العزوف عن الشكوى و قصور القوانين يحول دون لجم ظاهرة الشعوذة في غزة
ما زالت سعاد 22 عاما، تعاني اضطرابات نفسية وأعراض اكتئاب مزمن بعد ان تعرضت لعملية اغتصاب على يد احد المشعوذين سبق وقرر زوجها اللجوء إليه على أمل طرد "جني" سكن زوجته وقلب حياتهم الزوجية رأسا على عقب بعد شهور على دخولهم القفص الذهبي.
وبسبب انعدام لغة الحوار واختلاف البناء الثقافي بينَ سعاد، الفتاة الم-غتربة، التي ترعرعت في بريطانيا وبينَ قريبها، الذي ارتبطت به بعدَ عودتها إلى غزة بعام، سببَ الكثير من المشاكل الزوجية بينهما.
تقول سعاد: "بعد الكثير من المشاكل بيننا قررَ زوجي عرضي على مشعوذ في مدينة خانيونس رغم اعتراضي. وفي الجلسة الثالثة رفضَ المشعوذ الذي يطلقون عليه "أبو الأمين" أن يرافقني زوجي إلى الغرفة، وأجبرني على الاستلقاء على سرير حديدي ورشَ وجهي وجسدي بماء له رائحة العشب، وبدأ يتحسس جسدي وهو يتلو ترانيم غريبة، وبعدَ وقت ليسَ بقصير هجمَ عليَّ واغتصبني وأنا أصرخ بلا جدوى. فلا زوجي أنقذني ولا أي من النساء اللواتي كُن ينتظرن دورهن في عيادته".
سعاد سمراء البشرة ذات العينين العسليتين احمرَ وجهها وأصرت على مواصلة الحديث بعدَ أن ارتجفَ جسدها فجأة، وصُكت أسنانها.
ارتدى المشعوذ جلابية قصيرة ورائحة عيادته امتلأت بخورا وأعشابا، وفق سعاد التي واصلت وصفَ تفاصيل تعرضها للاغتصاب وامتناع زوجها عن تصديقها لأنه اقتنعَ برواية المشعوذ أن الجني "يسيطر عليها كليا".
زوجها، بعدَ ان دفع للشيخ تسعمائة دولار أمريكي ، قررَ تطليقها ولجأت سعاد إلى مرشدة نفسية في العيادة الطبية التابعة لوكالة الغوث بعدَ أن هددتها حماتها بتشويه سمعتها إن أفصحت عن القصة.
حكاية "سعاد" كانت بداية الخيط لتتبع عالم الشعوذة وسط عزوف شبه تام من الناس عن الشكوى ضد المشعوذين خوفا من الفضيحة في مجتمع محافظ، و كذلك لعدم نجاعة الإجراءات القانونية الكفيلة بردع ممارسات من يطلق عليهم العامة بـ "الشيوخ".
سعاد الوحيدة التي روت قصتها، فيما امتنعت امرأتان تعرضتا لحوادث مشابهة على يد مشعوذين مختلفين، بعدَ أن أرشدنا إليهما أحد المعالجين بالقرآن الكريم شمال مدينة غزة.
اغتصاب وقتل وضرب.
باب العمل في الشعوذة مفتوح في غزة لكل من يستطيع ممارسة القليل من السحر ويمتلك مهارة الإقناع. أما باب الشكوى فمقفل؛ لأن المواطن يخشى على نفسه من الفضيحة، في مجتمع محافظ تنتشر الشائعات داخل احيائه المكتظة بسرعة كبيرة.
وظاهرة الشعوذة تنتشر و تتزايد و يقدر عدد المشعوذين المرصودين بألف شخص موزعين في أنحاء غزة بحسب تقديرات الشرطة. وهنالك العشرات غيرهم ممن يعملون بعيدا عن رصد السلطات. ولا يوجد إحصاءات دقيقة لثرواتهم، ولا يلقى القبض إلا على من كان منهم مكشوفا للعامة، أو من اشتكى عليه الضحايا، ويبقى العدد الأكبر منهم طليقا بسبب قصور القوانين وضعف إجراءات المكافحة وجهل الأهل وإحجام غالبية المتضررين عن رفع شكاوى قضائية.
