أزمنة الحداثة الفائقة: أفراد أكثر تعليما وأكثر تدريبا وأكثر تحطماً أيضا

أزمنة الحداثة الفائقة: أفراد أكثر تعليما وأكثر تدريبا وأكثر تحطماً أيضا
الرابط المختصر

 

في العام 2005 صدر عن دار بولتي للطباعة والنشر البريطانية، كتاب للفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي والأستاذ في جامعة غرونوبل الفرنسية جيل ليبوفتسكي, وبالاشتراك مع سيبستيان تشالز أستاذ الفلسفة في جامعة شيربروك الكندية كتاب بعنوان (أزمنة الحداثة الفائقة).

 

وكتاب (أزمنة الحداثة الفائقة) قصير نسبيا وما يعنينا لغرض الدراسة هو المصطلح الذي أطلقه ليبوفتسكي عن المرحلة التي ستلي ما بعد الحداثية في تقديره، والتي بدأت تتبلور بوضوح في المجتمعات الغربية.

 

ومثلما فعل ليوتار في كتابه (حالة ما بعد الحداثة: تقرير في المعرفة) الذي خلق القواعد الأساسية للخطاب الثقافي ما بعد الحداثي، فإن (أزمنة الحداثة الفائقة) يشكل نقطة انطلاق لخطاب جديد في المعرفة. وفي الوقت الذي وضع فيه ليوتار المجتمعات المحوسبة بمكانة الناقل الثقافي إلى عصر ما بعد الحداثة, فإن فكرة ليبوفيتسكي الأساسية هي أن عصر ما بعد الحداثة كما عرفناه قد مات. وما حدث بالضبط هو أن تلك المجتمعات المحوسبة ذاتها، بعد مغازلة قصيرة لأفكار ما بعد الحداثية، دخلت في عصر الحداثة الفائقة.

 

يكتب ليبوفتسكي:"من الواضح أن عنوان ما بعد الحداثة قد غدا قديما حين أستنفذ طاقاته وإمكانياته في التعبير عن العالم الجديد الذي بدأ في التكوين، وهنا بدأ خطاب الحداثة الفائقة. إن الحداثة الفائقة بإيجاز هي إعادة التأكيد على أفكار الحداثة الأساسية باستثناء وحيد هو أنه لا يوجد بديل عن الحداثة اليوم، وهذا بالتحديد ما أدى إلى الوفرة في كل المجالات، ولهذا فإننا نعيش في عصر الحداثة الفائقة. الحداثة الفائقة إذا هي: نمط أو نموذج أو مرحلة في مجتمع يعكس عمقاً وحدّة في إدراك الحداثة. أما أهم مميزاته التي تعكس عمق وحِدًّة حداثته فتتضمن: إيمانه العميق بالقدرة البشرية على فهم وضبط ومعالجة كل جانب من جوانب الخبرة الإنسانية، التي تتضح في الالتزام المتزايد بالعلم والمعرفة، وخصوصا ما يتعلق بتقارب حقلي البيولوجيا والتكنولوجيا.

 

إن التركيز على قيمة التكنولوجيا الحديثة من أجل تجاوز المعيقات الطبيعية يفسح المجال للانتقاص أو الرفض الصريح للماضي كلية، ذلك أن معرفة اليوم أكثر بما لا يقارن من معرفة الأمس. ولذلك فمن الطبيعي أن يكون هناك فجوة عميقة تمنع تكامل الحاضر والماضي لأن:

1- ما حدث في الماضي كان بالضرورة في ظل ظروف (أقل) مما هي عليه الآن، والتي ولدت سياقا منفصلا جذريا.

 

2- أن ما ورثناه عن الماضي كان مفرط التوافر في المشهد الثقافي وتم إعادة توظيفه بسهولة لتوليد وفرة أكبر مما جعلنا غير قادرين على تمييز القصد الأصلي أو المعنى.

