"بزنس" الاختطاف.. عصابات منظمة ومتنفّذون يقايضون حياة سوريين وحريتهم بالمال
السلطات تفشل في تضميد جرح الاختطاف النازف منذ 50 شهراً
15 آذار 2011؛ اشتعال ما بات يُعرف بـ"الأزمة السورية" كان نقطة فاصلة في حياة علي. ف:
شاب ثلاثيني بلا عمل واضح أو دائم حتى ذلك التاريخ. اليوم بات أحد أبرز الوجوه ليس في منطقته فحسب، بل في المنطقة الوسطى (حمص، حماة وريفهما)، بعد أن تحول من صاحب "كشك" لبيع القهوة والسجائر إلى ثري يمتلك ملايين الليرات من مراكمة الفديات وأكبر زعيم اختطاف.
"صلاح . ع" و"مصيب . س" هما أيضاً من زعماء الاختطاف يتقاسمان النفوذ في نفس المنطقة التي ينشط فيها علي.. وجميعهم يمارسون جرائمهم غير مبالين بأجهزة الدولة، التي تؤكد أنها ماضية في مكافحة هذه الظاهرة ومحاكمة المتورطين فيها بحسب محاكم الإرهاب التي أنشئت عام 2013. فما الحصيلة؟
فشلت السلطات حتى الآن بمعالجة هذا الملف المفتوح على أشد الاحتمالات رعباً. فأعداد المختطفين تتزايد بالعشرات شهرياً، في بلد قتل من سكانه قرابة 220 ألف سوري، وفق تقديرات الأمم المتحدة وتشرد نحو ستة ملايين منهم بين لاجئ ونازح.
عمليات الاختطاف العشوائية في بداية الأزمة (مارس 2011) تحولت تدريجياً إلى "بزنس" اختطاف بيد أفراد وعصابات منظمة ينتمون إلى غالبية الخلفيات المذهبية والعرقية، مستغلين انفلات الأمن وتقوقع فئات مجتمعية داخل أحياء مغلقة، وسط ضعف رقابة السلطة المركزية وانتشار السلاح بيد مدنيين حسبما يوثق هذا التحقيق بعد ثلاث سنوات من التقصي. ورصد التحقيق أيضا تورط أفراد في أجهزة الأمن أو في هياكل مرتبطة بها في عمليات اختطاف بهدف التربّح و/أو إذلال مواطنين يصنفون على أنهم ضد نظام الحكم.
رئيس لجنة المصالحة في مجلس الشعب عمر أوسي يتوعد "المتورطين والسماسرة"، الذين أثروا من عمليات الاختطاف، ووزير المصالحة الوطنية علي حيدر يلقي باللائمة على تعدد الجهات المتعاملة مع هذه الجرائم دون أدنى تنسيق فيما بينها.
وبينما تؤكّد وزارة العدل أن الحكومة تولي الملف جديّة كبيرة، مستشهدة بإنشاء "محاكم الإرهاب"، وإحالة متهمين بالاختطاف إليها، تتهم المعارضة الداخلية السلطة بعدم الجدية والتقاعس. وترى المعارضة أن عدم قبول السلطة مبدأ التفاوض والمبادلة بين آلاف المعتقلين في سجونها بآلاف المختطفين لدى مجموعات مسلحة يعمّق هذا الجرح النازف.
بورصة نشطة
"لا أرقام دقيقة عن أعداد المختطفين في سورية"، جواب يردّده علي حيدر. يقول الوزير: "لدينا أسماء نحو 16 ألف مفقود من جميع المناطق" أبلغ ذووهم عن فقدانهم، لكن هذا العدد يشمل المعتقلين والمختطفين، وربما أشخاصاً توفوّا خلال سنوات الأزمة دون إثبات وفاتهم.