ففي معظم القضايا المنظوره امام القضاء توجه للمتهمين تهمة "جنحة الضرب والتحرش الجنسي"، استنادا لقانون العقوبات الفلسطيني لعام 1963 والمعمول به في غزة، دون أن تثبت عليهم جرائم الاغتصاب والتحرش الجنسي بخاصة أن الضحايا يخشون تقديم دلائل تثبت تعرضهم لذلك. وتنتهي القضية لدى الشرطة بتوقيعهم على تعهدات بعدم ممارسة السحر والشعوذة، ثم يطلق سراحهم، دونَ عرضهم على النيابة أو تقديمهم للمساءلة القانونية.
"المادة 307 من قانون العقوبات الفلسطيني الذي يحمل الرقم 74 لسنة 1936 (إبّان الانتداب البريطاني) يوضح السابق. إذ تنص المادة على أن "كل من زعم من أجل الحصول على كسب أو مكافأة بأنه يمارس أي نوع من أنواع السحر أو العرافة، أو أخذ على عاتقه فتح البخت، أو زعم بأنه يستطيع اكتشاف شيء مسروق أو مفقود ومعرفة مكان وجوده بما يملك من مهارة أو معرفة في علم التنجيم والسحر مقابل كسب أو مكافأة، يعتبر أنه ارتكب جنحة ويعاقب بالحبس مدة سنة واحدة"
زيارة خاصة
وفي زيارة خاصة لمنزل أحد المشعوذين فاجأنا ارتفاع عدد المراجعين في أروقة المنزل. ونظرا لأننا رافقنا أحد الزائرين الدائمين انتظرنا خارجَ الغرفة أثناء "جلسة العلاج"، مما أتاحَ لنا سؤال الموجودين عن المبالغ التي يدفعونها اجر كل جلسة.
حيث تبين ان الضحية تدفغ ما يتجاوز 50 دولارا اجرة الجلسة الواحدة وصولا إلى 2500 دولار لمجموع الجلسات التي تستمر ثلاثة أو أربعة أشهر على أكثر تقدير، ونظرا لأن زيارتنا امتدمت لثلاث ساعات، من الرابعة عصرا وحتى السادة أم نحو 30 حالة مرضية (ضحية) وعليه فإن متوسط الدخل اليومي من الأرباح (الاجور) يقارب الـ 1500 دولار في حين كان متوسط دخل الفرد في غزة شهريا 500 دولار.
وخلال الزيارة سمعنا صوتَ القرآن يصدح في غرفة المشعوذ وتبعه صراخ تأكدنا بعدَ ذلك أنه نتيجة ضرب المشعوذ لرفيقنا على قدميه بحجة إخراج الجن.
واردف رفيقنا قائلا " ثبتَ المشعوذ قدمي بيده وصار ظهره إلى وجهي وأخذ يضربني بعصا خيزران على باطن قدمي ويردد – اخرج اخرج- حتى صرتُ أهلوس من شدة الألم وبعدَ ذلك رش وجهي بالماء وأعطاني موعد لمقابلة جديدة بعدَ أسبوع على أن التزم بالاستحمام بماء أعطاني إياه مسبقا"، تبعا له.
البصارة أو الفتاحة أم يونس هي المشعوذة الوحيدة التي وافقت على إجراء حوار معنا ولكن بشرط أن نستبدل كلمة الشعوذة بـ"التبصير". فهي تعمل منذ 20 عاما على "تزويج العوانس وتقريب الأزواج من زوجاتهن، وأحيانا تطليق بعض النساء "والربط لهم" لمنعهن من الإنجاب"، حسب قولها. العجوز أم يونس التي رفصت ذكر عمرها أصرت على أن ما تفعله صحيح؛ فقد ورثته عن والدها الذي ورثه عن والدته، وهو مهنتها الوحيدة وتُدر عليها يوميا 150 دولارا تقريبا.
أم يونس كانت ترتدي ملابس رثة تقريبا وتزين أنفها بحلقٍ كبير وأسفل ذقنها ارتسمت ثلاث نقاط طولية باللون الأخضر، وهي تطلب من أغلب زبائنها النساء أن يحضرن دائما شيئا ما "أثر" من ستسحره، وهي بالتالي إما تحرق أو تخلط بعض المواد بالأثر المكون من قطعة قماش أو قليل من شعر الرأس، وتطلب من النساء أن يتبخرن به أو يقمن برشه على باب منزل الضحية.
