خلف أسوار المزارع.. عمال تحت سطوة الانتهاكات

* سور منزل أو مزرعة في منطقة الأغوار، تصوير محمد زكريا، موقع حبر
الرابط المختصر

في إحدى مزارع دير علا يعيش ثلاثة عمال مصريين حياة لا آدمية، نتيجة احتجازهم وعزلهم عن العالم الخارجي داخل أسوار تلك المزرعة، التي ما إن دخلوها سلموا جوازات سفرهم للمُشغل الذي طالبهم بذلك تحت ذريعة "المحافظة عليها"، وهي ممارسة شائعة يواجهها العمال الأجانب الذين يأتون إلى الأردن للمرة الأولى. 

العمال الثلاثة لا تتجاوز أعمارهم 24 عاما جاؤوا للعمل  قبل 5  سنوات، ومنهم العامل عثمان عماد (اسم مستعار حفاظا على خصوصية الضحية)  متمنيا أنهم لم يأتوا ، "أول ما يوصل العامل الأردن صاحب المزرعة يطلب جوازه بحجة المحافظة عليه وضمان عدم فقدانه، ولكنه يرفض إعطاءه للعامل في حال طلبه لأي سبب كان".

هذه السيطرة تتعزز بسبب الملاحقات الأمنية التي يعاني منها العمال المهاجرون، إذ يستغلها أصحاب العمل كوسيلة لتهديد العمال ومنعهم من مغادرة المزرعة دون إذن مسبق، وفي حال ضبط العامل من قبل السلطات من دون جواز سفر أو تصريح عمل، يُعاد قسرًا إلى صاحب العمل.

 ويقول العامل أحمد مصطفى  (اسم مستعار للحفاظ على خصوصية الضحية) أن: "صاحب الشغل دايما يخوفني بالشرطة لانو ما معنا جواز السفر يمسكونا ويرجعنا عنده، طول الوقت صاحب المزرعة يحكي هيك واحنا بدنا نشتغل ما بدنا مشاكل". 

ولا يقتصر الأمر على حجز الجوازات، بل يمتد إلى تقييد حرية التنقل والتواصل، إذ يُمنع العمال من مغادرة المزرعة أو التحدث مع العاملين في المزارع المجاورة، وحتى التحية لأقاربهم أو معارفهم الذين يعملون في أماكن قريبة تُعد مخالفة. 

ويروي العامل قصته "لما كنا نطلع مع صاحب المزرعة ممنوع علينا نتطلع على الجهة التي يوجد فيها ناس، وصاحب العمل هو فقط من يقوم برد التحية، وغير ذلك نواجه مشكلة معه."

إلى جانب ذلك، يتحمل العمال ساعات عمل مرهقة تتجاوز 18 ساعة يوميًا، تبدأ من الخامسة فجرًا وحتى ساعات متأخرة من الليل، مع استراحة قصيرة لا تتجاوز ساعتين في الصيف وساعة واحدة في الشتاء بحسب ما أجمعوا عليه.

ويتحدث العامل عثمان عماد "صاحب العمل بده منا نشتغل ليل ونهار صيف وشتاء، وفي إحدى الأيام طلب منا العمل تحت المطر وملابسنا مبتلة بالمياه، وإصراره على الاستمرار، بحجة أن العامل يأتي للعمل وليس للاستراحة شتاءً."

 

العمل بلا راحة

رغم توقيع عقود عمل تتضمن حق العمال المهاجرين المصريين في الإجازة الأسبوعية، إلا أن هذا البند يظل مجرد نصٍّ على الورق لا يجد طريقه إلى التنفيذ في مزارع الأغوار الأردنية. فالعمال الذي قابلتهم معدة التقرير يؤكدون أن جميع أيام الأسبوع تُعدّ أيام عمل إلزامية، دون مراعاة لحالتهم الصحية، فيما يُفرض على من يتغيب ليوم واحد خصم مالي يعادل أجر 15 يومًا. ويستعيد، أحد العمال المصريين في منطقة دير علا، حادثة إصابته بـ"دقة شوكة" تسببت له بتورم شديد في القدم ومنعته من السير قائلا: "تغيبت عن العمل ليوم واحد بس لأن رجلي ما قدرت أمشي عليها، صاحب المزرعة ما خلاني أروح عالطبيب، قاللي اكويها بالنار وارجع اشتغل".