رئيس لجنة المصالحة يقدّر المختطفين بين 10 و 15 ألفا، لافتا إلى أن العدد الأكبر محتجز في دوما بريف دمشق، معقل ميليشيا "جيش الإسلام" بزعامة زهران علوش. ويقدر أوسي عددهم في سجن التوبة وحده؛ الأكبر في المدينة، بـ 2000. فيما تؤكد مصادر من داخل دوما (مسلحون تابعون لـ "جيش الإسلام" انشقوا عنه وانضموا إلى الجيش السوري) أن العدد يصل 4000 مختطف بينهم ألف امرأة، معظمهن من ضاحية عدرا العمالية التي احتلتها الميليشيات الإسلامية أواخر 2013.
وزارة المصالحة، المعني الرئيسي بملف المختطفين بموجب قرار تأسيسها عام 2012 سجلت نحو 5700 حالة خطف، استعان ذووهم بها. وتمكنت، بحسب الوزير حيدر، من تحرير 1025 مختطفا، أي أقل من20% منهم.
يوضح حيدر مسألة التفاوت في أعداد المختطفين: " ملفهم كما المعتقلين متحرك كالبورصة. كل يوم إطلاق سراح أو اعتقال أو اختطاف جديد". ويضيف: "أعداد
كبيرة منهم لا تعلم بها الوزارة لأن أصحاب العلاقة يحلّونها فيما بينهم أو بالاختطاف المضاد. من هنا الفجوة بين العدد الكلي ومن تعلم بهم الوزارة وتتسلم ملفاتهم للعمل عليها".
تجارب مريرة
مساء الأحد 2\11\2014 أفرج عن الدكتور حسام الطرشة بعد أربعة أشهر.
"في طريقي لعيادتي بحمص الساعة 08:10 دقائق صباح الخميس 3\7\2014، اعترضت طريقي سيارة أجرة عند مفرق (نقيرة) قرب طريق الشام فيما أغلقت عليّ من الخلف مركبة (فان)"، حسبما يروي اخصائي النسائية والتوليد د. حسام (50 عاماً). ترجّل أربعة مسلحين بـلباس عسكري، تبين فيما بعد أنهم من جماعة "الدفاع الوطني" ( قوات تؤازر الجيش العربي السوري)، "اقتادوني معصوب العينين إلى جهة ما زلت أجهل مكانها، ليحتجزوني في غرفة أربعة أشهر بتمامها".
طلب الخاطفون من أهل الطرشة مليوني دولار للإفراج عنه. كان "مخبر للأمن" في قريته - كما علم لاحقاً- رفع للخاطفين تقريراً كاذباً يدّعي فيه أن الطبيب يعالج نساء المسلحين ويستلم حوالات بأموال طائلة من الخارج .
متعاطف مع المسلحين أو داعم لهم"، تهمة جاهزة استُخدمت ذريعةً في معظم عمليات الاختطاف التي نفّذتها "عناصر غير منضبطة"، وفق التسمية التي يطلقها مسؤولون حكوميون التقاهم كاتب التحقيق - بينهم وزيرا العدل نجم الأحمد والمصالحة الوطنية علي حيدر- على عناصر من "الدفاع الوطني" وأيضاً "اللجان الشعبية" الموكل إليها حماية الأحياء من هجمات المسلحين.
الاختطاف خلفاً
في محافظة حمص (160 كم عن دمشق)، سُجلت أول عملية اختطاف عقب أسبوع من بدء الاحتجاجات (15 آذار عام 2011)، بحسب سجلات شرطة موثّقة لدى معد التحقيق، إذ ركّز التحقيق على حالات الاختطاف في ثالث أكبر محافظة في سورية، ومعروفة بتداخلها الطائفي.
"لم ينتبه الشارع الحمصي إلى هذه الحالات المتفرقة بدايةً. لكن الأمر تحول إلى ظاهرة قسّمت أحياء حمص على أساس طائفي بالتدريج"، وفقاً لـ "حيدر رزوق" مراسل إذاعة محلية وصلته عشرات الشكاوى عن عمليات اختطاف.
يؤيده في هذا الاستنتاج الشيخ نواف طراد الملحم رئيس "حزب الشعب" (تأسس على خلفية الأحداث التي شهدتها سورية) وأحد الوجهاء العاملين على ملف المصالحة والاختطاف في حمص: "قسّم الحدث السياسي والأمني المدينة إلى قسمين، موالٍ ومعارض، وسجّل القسم المعارض حالات اختطاف بحق مدنيين من الأحياء الموالية للسلطات "للمقايضة على معتقلين لدى السلطة" ورد الشطر الموالي باختطاف مدنيين لذات الغرض؛ المقايضة".