ومن أبرز وصفات المشعوذين وفقَ استطلاع الرأي الذي أجريناه خلطات الأعشاب والماء ذو الملمس اللزج والأوراق التي تُسطر بأحرفٍ مقلوبة، وأغرب الوصفات كانت "سُلحفاة" دفعَ عليها صاحب الاستطلاع 40 دولارا بعدَ أن أخبره المشعوذ أنها في حال قطعت المنزل طولا وعرضا ستأخذ الأذى في أقدامها.
مآسي "زبائن"
في واقعة أخرى رصدها هذا التحقيق، توفيت علياء (35) عاما بسبب تسمم غذائي، وفقَ تقرير طبي صدر عن مستشفى الشفاء بتاريخ 20 يناير 2004، بينما أكدت عائلتها أنها قضت بعد تناولها سوائل مركبة وصفها لها أحد "المشعوذين"، بعد زيارتها له في ذات العام. العائلة لم تتهم أحدا في "مقتل ابنتهم" رغم أن ما حدثَ "جريمة" أسرّ بها والدها الذي كانَ شديد الخوف في البدء من التصريح بالقصة، ولكنه اعترف بتحفظ شديد.
علياء الفتاة التي لم تكمل دارستها الثانوية تزوجت ثلاث مرات وطُلقت من أزواجها دونَ أن تنجب منهم. وكلما أراد أحدهم إرجاعها وقعت مشكلة وانتهى الأمر. لذا قررت أن تزور "مشعوذا" بموافقة والديها. أقنعها "المشعوذ" بأن شخصا ما "شرّبها سحرا للتفريق بينها وبينَ أزواجها، وكلما أوشكت مشكلتها على الحل يتفاعل السحر في جسدها وينفر أزواجها" على ما يستذكر والدها. وصفَ لها "المشعوذ" علاجا تشرب بموجبه لترين من الزيت المغلي الممزوج بأعشاب أعطاها إياها "لطرد السحر". و بعد خمس ساعات على تناولها "الوصفة" نقلت إلى المستشفى جثة هامدة، فقد توفيت متسممة بفعل الخلطة "العلاجية".
طبيب الباطني محمد فتحي العفيفي يؤكدَ أن شرب علياء للكمية "غير الطبيعية من الزيت المغلي سبب كاف لقتلها خصوصا أن الجسم الطبيعي لا يتحمل هذا القدر الكبير من الدهون".
كما يشكك العفيفي بوصفة المشعوذ لعلياء "الأعشاب الموصوفة لم تحدد كميتها، أصنافها وطريقة التعامل معها علما أن الأعشاب البرية تستخلص منها الأدوية والعقاقير الطبية لكن وفقَ دراسات فنية تشترط تحديد كميتها بدقة وأصنافها وتفاعلاتها ودرجة تكثفها. خصوصا وأن بعض الأعشاب محظورة على مرضى ضغط الدم أو السكري أو القلب بسبب تأثيراتها السلبية على حالتهم".
"علياء كانت تعاني من قرحة في المعدة" حسب والدتها، وتبعا للدكتور العفيفي فإن وفاتها بعدَ خمس ساعات نتيجة طبيعية لتناولها كمية الدهون الكبيرة والأعشاب التي وصفها "المشعوذ" والعائلة لا تذكر أصنافها أو كميتها.
وفي قصة أخرى اصيب مأمون، ذو الخمسين عاما، بازرقاق في رقبته وانحباس للدم تشكلت على إثرها طبقة أسفل رقبته تشبه الحرق دامت آثارها لشهرين، كل ذلك نتج عن تعرضه لضرب متواصل على يد مشعوذ في الأول من مارس 2012، بعد إقناعه أن "الدمل" في أسفل رقبته "جنّي متحوصل".
أما حازم (30) عاما فأصيب بالشلل نتيجة تجربة مشابهة. "أصبت في ساقي اليسار في أحداث الانقسام الفلسطيني 2007 بينَ حركتي فتح وحماس، ونتيجة الإهانة المتواصلة التي تعرضتُ لها على يد المسلحين دخلت في حالة اكتئاب طويلة، زادَ من حدتها عجز الأطباء عن إخراج بقايا الرصاصات من قدمي"، يقول حازم. بعض معارف الشاب أرشدوه إلى مشعوذ أعطاه في البداية أعشابا صفراء اللون ليستحم بها، ومن ثم بدأ بتعليق قدميه فوقَ النار لإخراج الجني، حتى فقدَ قدرته على الحركة.