 

وهذا هو بالتحديد خطأ ما بعد الحداثة التي رفضت فكرة التغيير العقلاني في حين أنها، وفي الوقت ذاته، تقبلت فكرة أن الماضي وأثرياته تمتلك قيمة مساوية لقيمة الحاضر. كما أنها عبرت عن هذه القيمة بوساطة هياكل افتراضية لا تحمل معنى دائماً أو ثابتا. فمثلا نحن لا ندرك الحقيقة، كما تقول ما بعد الحداثة، لكننا نستطيع التعامل مع السفاسف والتفاهات. لذلك فإنها لا تتحدث عن قطيعة مع الحداثة أو مع الماضي، بل أنها تصف حاله منبثقة بالكلية عن الحداثة وعن إيمانها بالتقدم والتنمية من خلال تمكين الفرد. ومن هنا جاءت أطروحة ليبوفيتسكي التي تقول أن أجهزة ما بعد الحداثة كلها قد استحالت إلى ما يشبه القوة الثقافية المسرعة على الطريق من الحداثة إلى الحداثة الفائقة. وتبعا لذلك، جاء تساؤله الموضوعي: هل من شيء في حياتنا اليوم لا يشي بأن الحداثة قد وصلت إلى قمة القوة والسلطة والهينة؟ ويجيب بالطبع لا. ويلاحظ ليبوفيتسكي" أن ما نراه اليوم هو نوع من اكتمال أو تحقيق الحداثة الذي يبزغ أمام أعيننا حتى في ظل استمرار تشكل أفكار ما بعد الحداثة ولكن الحداثة الفائقة الناشئة سرعان ما تتفوق على أفكار ما بعد الحداثة ومؤسساتها لتتحرك في فضاء لا ينافسها فيه أحد: فضاء الحداثة المطلقة "absolutely modern". وهكذا فان مرحلة ما بعد الحداثة التي سادت منذ ستينيات القرن الماضي لم يقتصر الإنتاج والاستهلاك فيها على الفئة المتميزة بل تحول المجتمع إلى مجتمع إغواء لا يقاوم.

 

قادت هذه المرحلة إلى عصر الحداثة الفائقة حيث الاستهلاك الفائق (Hyperconsumption) والفردية الفائقة (hyperindividualism).

 

عرّف ليبوفتسكي الاستهلاك الفائق بأنه:"الاستهلاك الذي يمتص، ويكامل مزيدا من مجالات الحياة الاجتماعية ويشجع الأفراد على الاستهلاك من أجل المتعة لا من أجل تحسين حياتهم الاجتماعية".

 

إن مجتمع الحداثة الفائقة مجتمع يتميز بالحركة والتدفق والمرونة والاستهلاك بلا حدود: الاستهلاك لأجل المتعة. فضلا عن أنه يبتعد عن المبادئ العظيمة التي هيكلت الحداثة أكثر من أي وقت مضى. وفي حين أن الفرد الفائق الحداثة يجري توجيهه نحو اللذة الدنيوية والمتعة، إلا أنه أيضا يمتلأ بنوع من الخوف والقلق الذي يتأتى من العيش في عالم ينزلق بعيداً عن التقاليد ويواجه مستقبلا غامضا. ينخر القلق في عظام أفراد الحداثة الفائقة، ويفرض الخوف نفسه على اللذة والمتعة ويفسد حرياتهم. كل شيء يحذرهم ويدق ناقوس الخطر: أفراد أكثر تعليما وأكثر تدريبا ولكنهم أكثر تحطماً أيضا. إنهم بالغون وناضجون ولكنهم غير مستقرين وقلقين. فضلا عن أنهم أقل تمسكا بالايدولوجيا في الوقت الذي هم فيه أكثر إتباعا لتغيرات الموضة، أكثر انفتاحا ولكنهم أسهل تأثرا، أكثر انتقادا لكنهم أيضا أكثر سطحية، أكثر شكا وأكثر غموضا. ولم يعد هناك أي نظام إيماني يمكن اللجوء إليه للطمأنينة والسكون". باختصار تلك هي أيام الحداثة الفائقة.