هذا الإهمال الصحي ليس حالة فردية، بل يعكس واقعًا متكررًا بين العمالة الزراعية المهاجرة، حيث تغيب الرعاية الطبية ويُحرم العمال من أبسط حقوقهم الإنسانية في الراحة أو العلاج.

إلى جانب حرمانهم من الإجازة الأسبوعية، يُمنع العمال المهاجرون من السفر إلى مصر لزيارة عائلاتهم إلا وفق شروط قاسية، في الإجازة السنوية، إن سُمح بها، لا تتجاوز شهرين إلى ثلاثة أشهر، وتكون من دون أجر، ويُلزم العامل بتأمين بديل عنه طوال فترة غيابه.

ففي ذات مرة، اضطر أحد العمال لتأمين عامل بديل كي يتمكن من السفر للعلاج وزيارة أسرته، بعد إصابة قدمه بالتهاب حاد نتيجة الإهمال، لكن حين عاد إلى الأردن، لم يُسمح له بالعمل في أي مكان آخر سوى المزرعة نفسها، حتى يقبل صاحب العمل خروج البديل وتسليمه جواز سفره وتصريح العمل.

وينص نظام عمال الزراعة رقم 19 لسنة 2021 في مادته الرابعة على أن تكون ساعات العمل الزراعي ثماني ساعات يوميا على ألا تزيد عن ثماني وأربعين ساعة أسبوعيا، توزع على ستة أيام بالأسبوع. لكن على أرض الواقع، يشتغل العمال الزراعيون ساعات طويلة مقابل أجور شهرية لا تتجاوز 300 دينار، ولا يحصل عليها العامل المهاجر شهريا، بل يدفع له جزء من الراتب لا يتجاوز 200 دولار كل 4 أو 5 شهور لإرسالها لعائلته، ولا يحصل على مصروف خاص له طيلة أيام السنة وباقي الأجور قد يحصل عليها نهاية الموسم، ومع خصم ثمن الأكل والشرب على حد قول العامل عثمان عماد وهو ماحدث معه في العمل، مضيفا: "أنا ماكنت أعرف الفلوس شكلها ازاي، والله ماكنت اعرف الربع من الدينار، لأن صاحب المزرعة هو يحول الفلوس للأهل، وما يعطيني فلوس نهائي". ومن الممكن أن تحلّ نهاية الموسم، ولكن دون دفع باقي الأجور المتراكمة على صاحب العمل، مشيرين الى زميلهم بالمزرعة الذي عاد  إلى مصر دون الحصول على باقي أجره المتراكم وقيمته 1700 دينار.

 

"جسد بلا روح"

في مزرعة أخرى تبعد نحو أربعة كيلومترات عن الطريق العام، تحدث العمال إلى معدة التقرير من خلف الباب خشية أن يراهم صاحب العمل، وأكدوا أنهم يعيشون الظروف ذاتها من الحجز والقيود والحرمان.

"ما يختلف شيء أبدا، حجز جواز السفر وتصريح العمل، ممنوع نطلع، ممنوع نحكي، كل شيء ممنوع، بس لازم نحكي حاضر يا معلم".

يقول أحدهم إنهم يشعرون بأنهم "أجساد بلا روح"، يعملون بلا راحة، وتُصادر منهم حرية الحركة والكلام، ويخضعون لنظام يقوم على الخوف والتهديد.