بالوثائق ..
في حمص وحدها سجّل قرابة 2700 مختطف، وفق إحصائية غير رسمية، توصل إليها معد التحقيق بمقاطعة معلومات عدة مصادر (ضبوط شرطة، قوائم لجان مصالحة وتقارير مستشفيات). حُرّر أكثر من 500 منهم وعُرف مصير أكثر من 700، وبقي مصير 1500 مجهولاً حتى الآن.
وثّق كاتب التحقيق وفريقه عشرات الحالات والشهادات لمختطفين "عادوا للحياة"، أو لذوي آخرين لم تكتب لهم النجاة، حتى الآن على الأقل.
من بين 700 مختطف مسجلة أسماؤهم في ضبوط لدى الشرطة قبل 2013 تم تحرير 102 وعثر على 55 منهم مقتولين ، فيما لم يتم العثور على الباقين.
عددالمختطفين | المحررون | المقتولون | مجهولو المصير |
700 | 102 | 55 | 543 |
أما الأعداد الأخرى فلم يُعرف مصيرها رغم الآمال الكبيرة التي علّقها أهاليهم بأن يكونوا في حمص القديمة.
"اكتشفنا أنه ليس من مختطفين أحياء لحظة إنجاز المصالحة وخروج المسلحين" من (حمص القديمة) التي عادت تحت سيطرة الحكومة بعد خروج آخر دفعة من المسلحين في 7 مايو/ أيار 2014 بموجب تسوية برعاية الأمم المتحدة، حسبما يؤكد الوزير علي حيدر.
شاهين يؤكد : "من بين 23 جثة انتشلت من أرض خلف مبنى الحزب في الحميدية (حمص القديمة) واحدة منها فقط تعود لرجل مختطف تعرّفت زوجته على جثته".
كما أنهم لم يكونوا في المقابر الجماعية التي وجدت في حمص القديمة بعد خروج المسلحين بحسب الدكتور محمد شاهين " بعد إجراء الفحوصات اتضح أن المقابر كانت للمسلحين وذويهم" .
"خطّاف" متذبذب
أول اختطاف مثبت رسمياً وثّق بسجلات شرطة حمص في 22/3/2011. وفقاً لضبط الشرطة 129، اختفت سوزان ابراهيم ديوب (مواليد 1988) دون تفاصيل. سُجّلت أربع حالات في نيسان/ إبريل، 5 في مايو/ أيار و64 في نوفمبر/ تشرين الثاني، قبل أن يراوح المعدل الشهري بين 30-60 اختطافا حتى مارس/ آذار 2012.
عام 2012 | عام 2012 | |||||||||||
آذار | نيسان | أيار | حزيران | تموز | آب | أيلول | تشرين أول | تشرين ثاني | كانون أول | كانون ثاني | شباط | آذار |
1 | 4 | 5 | 4 | 10 | 17 | 31 | 46 | 64 | 44 | 55 | 32 | 30 |
مذ ذاك بدأ المعدل بالتناقص، ليس لتحسن الوضع العام بل ربما لتردّيه. إذ أدت جرائم القتل والاختطاف المتبادل إلى تعاظم المخاوف والشكوك بين سكان الأحياء والقرى المتجاورة. وهكذا تراجع تفاعلها الاجتماعي والسياسي وانقطع التواصل العملي فيما بينها تقريباً، فراحت تعيد التكتل والتشظي على أساس مذهبي- سياسي. وأضحت حالات الاختطاف أكثر تنظيماً وتعقيداً.
لا تتوافر إحصائية دقيقة عن عدد عمليات الاختطاف في حمص خلال2013، حين تحوّلت المحافظة كلها إلى ساحة حرب مع تكثيف عمليات الجيش السوري ضد الميليشيات المسلحة، وفق قيادة شرطة حمص التي تنظم الضبوط.