 

لقد اقتحم عالم الاستهلاك حياتنا وحوًّر علاقاتنا بالأشياء والبشر. ولا يوجد أي نموذج بديل خلاف نموذج الاستهلاك الفائق اليوم. أما إعادة اكتشاف الحب فإنه يحتاج إلى براءة خاصة في عالم تتحكم فيه العقلانية والكفاءة ولذلك" فإن أهم واجباتنا اليوم ليس الندب أو التأسي على تذرر المجتمع ولكن إعادة التفكير في الواقع الاجتماعي في سياق الحداثة الفائقة حيث لا يوجد خطاب إيديولوجي ذي معنى على الإطلاق، في الوقت الذي بلغ فيه التشظي الاجتماعي منتهاه. وبالطبع فإن المجتمع يتشكل من جديد ولكن بطريقة تبدأ من الرغبة الفردية للأفراد. وفي الوقت ذاته فإن الأفراد/ الذرات أقرب ما يكونون إلى الرغبة في تكوين روابط، في التواصل وفي التجمع في تيارات ترابطية، تتميز بالأنانية لأن انتماءاتها تلقائية، مطواعة وانتقائية. فضلا عن أنها تتبع منطق الموضة السائدة (الزوال) في كل نقطة.

 

ولكن هل التجمعات النرجسية هذه قادرة على خلق مجتمع ديمقراطي وتعزيز الإحساس بالقيم، في حين أن الاستهلاك وحدة هو الأساس؟" ويتابع ليبوفتسكي" لم يعد نداء الإحساس بالواجب يمزق المرء في مجتمع الحداثة الفائقة, ولكن السلوك الأخلاقي لم يصل حد الفوضى. وبالرغم من أن المتعة والسعادة هي الأهم والأكثر انتشارا إلا أن المجتمع المدني لا زال يتوق إلى النظام. وفي حين أن الحقوق الذاتية هي التي تحكم ثقافتنا، لا زالت هناك قيود. فليس كل شيء مسموح ومباح". يعود ليبوفتسكي لتأكيد "المفارقة" في إطار استمرار المثل الأخلاقية في سياق فردي:

1- إن تناقص الأخلاقية غير المشروطة لم يقد إلى سلوك متبجح مغرور فلا زلنا نجد تزايدا في العمل التطوعي والمساعدات المتبادلة.

 

2-إن النسبية لم توصلنا إلى العدمية الأخلاقية، ذلك أن القيم الديمقراطية لا زالت موجودة.

3- إن فقد المرجعيات التقليدية لم يؤدي إلى فوضى اجتماعية شاملة.

 

يقول ليبوفتسكي أيضاً"أن الوعي بقرب النهاية أدى إلى اندفاع الحداثة الجامحة المتهور إلى الأمام نحو التسليع المتسارع، ورفع القيود الاقتصادية، والتطورات التقنية والعلمية التي أطلقت العنان لتأثيرات واعدة بقدر ما أنها مهددة وخطيرة". أما بالنسبة" للمجتمع الذي بات يتشكل الآن، فإنه مجتمع تبدو فيه القوى المناهضة للديمقراطية والليبرالية والحداثة الفردية بلا تأثير يذكر، إنه مجتمع انهارت فيه الرؤى البديلة، كما أن التحديث لن يواجه بمقاومة اجتماعية من أي نوع".

 

تحمل الحداثة الفائقة التزاما أكبر من الحداثة بالعقل وبالقدرة على تحسين خيارات الفرد وحريته. وفي حين أن الحداثة كانت تحمل الأمل بالتغير العقلاني، إلا أنها واصلت التعامل مع القضايا والاهتمامات التاريخية الماضية، نجد أن الحداثة الفائقة تؤكد على أن الأمور تتغير بسرعة فائقة يصبح معها الماضي والتاريخ مرشدا لا يمكن الوثوق به.