 

طعام شحيح ومياه ملوثة

يُلزم صاحب المزرعة بتأمين الطعام والمياه للعمال على نفقته طوال فترة شغلهم لديه بحسب الاتفاق الشفوي الذي يجري بين الطرفين، لكن ما يُقدَّم فعليًا لا يكفي لتغطية الاحتياجات الأساسية، إذ تقتصر وجبة الإفطار على عشر حبات فلافل ونصف دينار خبز فقط، فيما يشتري لهم مترين من المياه أسبوعيًا مخصصة للشرب.

أما مياه الاستحمام وغسل الملابس فهي مأخوذة من بركة زراعية مليئة بالطحالب، وتفوح منها روائح كريهة، ما يجعلها غير صالحة للاستخدام البشري ويهدد صحة العمال بأمراض جلدية وتنفسية خطيرة.

وأثناء الحديث مع العامل من خارج سور المزرعة طلب الذهاب فورا حين سمعا صوت مركبة صاحب العمل، تجنبا لحدوث مشكلة بينهما قد تصل إلى خسارة شغله وتسفير العامل، لأنه ممنوع من الحديث مع أي شخص كان!

ويعيش 15 عاملًا مهاجرًا في مزرعة أخرى أوضاعًا مشابهة، كما رصدت معدّة التقرير خلال جولتها الميدانية، إلا أن الفارق هنا أن صاحب العمل يدفع نصف الأجر فقط شهريًا، ويسمح للعاملين بالخروج مرة واحدة كل شهر لتحويل مصاريف عائلاتهم في مصر، على أن يرافقهم بنفسه، حيث يُنقلون بسيارة كبيرة من نوع "ديانا" إلى موقع الصرافة ثم يُعادون إلى المزرعة.

وعلى الرغم من انتهاء عقود عملهم التي تبلغ مدتها عامين، لا يستطيع هؤلاء العمال الانتقال إلى صاحب عمل آخر إلا بعد الحصول على "براءة ذمة" من صاحب العمل الحالي، الذي يشترط في بعض الحالات دفع مبلغ مالي يحدده بنفسه مقابل منحها. ويُجبر العمال على الدفع لغياب أي وسيلة قانونية تحميهم من تعسّف صاحب العمل في حال رفض إصدار براءة الذمة المطلوبة للانتقال.

 

أين الرقابة؟

يرى المدير التنفيذي لبيت العمل والأمين العام السابق لوزارة العمل، حمادة أبو نجمة، أن استمرار الانتهاكات بحق العمال المهاجرين في القطاع الزراعي يعود بالأساس إلى قلة المفتشين المؤهلين في وزارة العمل، التي بدأت رقابتها على هذا القطاع متأخرة عام 2021 بعد صدور نظام العاملين في الزراعة، إذ كان التفتيش قبل ذلك يقتصر على تصاريح العمل دون التحقق من الانتهاكات العمالية.

ويقدَّر عدد المفتشين في الوزارة بنحو 200  مفتش فقط، وفقًا لأبو نجمة، مشيرًا إلى أن جزءًا كبيرًا منهم يشغل مناصب إدارية، بينما تبقى المناطق الزراعية الشاسعة بحاجة إلى طواقم أكبر وجهد ميداني مضاعف، ما يشكّل عائقًا حقيقيًا أمام الرقابة. ومن وجهة نظره، فإن الحل يبدأ بزيادة عدد المفتشين وتدريبهم بشكل متخصص، وتزويدهم بوسائل نقل مناسبة للوصول إلى المزارع البعيدة، إلى جانب توظيف تكنولوجيا تحديد مواقع الوحدات الزراعية لتسهيل مهام التفتيش، كما يشدد على أهمية توعية العمال وأصحاب العمل بالتشريعات التي تمنع احتجاز جوازات السفر، لافتًا إلى أن كثيرين منهم لا يعلمون أن هذا الفعل مخالف لقانون الجوازات ويستوجب العقوبة.