في 2014، وفق ذات المصدر، سُجّل 153 اختطاف بينما عاد المؤشر للإرتفاع في 2015، إذ سجلت 75 قضية في ربعه الأول، وفق ذات المصدر.
المنطقة | عدد السكان | عدد المختطفين |
قرية أم العمد | 4 آلاف | 23 |
حي الزهراء | 200 ألف | 1500 |
أول الرقص.. حنجلة!
كما حال الناس في حمص، كذلك حال الجهات الرسمية في المدينة من شرطة وأجهزة أمنية؛ إرتباك في مقاربة ظاهرة جديدة.
الأهالي الذين لاذوا بأقسام الشرطة والجهات الأمنية لمعرفة مصير أقربائهم المختطفين، -وأحدهم "رامي . ح" الذي اختطف شقيقه- سمعوا كلاماً من قبيل: "لا نستطيع مساعدتكم بأكثر من تسجيل ضبط بالواقعة وتاريخها".
كانت سلطة الدولة في أحياء حمص التي شهدت أولى عمليات الاختطاف (بابا عمرو، القرابيص، باب السباع، باب تدمر، الخالدية) قد "ضعفت أو بالأحرى اختفت"، يرد وزير المصالحة الوطنية علي حيدر على تحميل السلطات مسؤولية تزايد الاختطاف وعجزها عن وضع حدّ له.
ويشرح: "هناك مناطق خارج سيطرة الدولة، ولا إمكانيات للعمل فيها. في الخطف تتعاملُ مع شبح، إن لم يتصل أو يطلب مال أو فدية أو يذكر أسماء فأنت كمن ينتظر شيئاً من السماء، لا تعرف كيف أو متى يأتي"؟ ويسوق مثلا: "أحد الخاطفين يفاوض الأهل من رقم هاتف ثابت في بيت تعود ملكيته لشخص مهجّر في منطقة خارجة عن سيطرة الدولة".
داوها بالتي كانت هي الداء !
مع يأس الناس من حل سريع، راح ذوو مختطفين يسمعون كلاماً من قبيل: "داوها بالتي كانت هي الداء". العديد من أهالي المختَطفين، وثّقنا شهاداتهم، أجمعوا على أن جهات أمنية وشرطية راجعوها في بداية الأزمة "أوحت" إليهم بتنفيذ عمليات اختطاف مضادة كحلٍّ وحيد.
محمد. ب أب لمختطفين (شاب وفتاة) يقول: "لم أترك باباً إلا طرقته (شرطة، أجهزة أمنية، وجهاء وسماسرة) و.. فهمت أخيراً أن علي القيام بخطف مضاد في نفس المنطقة التي اختطف ولداي فيها، ونُصحت أن يكون من سأخطفهم من أقرباء خاطفي أولادي لأجل عملية تبادل سريعة مضمونة النتائج". فشل في مسعاه فبقي ولداه رهينة لدى خاطفيهم حتى اللحظة.
يذكر الوزير حيدر مثل هذه الحالات: "ضابط برتبة عالية قال لي: داوها بالتي كانت هي الداء. فقلت له: "سينقلب عليك هؤلاء (يقصد عناصر اللجان الشعبية والدفاع الوطني المتعاطين بالخطف) وسيتفقون مع المسلحين ضدنا عندما نحاول ضبط مثل هذه العناصر المنفلتة".
عبر سنوات الأزمة ذاع صيت ضباط، كخاطفين أو داعمين لعصابات خطف أو مستفيدين منها. الوزير حيدر رفض الحديث عن أسماء بعينها لأنه "يعمل على المنهج وليس الأسماء، كما يقول، لكنه عاد وأكد أن ملفات هؤلاء أخذت طريقها إلى المحاكم، وبعضهم تم سحبه من مكان عمله كإجراء أولي، واتُخذت لاحقاً معالجات قانونية حسب الجهة التي يتبع لها الضالع في الاختطاف.
بجهود وزارة المصالحة - كما يؤكد وزيرها - تمت إحالة ما يزيد عن 40 متهماً للقضاء، كل منهم حسب مرجعيته، وحكموا بالسجن لفترات متفاوتة.