حازم اقتصَ من المشعوذ دونَ أن يلجأ إلى الشرطة، إذ حرّض عليه عددا من أصدقائه الذين ضربوه حتى كسروا قدميه.
الشرطة تؤكد
الناطق الإعلامي باسم جهاز الشرطة في غزة الرائد أيمن البطنيجي أكد أن جهازه وثّقَ حالة وفاة واحدة لامرأة أربعينية قُتلت نتيجة الضرب المتكرر على الرأس أثناء جلسة شعوذة. أُحيلَ "المشعوذ إلى النيابة العامة"، بحسب البطنيجي الذي يشدد على أن "العديد من قضايا القتل تكون نتيجة الضرب الشديد والمتواصل، لا يموت الضحية فيها مباشرة ويفضّل أهله التكتم على الموضوع خشية الفضيحة، أو لخوفهم من المشعوذ". ويؤكد البطنيجي أن معظم من قبض عليهم بتهمة ممارسة السحر والشعوذة لم تثبت عليهم جرائم كالتجسس لصالح إسرائيل كما يروج البعض، أو الاغتصاب والتحرش الجنسي، وأطلق سراحهم بعد أن وقعوا على تعهدات بعدم ممارسة السحر والشعوذة، دونَ عرضهم على النيابة، رغمَ إقرار البطنيجي بأن القانون الفلسطيني للعقوبات يقضي بحبسهم عاما كاملا عقابا لهم.
والتهاون في عقاب المشعوذين يشجعهم على ممارسة اعمالهم وهو ما دفعَ بفتاة عمرها 23 عاما، إلى ممارسة الشعوذة في مدينة رفح جنوب القطاع، اذ لم تجرمها الشرطة في غزة بعدَ إلقاء القبض عليها، و"اكتفت بـتخويفها وإجبارها على توقيع تعهد بعدم ممارسة الشعوذة مرة أخرى"، حسب البطنيجي.
نصائح الأصدقاء والأقرباء
ويشير البطنيجي إلى أن 70% من ضحايا المشعوذين يستدلون عليهم عن طريق آخرين تعالجوا عندهم، وغالبية الضحايا من النساء، اللواتي يلجأن بالسر إلى "أوكار" المشعوذين، وفقَ وصفه، مؤكدا أن ثقافة من يقصدون المشعوذين متفاوتة إلا أن غالبيتهم "جاهل". وهذا ما اثبته استطلاع للرأي أجريناه على عينة من 70 زائر للمشعوذين، حيث تبين أن 98 % من أفراد العينة عرفوا عن المشعوذين من خلال أصدقاء ومعارف، في حين عرفَ 2 % فقط عنهم بطريق الصدفة.
ويدعي 40% ممن لجأوا إلى المشعوذين طلبا للعلاج أنهم أصيبوا بأمراض مزمنة نتيجة تناولهم الوصفات التي قدمت لهم. ولدىَ مراجعتنا لخمس مراكز صحية خاصة وحكومية أكدت تلك المراكز أنها لم تستقبل أي حالة مرضية نتيجة تناول وصفات المشعوذين، في حين كشف أحد أطباء الطوارئ في مستشفى الشفاء - أكبر مستشفيات غزة - فضلَ عدم ذكر اسمه، أنه استقبل حالتي وفاة نتيجة التعرض للضرب المبرح على يد مشعوذين، الأولى لامرأة في بداية الأربعين، والثانية لفتاة في العشرينيات من عمرها.
القانون عمره "76" عاما!
القصص الأربع التي وصلنا إليها امتنعَ ضحاياها عن تقديم بلاغات ضد المشعوذين خوفا من انتقامهم، أو رغبة في استرداد حقوقهم بالقوة.
نائب نقيب المحامين في غزة المحامي سلامة بسيسو أكد أنه يتم بموجب قانون العقوبات تقديم لائحة اتهام بحق مرتكب السحر أو الشعوذة والعرافة، "ومن أهم شروط الاتهام هو الحصول على كسب أو مكافئة مالية، وهو ما لم يثبت على المعالجين بالقرآن الكريم إذ أنهم لا يحصلون على أرباح جراء خدماتهم" حسب بسيسو.