ويدعو أبو نجمة إلى تنسيق أوثق بين وزارتي العمل والزراعة، موضحًا أن الأخيرة تعمل على مشروع ترقيم وتسجيل الوحدات الزراعية، ما سيسهّل عملية التفتيش ويحدّ من الانتهاكات. ويرى أن أسباب التجاوزات مشتركة بين العامل المهاجر وصاحب العمل ووزارة العمل نفسها، نتيجة غياب الشكاوى الفعلية رغم وجود منصة "حماية" في الوزارة، التي تتعامل بسرية تامة مع الشكاوى الواردة.

وبحسب تقرير جمعية تمكين للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان الصادر نهاية عام 2023، فإن احتجاز الوثائق الرسمية هو القاسم المشترك بين معظم العمال المهاجرين، وأظهر رصد الجمعية أن غالبية العمال لا يحملون جوازات سفر أو تصاريح إقامة أو عمل، لأن أصحاب العمل يحتفظون بها، وبيّنت النتائج أن 63% من العمال كانوا متخوفين قبل التحاقهم بالعمل من مصادرة أوراقهم الثبوتية لتقييد حركتهم ومنعهم من تغيير وظائفهم، كما كشف التقرير أن 61% من العمال يعيشون خوفًا دائمًا من الاحتجاز أو الإبعاد من قبل السلطات أو أصحاب العمل، ما يهدد مصدر رزقهم ويعرضهم للاحتجاز الإداري.

وأشار التقرير إلى أن العديد من أصحاب العمل لا يشركون العمال في الضمان الاجتماعي، رغم إلزامية ذلك بموجب المادة (20/ج) من قانون الضمان الاجتماعي، ما يشكّل مخالفة قانونية صريحة.

وفي مطلع عام 2024، أصدرت أربع منظمات حقوقية أردنية ورقة سياسات مشتركة لتعزيز حقوق العمال المصريين، لافتة إلى أن الترتيب المتدني للأردن في المؤشرات الدولية للعبودية الحديثة والاتجار بالبشر يرتبط مباشرة بواقع العمالة المصرية، ودعت الورقةُ الحكومةَ إلى تبنّي التوصيات المقترحة لتحسين الترتيب الدولي للأردن وتعزيز منظومة حقوق الإنسان الوطنية.

ومن بين القضايا التي وثّقتها جمعية تمكين، حالة عامل مصري في إحدى مزارع الأغوار الشمالية، عمل لمدة 15 عامًا بلا أجر أو تصريح عمل مجدّد، وتعرّض خلالها للضرب والإهانة ومنع من التواصل مع عائلته في مصر، كان يعيش في مكان مخصص لصناعة الفحم، بوضع صحي ونفسي متدهور، ويعاني أمراضًا مزمنة بلا علاج، وأبلغت الجمعية وحدة مكافحة الاتجار بالبشر التي زارت الموقع ووثقت الانتهاكات، لتُحال القضية إلى المدعي العام وما زالت قيد الاستئناف حتى الآن.

وأوصت "تمكين" بضرورة توفير قنوات آمنة وسهلة لتقديم الشكاوى دون خوف من الانتقام، مع التأكيد على أهمية مصادقة الأردن على الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم.

ورغم أن الأردن صادق على عدة اتفاقيات دولية، مثل اتفاقيتي العمل الجبري وتساوي الأجور، إلا أنه لم ينضم بعد إلى اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بحماية العمال المهاجرين، والمصادقة عليها خطوة ضرورية لتعزيز الحماية القانونية وتحسين ظروف العمل والمعيشة للعمال المهاجرين. 

 

* تم انتاج هذا التقرير ضمن مشروع "تعزيز حقوق العمال المهاجرين ومكافحة الاتجار بالبشر"، نفذه مركز المعلومات والبحوث-مؤسسة الملك الحسين، بالتعاون مع مؤسسة هينرش بُل - مكتب فلسطين والأردن. الآراء الواردة في التقرير لا تعكس بالضرورة عن آراء مؤسسة هينرش بُل.