في حمص وحدها تم هذا العام فقط تحويل 38 متهماً من عناصر الدفاع الوطني المتورطين بأعمال خطف وقتل وسرقة إلى المحاكم المختصة في دمشق، كما يؤكد مصدر أمني لمعد التحقيق.
وزير العدل نجم الأحمد يؤكد من جهته : لا أحد فوق القانون، وسيطاله العقاب عاجلاً أم آجلاً.
حرفة الاختطاف دون معلّم
علي . ف. الذي افتتحنا التحقيق بقصته، بات واحداً ممن صاروا ملاذاً لعائلات اختطف أحد أفرادها. استطاع فريق العمل في هذا التحقيق الحصول على مقابلة معه بعد أن غدا أحد أكبر متزعمي عصابات الاختطاف في المنطقة الوسطى (حمص، حماة وريفهما) وبحسب الوزير حيدر: "طالبت بوضع حدّ له في اجتماع مجلس الوزاء دون جدوى حتى الآن رغم أنه مطلوب للقضاء" .
أنشأ علي مع بداية الأحداث "مجموعة حماية للقرية"، وجعل كشكاً يبيع فيه التبغ مركزاً للمجموعة. جنّد شباباً ووزع عليهم الأسلحة. وفي حركة لا تخلو من حنكة نسّق مع جهات أمنية عدة كي لا يثير استفزاز أي منها بوجوده المسلح في القرية، وصار يتلقى أوامره منها، كما يقول، ما أكسب وجوده ونشاطه نوعاً من الشرعية.
مقايضة :
مطلع 2012 اختُطِف ضابط من قرية مجاورة لقرية علي، واتجهت الشكوك إلى خاطفين من قرية بعيدة نسبياً بدا الوصول إليهم صعباً، فنفذ علي أول تحرك لمجموعته. اصطحب اثنين من شبابه نحو منطقة فيها تجمع مطاعم، استعرض مرتاديها حتى عثر بينهم على أربعة من أبناء القرية المشتبه بأن الضابط مختطف داخلها. ثم اختطفهم، وفتح مفاوضات مع أقربائهم انتهت بتحرير الضابط، مقابل تحريرهم.
نجاح هذه العملية وسرعتها أكسبه شهرة في المنطقة ثبّتت موقعه كمرجعية و "مدافع عن القرية"، في ظل غياب الثقة بأجهزة الدولة وعدم قدرتها على التدخل المباشر في هذه الحالات.
بدأ "علي . ف" بعد ذلك الاختطاف مقابل فدية، ما درّ عليه أموالاً بالملايين. واتسعت دائرة الشباب العاملين تحت أمره إلى 270 شاباً، فيما وسّع النطاق الجغرافي لنشاطه حتى شمل عدة محافظات بينها حلب وريف إدلب، كما يؤكّد أحد الذين عملوا معه خلال لقائنا به.
الخطف المضاد.. عهد جديد
بعد نحو شهر من أول اختطاف وما تلاه من عمليات استهدفت أبناء الأحياء "المؤيدة" للحكومة، بدأ عهد جديد من الاختطاف والاختطاف المضاد في حمص. راحت الأحياء الموالية تشكّل مجموعات للرد على عمليات اختطاف تستهدف أبناءها. تزعَّم بعضها عناصر في "الدفاع الوطني" وأخرى وجهاء ممن تنطّعوا لمهمة "المصالحة" فترأّسوا لجان مصالحة شعبية (قبيل تشكيل وزارة المصالحة الوطنية) استمدت قوتها من غياب دور السلطة المركزية، كما يقر بذلك وزير المصالحة، ووفق شهادات العديد ممن لاذوا بتلك المجموعات. في بعض الحالات شكّلها متنفّذون بمن فيهم "عضو مجلس شعب سابق" .
حاول معظم أهالي المختطفين معرفة أي شيء عن أبنائهم بواسطة أجهزة الدولة المدنية، العسكرية والأمنية دون جدوى، ما أفسح مجالاً لوسطاء من خارج تلك الأجهزة، ولكن بعلمها. بل إن هؤلاء مارسوا نشاطاتهم وسط تغطية إعلامية لافتة.
