أزمة الوعي

أزمة الوعي
الرابط المختصر

 

ماهو الوعي ؟ وما هي علاقته بالعقل؟

 

إن العقل هو ملكة بشرية و فاعليّة اجتماعية و ليس مجرد قدرة فردية، إنما حضور اجتماعي تاريخي ثقافي مؤسسي و يتمظهر في الأدب و الفلسفة و العلم، في الفن و الدين و التربية والتعليم، وفي العادات و المعتقدات، إنه ظاهرة ثقافية بإمتياز و نتاج ثقافي بإمتياز.

 

والوعي هو استيقاظ العقل الفردي والجمعي من غفوته وغفلته وتنبهه إلى ذاته في ملاحظة مايدور حوله, ليشرع في نقد وإصلاح وتغيير واقعه.

 

وإذا انتبهنا إلى الأفعال المتكررة المستعملة في التعريف, أمكننا رصد المراحل التي يمر فيها العقل للوصول إلى الوعي: استيقاظ – تنبه- ملاحظة- فهم وإدراك- مراجعة ونقد – إصلاح وتغيير.

وقد لخص الفيلسوف الالماني هيجل مراحل الوعي في ثلاث:

- وعي الذات في ذاتها – أي تنبه الذات لذاتها ولوجودها (في الحالة الفردية بسن الرشد).

- وعي الذات لذاتها - أي للدور الذي يمكنها القيام به (في الحالة الفردية بسن المراهقة).

- عمل الذات لاجل ذاتها- أي لتحقيق ذاته ومصلحته (في الحالة الفردية- النضوج).

 

بينما اهتم الفيسلوف الألماني هيدجر بالوجود وعرّف الوعي "بأنه انتباه إلى الوجود ونبّه إلى عدم نسيان الوجود".

 

ثم ركز الفلاسفة الوجوديون فيما بعد وبتأثير من فرويد ودراساته النفسية على الوعي اللاوعي, فكان تأثيرهم وعملهم يتركز على  "الأنا الفردي" و"الأنا العليا" وتحقيق الوجود النوعي.

 

لاضرورة للشرح بأن الذات والأنا يمكن أن تكونا: ذات فردية أو وطنية أو قومية أو حتى إنسانية .

 

ويمكننا تحقيب مراحل الوعي في التاريخ كالتالي.

1- وعي الذات في ذاتها: تم منذ فجر التاريخ تكوين العقل وتطوره أي منذ ظهور الإنسان الحديث ..homo sapiens منذ خمسين ألف سنة، حيث بدأ ذاك الإنسان بصيد طعامه ومن ثم بإنبات هذا الطعام في المرحلة الزراعية بعدها، ثم إنشاؤه الحضارات ومحاولته السيطرة على الطبيعة.

2- وعي الذات لذاتها (أي وعي العقل لدوره المجرد كان مع ظهور العلم والفلسفة في بلاد اليونان منذ القرن السادس قبل الميلاد) وتساؤله مامعنى الوجود؟ وما سر الكون؟ مامعنى المعرفة؟ وكيف يصل العقل للمعرفة ؟

3- وعي الذات لأجل ذاتها ربما حدثت (مع الثورة العلمية الكبرى في أوروبا 1542-1687) من كوبرنيكس وغاليليو إلى نيوتن. حيث أصبح للعقل سلطة ومركزية في السياسة والاقتصاد وإدراة الحياة العامة. كما يمكن ردها إلى عصر التنوير في القرن الثامن والتاسع عشر في أوروبا تحديدا. حيث أصبح العقل المسؤول الأول عن بناء دولة ومؤسسات قائمة عليه وفصلت السياسة عن الدين والكنيسة, وأنشئ نظام علماني لا سلطة فيه فوق سلطة العقل, وفي أواسط القرن التاسع عشر استطاع كارل ماركس أن يفسر تناقضات التاريخ وقال أن الصراع بين الطبقات صراع مادي وليس صراعاً فكرياً وكأن الوعي ينبثق نتيجة للصراع المادي والاقتصادي والواقعي وليس العكس.

 

الإنسان المعاصر وأزمة الوعي

 

هل وعي الإنسان المعاصر لذاته و للعالم من حوله مكتمل و صحيح أم أنه يمر بأزمة ما؟ تجيب الفلسفة التي تعرف نفسها: "بأنها العقل الذي يعقل ذاته"، على هذا السؤال بالايجاب، وتقول نعم، هناك أزمة عامة و فردية يمر بها الوعي "وعي الإنسان المعاصر" ، وأسبابها عديدة، و جزء من هذه الأسباب: تاريخي و أخر واقعي و معاصر.

