. نحن "متموضعين تاريخيا"  حسب أنتوني ثيسلتون، بمعنى إنه لا يمكن فهم حيواتنا إلا في سياق اللحظة التاريخية الحالية. كل ما يعنيننا هو الحاضر، فلا تأثير للماضي, أما المستقبل فهو مفتوح على كل الاحتمالات،

 

والنتيجة هي حياة مشوشة وغير مستقرة. يقول ثيسلتون مرة أخرى، "ولّد افتقاد الاستقرار والهوية والثقة الشكوك العميقة وانعدام الأمن والقلق". تعيش الذات في ما بعد الحداثة "التجزؤ، وعدم التحديد، وانعدام الثقة الشديد بجميع المطالبات بالحقيقة المطلقة أو المعايير الأخلاقية الكونية، وذلك أدى إلى تبني المواقف الدفاعية والانشغال المتزايد بالحماية الذاتية، والمصلحة الذاتية، والرغبة في السلطة واستعادة السيطرة.

 

باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014.

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4-  فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.

أضف تعليقك