وهكذا تحول وجهاء ورجال دين وشيوخ عشائر، انضووا ضمن ما سمي "لجان المصالحة الشعبية"، إلى نجوم على الشاشات والإذاعات المحلية يتلقون اتصالات مباشرة من المواطنين فيعدونهم بالإفراج عن مختطفيهم عبر عمليات تبادل مع معتقلين لدى السلطات ممن "لم تتلطخ أيديهم بالدماء".
رفض حكومي :
لم تنجح محاولات الميليشيات المسلحة في إطلاق سراح معتقليها لدى السلطات السورية مقابل إطلاق المختطفين .
الناطق الرسمي لهيئة التنسيق الوطنية د. منذر خدام (تجمع معارض للسلطة من الداخل) يلقي باللائمة على السلطة لعدم إيفائها بالتزاماتها ومسؤولياتها تجاه مواطنيها، بمن فيهم الموالون لها، وعدم استجابتها لدعوات الميليشيات لإجراء عمليات التبادل. ويقول: "لم تستجب السلطة مثلاً لعروض المجموعات المسلحة التي اختطفت مئات من الجنود السوريين. تحضرني بهذه المناسبة قصّة أسر أحد أقربائي في الطبقة ومطالبة الخاطفين، في تسجيل مصور، مبادلتهم بنساء معتقلات لدى أجهزة النظام في الرقة والطبقة، لكن السلطة لم تستجب". وفي حلب أيضا "جرى عرض مبادلة ضباط وجنود في ذلك الوقت، لكن السلطة لم تستجب أيضاً. للأسف لم يتغير موقف السلطة حتى في حالة خطف مدنيين كما جرى في ريف اللاذقية وعدرا العمالية بريف دمشق الشرقي".
"المصالحة الوطنية".. خيار ووزارة
السلطات السورية أنشأت "وزارة الدولة لشؤون المصالحة الوطنية" وسمّي الدكتور علي حيدر رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي المعارض وزيراً لها. كان من أهداف إنشاء تلك الوزارة بالمرسوم الجمهوري 210 لعام 2012 البحث عن المفقودين (موقوفين ومختطفين).
بدأ الوزير حيدر عمله وسط تحديات كبيرة ناتجة عن طبيعة العلاقة مع الأجهزة الأمنية المسؤولة عن ملف الاعتقالات. يقول: " إمكانية التنسيق لا ترقى إلى المستوى المطلوب. النوايا الصادقة تظهر في العلاقة المباشرة، وهناك رغبة بإعطاء الوزارة ما تستطيع أن تقدمه للناس. التنسيق يحتاج إلى آلية عمل بين الأجهزة الأمنية ومكتب الأمن الوطني ووزارات الداخلية والدفاع والعدل والمصالحة الوطنية. والقضية تحتاج الى منظومة عمل أوسع، يكون للوزارة فيها دور المشرف أو المنسق العام بين هذه الأجهزة لمعالجة ملفات المعتقلين، لا سيما أنه ملف شائك. هناك أحياناً أكثر من جهاز له علاقة بالتحقيق مع الشخص الواحد".
اختطاف نهايته البيع أو القتل
السيدة "مها . ر" متزوجة ولها ثلاثة أولاد، تعرضت لتجربة ابتزاز حين اختطف زوجها الذي يعمل بالتجارة لدى ذهابه للقاء أصدقائه في الشهر العاشر 2011 اتصلت بهم فادعوا عدم رؤيتهم له نهائياً.
بعد ذلك، طلب الخاطفون فدية مالية جرت بشأنها اتصالات، شكّت الزوجة خلالها بأحد أصدقاء الزوج لدى سماع صوته في إحدى المكالمات، فانقطع التواصل بعدها مع الخاطفين نهائياً. وتعتقد الزوجة أن انتشار خبر معرفتها أحد الخاطفين جعلهم يتخلصون من زوجها، معتبرة أن دافع الخطف كان طائفياً.