 

فالإنسان المعاصر إنسان تائه و باحث عن الخلاص أو النجاة، لأنه وقع ضحية سهلة للأوهام وللإعلام المضلل وللإستهلاك الشره و للأفكار المسبقة و للمعتقدات الزائفة، ليصبح وقوداً للسوق و للحروب و للغرائز و لنزاع حول السلطة و القوة. لم يعد الإنسان قيمة و كينونة بحد ذاته، إنما أصبح رقماً من الأرقام، و نسخة من ملايين النسخ المتكررة، محفوظة في كمبيوترات عملاقة لاستخدامها لمن يشاء.

و قد صدق سارتر عندها وصف الإنسان المعاصر بأنه " كيان مرمي في الوجود "،  و قال عنه هايدجر أنه  "نسي الوجود ذاته ".

 

فلماذا تراجع العقل و الإنسان إلى هذا الدرك؟ مع أنه قام بإنجاز عظيم في عصر التنوير، و أقام مملكته العقلية، و حصل حريته الفردية، و تم الاعتراف بحقه في التفكير و الحرية و العمل و المخالفة، و بنى دولاً و مؤسسات علمية و اجتماعية و سياسة، فماذا أصاب العقل العلمي و العقل الفلسفي التنويري؟

 

لقد تحول العقل (والوعي) التنويري إلى عقل "أداتي " خدم المركزية الأوروبية فأصبحت الإمبراطوريات الأوروبية في نهاية القرن التاسع عشر أكبر قوى إمبرالية عرفها التاريخ، فسيطرت على 80 % من مساحة الكرة الأرضية و أخضعتها و نهبت ثرواتها. ونتيجة للصراع بين هذه الإمبراطوريات الأوروبية، خاض العالم حربين عالميتيين مات جرائها أكثر من 70 مليون إنسان.

 

لذا ارتد العقل التنويري على ذاته، بعد منتصف القرن العشرين و أخذ ينفذ ذاته، وحاول كثير من الفلاسفة تحطيم هذا العقل التنويري و منهم نيتشه و هيدجر و فلاسفة ما بعد الحداثة، فبدل أن يصحح العقل الأوروبي (الغربي) مسيرته التنويرية و ينقيها من مركزيتها، ارتد إلى ذاته و حاول تحطيم عقله الذي كان أساس ازدهاره و رفعته (بطريقة مأساوية تشبه إلى حد بعيد مأساة فاوست).

فنرى أن بعض  فلاسفة ما بعد الحداثة ينادي بموت الإنسان (ميشثل فوكو) و بعضهم بموت الإيديولوجيات الكبرى، وغيرهم بموت المؤلف، لصالح الأنساق، وأخرون نادوا بموت الذات الإنسانية كذات فاعلة في التاريخ لصالح البنى السابقة، كما نادوا بموت الوعي لصالح اللاوعي.

 

ما لدينا الآن، مشهد سريالي مضحك مبكي في الآن نفسه، لثقافة المسيطرة في العالم الحديث هي الثقافة الرأسمالية و آخر تجلياتها العولمة العابرة للقارات والتي تخدم فئة قليلة من الناس (الرأسماليين ) الذين يتحكمون ليس فقط بأموال العالم بل بأعلامه و ثقافته و نوع حياته ومسارها وباستغلال ثرواته و بالسيطرة على عقله و وعيه.

 

فتحول الإنسان من شخص إلى رقم و فرد مستهلك، يلهث وراء لقمة عيشه ولديه حاجات يومية وعليه اشباعها، مما يتطلب قضاء حياته في غربة عن ذاته، و استلاب من عالمه الواقعي.

 

 

الإنسان العربي وأزمة الوعي

 

إذا كان العقل الغربي قد وصل إلى الوعي العلمي بوصوله إلى المنهج العلمي والمنهج العقلاني، فالعقل العربي لم يصل بعد، لأنه لم يستفق بعد.

عندما نستعمل مصطلح "الوعي العربي " فنحن نعني الوعي الجماعي أي الوعي القومي العربي و السؤال المطروح هل يواجه هذا العقل أزمة ام لا ؟ و إذا كان يواجه أزمة، ففي أي مرحلة هو الآن من هذه الأزمة في ظل ما يسمى بالربيع العربي؟ لنعد إلى تاريخ العقل العربي المعاصر و لنرى محاولته للنهوض بعد قرون من السبات الطويل استمر ما يقارب خمسة قرون.