بسيسو لم يوكل إلا بحادثة واحدة من هذا النوع "ترافعت عن شخص اتهم مشعوذا بسرقة ماله وإيذائه جسديا قبل أربعة عشر عاما"، على ما يذكر المحامي، لافتا إلى أن نسبة الذين اشتكوا المشعوذين وقصدوا محامين للترافع عنهم لا تتجاوز عشر حالات في ال 20 عاما الماضية.
رئيس المجلس الأعلى للقضاء في غزة د.عبد الرؤوف الحلبي يرى أن لا شيء يحول دونَ تعديل قانون العقوبات الفلسطيني فيما يخص ممارسة السحر أو الشعوذة وعمليات النصب.
لكنه يعود ويؤكدَ أن عزوف المواطنين عن الشكوى سبب كاف لضبابية قضية السحرة والمشعوذين خصوصا أن القانون يحتاج لسبب قوي ليتطور ويتغير، وهذا غير موجود في غزة، "فالضحايا تفضل التنازل عن حقوقها مقابل الستر عليها"، وفق قوله.
مدير مكتب الهيئة المستقلة لحقوق المواطن في غزة وشمال القطاع المحامي صلاح عبد العاطي، اشتكى من غياب التوعية وإحجام الضحايا عن المطالبة بحقوقهم القانونية. حيث لم يصل مكتب عبد العاطي أي شكوى من هذا القبيل. "فغالبية الأمراض أو الأعراض التي تدفع المواطن في غزة للجوء الى المشعوذين تتعلق بقضايا حساسة. لذا فإن الضحية يقبل بالظلم ويمتنع عن الشكوى لأي من مراكز حقوق الإنسان أو الشرطة، خوفا من نظرة الناس"، حسب قول عبد العاطي.
"العين بالعين.."
يفضّل بعض المتضررين استرداد حقهم بالقوة دون أن يصل الأمر للقتل إلا فيما ندر، استنادا إلى رواية الشرطة الفلسطينية. ففي إحدى القضايا المُسجلة لدى الشرطة ومراكز حقوق الإنسان في غزة، وهي الأولى من نوعها، قُتلت الـ"مشعوذة" العجوز جبرية أبو قينص البالغة من العمر 62 عاما في سابع أيام شهر رمضان لعام 2010، بعدَ أن أطلق عليها مجهولون النار بينما كانت تجلس برفقة زوجها على باب منزلها في حي الشيخ رضوان وسط غزة. وقُيدت الحادثة ضد مجهول.
من خلالَ رصدنا لعدد من قصص ضحايا المشعوذين تبينَ أن ثقافة وأعمار من يلجأ إليهم متفاوتة. وذلك ما أثبته استطلاع الرأي الذي أجريناه إذ تأكدَ لنا أن 66 % منهم حاصلين على الشهادة الثانوية، في حين كان 30 % من حملة الشهادة الجامعية، و4 % فقط من الأميين.
ومن خلال الاستبيان تبيّنَ كذلك أن النساء هن أكثر زيارة للمشعوذين بنسبة 78 %، إلا أن الرجال (22 %) كانوا أعمقَ قناعة من النساء بجدوى زيارة المشعوذين، تبعا لنتائج الاستبيان.
واظهر الاسبيان بأن الفئات العمرية الأكثر زيارة لبيوت المشعوذين؛ تتراوح أعمارهم بينَ العشرين والثلاثين بنسبة 48 %، في حين سجلَ من هم فوقَ الأربعين 30% فقط من الزيارات، والباقون تراوحت أعمارهم بينَ الفئتين السابقتين.
النتائج السابقة جاءت للتتماهى مع رأي أستاذ الشريعة الإسلامية في الجامعة الإسلامية، وصاحب خطة القضاء على الشعوذة د. محمد أبو شعبان الذي أشار إلى أن ثقافة زائري المشعوذين متنوعة وغالبيتهم من النساء.
أعد أبو شعبان خطته إثرَ انتشار شائعات حول حرق "الجن" لمنزل في مدينة دير البلح في المحافظة الوسطى، وتزامنا مع الإعلان عن حملة شرطية لإلقاء القبض على المشعوذين في 12 كانون أول\ ديسمبر 2011.