بعد فترة من انقطاع أخبار الزوج، دخلت الزوجة متاهات السمسرة وتجارة الخطف، وتعرضت لعمليات احتيال. ابتزها عديدون مدّعين أن زوجها حي ويعرفون مكانه، ودفعت كثيراً من المال إلى وسطاء لم يعيدوا لها زوجها أو شيئاً من المال. لجأت إلى أحد وجهاء حمص المعروفين، "الشيخ أحمد الشعار" رئيس لجنة المصالحة الشعبية في حمص، فاستطاع إعادة بعض المال إليها من سماسرة الاختطاف.
لقّت هذه السيدة الميسورة عرضاً مبتكراً من أحد المتعيشين الجدد على الخطف، هو؛ بيعها شخصاً مختطفًا من منطقة الخاطفين تستخدمه ورقة مبادلة أو ضغط، لاسترجاع زوجها.
وتوضح لنا ما شرحه مستثمر الاختطاف حول عمله: "هذا العمل يحتاج مصاريف من بينها كلفة إطعام المخطوفين وأجور من يخطفهم وأجرة المستودع المحتجزين فيه وأجور الحراس..
"بيع المختطَف" صيغة راجت في أكثر من حالة اختطاف . عضو مجلس الشعب إياد سليمان الذي اختطف في تدمر تم بيعه لإحدى المجموعات المسلحة التي أرادت عبر شرائه مفاوضة السلطات لإطلاق سراح بعض قادتها.
سمسرة واستثمار
رئيس لجنة المصالحة الشعبية في حمص الشيخ أحمد الشعار كان يقدم خدمات وساطة لعتق مختطفين. رفض الشيخ الحديث عمّا يتقاضاه مقابل جهوده في فك أسر مختطفين، مدعياً أنها "لوجه الله". لدى وصولنا كان مكتبه في حمص– الزهراء يعجّ بالموظفين، وقد تحوّل إلى محج لكل من فقد قريبا. فما وراء هذه الجهود إذن؟ سرعان ما استشفينا من مكالمة وردته من أحد وجهاء بلدة فليطة الحدودية أنه "يطلب مساعدته في تحرير مختطف لدى "جماعته".
المكالمة (المسجلة) تضمنت اتفاقاً على تبادل مختطفين مقابل المال. والصيغة المستخدمة في الحديث بينهما كانت؛ "لن نختلف على السعر.. متل ما بتراعونا منراعيكم.. ومتل ما بتخدمنا منخدمك".
قُتل الشعّار برصاص قناص يوم 27 مايو/ أيار 2013 وهو في طريقه إلى قرية الضبعة (ريف القصير).
سلطة خارج السلطة
"صالح . ن" ، أحد أبرز الوجهاء العاملين في ملف المخطوفين ضمن ما يسمى "لجان المصالحة الشعبية"، خرج على الإعلام مراراً يكرر مقولته الشهيرة "الوزارة ليست مرجعية لي ولا أحد يحاسبني إلا رئيس الجمهورية".
وزير المصالحة علي حيدر يفنّد ادعاءاته وأمثاله من الوجهاء قائلاً: "هذا الكلام يستخدم خارج سياقه، الرئيس نوه في خطاب له بجهود أصحاب المبادرات الشعبية، وهم (التقطوا الجملة ومشوا بها). الرئيس يقول لهم اعملوا ضمن الأنظمة والقوانين." أي استخدام نفوذهم لتحرير مختطفين مقابل الإفراج عن معتقلين "لم تتلطخ أيديهم بالدماء" بالتنسيق مع الجهات الأمنية.
استثمار طارئ.. ومتواصل
الملايين التي يدرّها ملف الاختطاف ساهمت في خلق طبقة جديدة من الأثرياء ممن يطلق عليهم السوريون اليوم "تجار الأزمة".
لا أرقام تقريبية للأموال التي يدرها هذا الاستثمار الطارئ، ولا قدرة على تقديرها في ظل عدم وجود إحصاءات دقيقة لأعداد المخطوفين منذ بدء الأحداث في سورية، وتكتم مختطفين وأهاليهم على قيمة الفدية خوفاً على حياتهم، ورغبةً في نسيان هذه الذكرى الأليمة.