 

استفاق عقل رفاعة الطهطاوي، عندما أُرسل في بعثة الى باريس من قبل محمد علي حوالي سنة 1830 و عاد و كتب كتابه الشهير " تلخيص الأبريز في أخبار باريس"، ربما كان أول كتاب يرصد لنا الحالة الفكرية لعقل بدأ يستفيق و ينقد ذاته من خلال اصطدامه بعقل وحضارة غيره.

 

وتبعه نخبة من المفكرين اللبنانيين و المصريين و السوريين و التونسيين من رواد النهضة مثل بطرس البستاني، ناصيف اليازجي، خير الذين التونسي، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، وغيرهم ، إلى أن جاء شكيب أرسلان و صاغ أزمة الوعي العربي الحديث المصطدم بالغرب و علومه بهذا السؤال: "لماذا تقدم الأخرون و تأخرنا نحن؟".

 

و منذ ذاك التاريخ إلى الآن، أسيل حبرٌ كثيرٌ لمحاولة الإجابة على هذا السؤال، الذي بقي بدون إجابة حقيقية، فالأزمة مازالت مستمرة، مع أن بعض العقول العربية استفاقت أخيراً من غفوتها و نومها الطويل وهذه أولى خطوات الوعي و دخلت في حوار مع ذاتها و هذه أولى مراحل وعي الذات لذاتها.

 

إلا أن هذه العقول القليلة لم تنجح في إيقاظ العقل العربي الجمعي أي عقل الجماهير العربية ومساعدتها للدخول في الحداثة والمرحلة العلمية، و من ثم لم تنجح النخب العربية في صياغة مشروع تنويري متكامل، مع أنه أسست لنا دولاً وطنية و رفعت اعلاماً وأنشأت جيوشاً و بنيت برلمانات و مؤسسات، إلا أننا بقينا في مرحلة ما قبل الدولة (ما قبل العلمية) ومرحلة ما قبل الرأسمالية (الاقتصاد الخراجي) و مرحلة ما قبل الحداثة و ما قبل التنوير.

 

حاول رواد النهضة من الجيل الأول والثاني و الثالث جاهدين أن يوقظوا و ينيروا العقل العربي الجمعي، فوصل هذا التنوير إلى الخاصة و لم يمر إلى الجماهير، لعدم وجود حاملة اجتماعية أو طبقية تتطابق مصالحها مع طروحات هذه المحاولة التنويرية. وأعطى الاصلاح الديني الذي بدأ به الرواد مفعولاً عكسياً، إذا تحول رويداً رويداً من فكر إخلاصي إلى فكر جهادي تكفيري، وفي بدايات الألفية الثالثة جاء الربيع العربي، واستبشر الإنسان العربي خيراً ببدايته، واعتبره تعبيراً عن وعي واستيقاظ جماهيري، يطالب بالحريات و إنهاء سلطة الدول المستبدة و رؤسائها، و قبل أن يكتمل هذا الحراك و يعطي ثماره استفاقت غرائز الانتقام و القتل في الجماهير، وغرق هذا العالم بحروب أهلية مذهبية وطائفية وعشائرية، والنخب الفكرية كانت غائبة و لم تستطع أن تقود الجماهير لعمل ثوري حقيقي.

 

تأملوها معي أكثر من مئة و خمسين عاماً و النخب الفكرية تحاول إيقاظ العقل الجمعي دون فائدة ترجى. والسبب واحد أن هذا العقل مغيب ومهيمن عليه بطبقة كثيفة من الدين،لذا لا يمكننا أن نقف متفرجيين أمام هذا الخراب الشامل الذي يعاني منه الوطن و العقل العربي، فلا نكتفي بالوصول فردياً إلى الوعي، إنما علينا أن نؤسس فعلياً للوصول إلى الوعي الجمعي والقومي عن طريق توعية المجتمع بأسره، بمحاربة الجهل والأمية الثقافية و العلمية والفلسفية في كل مظاهرها الواقعية و النظرية.

 

فإذا تحدّث الواقع العربي تحدث معه الوعي العربي، لذا على النخب العمل المباشر على الواقع العربي في مختلف مجالاته، بدءاً  بالتربية و التعليم إلى تحديث الواقع الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي و الديني و الفني  لخلق تربة خصبة و أرضا صلبة، لينشأ الوعي العربي و يحتضن العقول العربية المميزة.

 

عضو الجمعية الفلسفية الأردنية وأستاذ الفلسفة في الدماعة الأردنية حاصل على دكتوراه في اللاهوت من جامعة اللاتران بإيطاليا، دكتوراه في الفلسفة من جامعة كليرمونت في كاليفورنيا دكتوراه في الفلسفة من جامعة الكسليك في لبنان.

أضف تعليقك