 

ويرى ليبوفتسكي أن الحداثة الفائقة قد قادت بالفعل إلى تغييرات إيجابية من خلال التوسع السريع في الثروة، وتحسين مستويات المعيشة، والتقدم الطبي، و... الخ، بحيث يمكن للأفراد والثقافات التي تستفيد مباشرة من هذه الأمور أن تشعر بأنهم قد تجاوزوا المعيقات الطبيعية التي أعاقت دائماً تقدم الحياة على الأرض. لكن الآثار السلبية ملموسة هي الأخرى. فقد قادت الحداثة الفائقة إلى تجانس بلا روح وفجوات تتسع باطراد بين مختلف الطبقات والفئات، أما البديهيات الثلاثة التي تتضمنها الحداثة الفائقة:

1-  السوق والفاعلية التكنوقراطية والفرد. ففي كل مجال من هذه المجالات هناك وفرة وفيض يتجاوز الحدود ويحطم المعيقات في السوق وفي الفردية الفائقة. أما الكفاءة البيروقراطية فإنها أمل المستقبل المشرق حيث النشاط الإداري والإصلاح الذي لا يعتمد على الرؤى الكبرى.

2-  بالنسبة للدين يقول ليبوفتسكي" أن العلمنة ليست لا دينية، إنها عملية تخلق شكلا جديدا من النطاق الديني في فضاء الاستقلالية العالمي. هذا النطاق الذي يتميز باللا - مأسسة والذاتية ويركز على العواطف". ويتابع ليبوفتسكي" إن إعادة تعبئة الذاكرة لا ينفصل عن النوع الجديد من الهوية الجمعية. ففي المجتمعات التي تحكمها التقاليد، يُختبر الدين والهوية الثقافية بوصفها أمورا ظاهرة للعيان، تقصي الخيارات الفردية. ولكن الأمر سيختلف تماما في الحداثة الفائقة. ففي الحالة الحاضرة لا يمكن أن يمنح إحساس المرء بالهوية والانتماء فورا وللجميع. انه مشكلة، إدعاء، خيار يختاره المرء لنفسه ليحدد به ذاته. أما الانتماء إلى مجتمع فهو وسيلة للتفكر في الذات، وتحديد أي مجتمع أو طريقة تتوافق مع الرغبة الفردية في تأكيد الذات وكسب الاعتراف. وتبعا لذلك فهي وسيلة للتمايز الذاتي والاستجواب الذاتي أيضا".

3-  يقودنا ذلك إلى موضوع زيادة الحاجة إلى كسب الاعتراف العلني، وحاجة الثقافات الأخرى إلى الاعتراف بها على قدم المساواة: الحاجة إلى الاعتراف الفائق hyperrecognition"" التي تتضمن: إعادة تحشيد المعتقدات التقليدية، والتأكيد على نواة صلبة من القيم المشتركة، وهنا فإن المال لن يكون القوة الدافعة الوحيدة لتأسيس علاقات اجتماعية".

 

ما يريد ليبوفتسكي أن يقوله هو أن المجتمع القادم هو مجتمع الاستهلاك الفائق، والرأسمالية الفائقة، والفردية الفائقة، وحب الظهور الفائق. وباعتماده المفارقية صفة ملازمة لمجتمع بعد ما بعد الحداثة الأخذ بالتبلور، فإن هذا المجتمع سيكون إنسانيا رؤوما وديمقراطيا ينشد القيم المشتركة، ويضمن المساواة بين جميع البشر دون أن ينتقص ذلك من عقلانيته الفائقة والالتزام المطلق بالعلم. مجتمع سيتحول فيه الدين والهوية إلى روحانيات اختيارية ولكن ذلك بالتحديد، وبفضل المفارقة الفائقة طبعا، سيعزز الهوية الجمعية المحلية التي تتوق إلى الاعتراف العالمي.

 

إن السمة الأساسية للمجتمع القادم هي المفارقة الفائقة، اجتماع الأضداد والمتعارضات بتوافق وسلام. ويبقى السؤال: إلى أي مدي سيستمر تعايش المتناقضات وتجاورها؟ وهل سيقود ذلك إلى محاولات تقوية أحدها على حساب الآخر؟ أم إلى مواجهات عنيفة؟ أم أن الأمور ستسير بسلاسة وبلا منغصات. هذا مع العلم أن ليبوفتسكي قد تحسب لذلك حين أخمد كل المعارضات الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وبشَّر بحداثة فائقة بلا منازع. إنه عصر الحداثة المطلقة كما يقول.

 

 

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

 

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.

أضف تعليقك