في أواخر 2014 خُطف عمار. ج (تاجر - 35 عاماً) من قبل علي . ف ومجموعته أثناء عودته من حلب إلى اللاذقية بعد أن نصبوا حاجزاً "طياراً" على الطريق. اضطر الرجل إلى دفع ما مجموعه 15 مليون ليرة (10 ملايين فدية + السيارة + أموال كانت داخل السيارة). علاقات عمار القوية بأشخاص في مناصب عليا في الدولة لم تنفع في تحريره بدون فدية. تم تهديد الخاطف بدفع الثمن إن لم يفرج عن عمار. تحداهم علي قائلاً: "لن أتركه قبل إرسال العشر ملايين" وبالفعل تم حجز التاجر 15 يوماً. وتم دفع الفدية كاملةً.
استطاع معد التحقيق الحصول على عينات عن حجم الفديات التي دفعها رجال أعمال وأثرياء رفضوا ذكر أسمائهم أو أي تفاصيل تتعلق بقصص خطفهم أو خطف ذويهم.
تراوحت المبالغ بين ثلاثة ملايين و20 مليون ليرة. (12 ألف - 100 ألف دولار)
الشيخ نواف طراد الملحم كان شاهداً على عملية تحرير ابن أحد أثرياء منطقة وادي النصارى بريف حمص مقابل 17 مليون ليرة (100 ألف دولار حينها).
وزير المصالحة يقول إن أحد الخاطفين الثلاثة في الغاب بات يمتلك مليار ليرة (4 ملايين دولار على الأقل) نتيجة امتهان الخطف، في بلد متوسط دخل الفرد فيه اليوم 100 دولار شهرياً.
قانون لمكافحة الإرهاب.. والخطف
وزير العدل نجم الأحمد يعد الحكومة جادّة في ملاحقة الخاطفين سواء كانوا عصابات أو أفراد من خلال إصدار قانون بتشكيل محكمة قضايا الإرهاب (تشكلت بالقانون 22 لعام 2012 إضافة إلى تشريع القانون 19 لعام 2012 الخاص بالجرائم الإرهابية) الذي تشدّد في عقوبات الخطف لتصل إلى 20 سنة سجن مع الأشغال الشاقة، وإلى الإعدام إذا تسبب بالموت أو بعاهة دائمة، أو في حال الاعتداء الجنسي على الضحية.
المتهمون بالخطف من الدفاع الوطني واللجان الشعبية والعسكريين والسماسرة يقعون ضمن هذا التوجه بحسب الأحمد: "القانون لا يميز بين الأشخاص سواء في عملهم أو المهمة المسندة لهم أو المنطقة الجغرافية التي ينتمون إليها، ويعتبر سبباً للتشدّد في العقوبة إذا كان الشخص الخاطف من المعنيين بتنفيذ القانون".
بعيداً عن القانون.. قريباً من اليأس!
لا يبدي المختطفون وأهاليهم، وكذلك عموم السوريين، اهتماماً كبيراً بالتصريحات المتفائلة التي يطلقها المسؤولون عن تراجع عمليات الاختطاف إثر صدور القانونين الجديدين.
بقاء "علي . ف" و"مصيب . س" و"صلاح . ع" وغيرهم بعيداً عن المحاكمة
وبقاء الآلاف من المختطفين في غيتوهات "علوش" لا يقنع آلاف العائلات السورية بجدية كافية من قبل السلطات في معالجة الملف الإنساني الخطير.
حجم الجرح الذي تركه ملف الاختطافات في قلوب السوريين أثخن وأعمق من كل الإجراءات والتصريحات والمزايدات.. جرحٌ يكشف عنه ربما دعاء بات يوحّد السوريين عند معرفتهم بخبر اختفاء أحد أحبتهم: "يا رب ارحمه بالموت ولا تعرضه لمحنة الخطف وعذاباته.. يا أرحم الراحمين!".
أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة أريج (إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية) www.arij.net