و بحسب خطّة أبو شعبان التي توجهَ بها مباشرة إلى وزير الداخلية، يتوجب تشكيل لجنة عليا تراقب المشعوذين وتجمع عنهم البيانات الأمنية والأخلاقية، وترصد طرق معالجتهم لضحاياهم ثم يُطلب من الشرطة إلقاء القبض عليهم وتقديمهم إلى لجنة ثانية تُسمى الشرعية، مؤلفة من شخصيات دينية اعتبارية مُتنفذة في غزة، تحدّد ما إذا كان الشخص ساحرا مشعوذا أو نصابا وفقَ شروط على رأسها التعامل بالقرآن الكريم والحصول على الربح المادي، و تلزمه لإطلاق سراحه توقيع تعهد بالامتناع عن ممارسة السحر ثم تعود اللجنة الأولى إلى مراقبته وإن لم يتلزم بما تعهد به يُحاسب وفقَ ما هو معمول بهِ في محاكم غزة.
لم يتلقَ أبو شعبان أي رد من وزارة الداخلية حولَ خطته، إلا أنه يقول: أحد عناصر الوزارة طلبَ مني أسماء المشعوذين الذينَ تأكدتُ شخصيا من عملهم بالسحر والشعوذة للإلقاء القبض عليهم، فرفضت لأنني على يقين بأنهم سيقصرون في محاربة الظاهرة وسيستعملون العنف والضرب"، وذلكَ ما أنكره الناطق باسم الشرطة في غزّة أيمن البطنيجي.
خطة أبو شعبان عُلّقت قبلَ أن تطلق الشرطة الفلسطينية حملة للقبض على المشعوذين والتي حصلنا على تفاصيلها من المكتب الإعلامي للشرطة. من أبرزها رصد الانتماءات لممارسي الشعوذة السياسية، تقييمهم الأمني، الأخلاقي والحالة الاجتماعية. واعتمدت الحملة على إحصائية للمشعوذين والتعرف إلى و ضعهم الأخلاقي وطرق علاجهم.
"وفقا لدراسة اعدها استاذ الشريعة الاسلامية في الجامعة الاسلامية بغزة فان:
غالبية الضحايا من النساء اللواتي يعجز الطب عن خدمتهن في تحسن علاقتهن بأزواجهن، أو في الإنجاب، إضافة للمرضى النفسيين الذين يظنون أن جنيا تلبسهم أو أن أحدهم صنعَ لهم سحرا و يجدون من يؤمن بقناعتهم في عيادات الشعوذة".
المشعوذون عادة لا يتأنقون بمظاهرهم الخارجية، فيطلقون لحاهم ويلبسون عمة وجلابية قصيرة، يرتدون الذهب، ويدخنون.
عيادات المشعوذين تملؤها رائحة البخور ونباتات "الخبيزة و القريص و الرجلة" البعلية، يستخدمونها في اختراع و صفات علاجية غالبا ما تكون سائلة.
عادة ما يطلب المشعوذون من الضحايا التبخر ببعض النباتات التي تستخدم في الطب البديل مثل "نبات الحتليت، الشوحط و الحرمل" وهي تتوافر لدى العطارين أو في عيادات المشعوذين
أغلب المشعوذين، الذين يفضل العامة إطلاق لقب "شيخ" عليهم، يستخدمون الحروف المتقطعة في كتابة أوائل سور القرآن الكريم بطريقة عكسية، ويطلبون قرابين من أنواع معينة من الحيوانات والبهائم ذات الصفات المُعجزة لابتزاز الضحايا لدفع أموالا أكثر، ناهيكَ عن تلاوتهم لكثير من التراتيل والطلاسم غير المفهومة، والمُرفقة بآيات من القرآن الكريم.
ومن بعض طلبات المشعوذين، أن يحجزَ الشخص نفسه في غرفة مظلمة لأربعين يوما دون أن يستحم، أو أن يغتسل في البحر سبعَ مرات بعدَ غروب الشمس، ويستعين المشعوذ أثناء جلساته بأسماء غريبة، في حين يعتبر أن الضرب هو العلاج الأمثل لإخراج "الجن".
أن أكثر المشعوذين يتواجدون في المدن الكبيرة و الحدودية، وجميعهم يعملون بسرية تامة بعيدا عن أعين الشرطة، ولا تربط بينهم علاقات عمل أو معرفة، ويتحايلون على الناس بتلاوتهم للقرآن الكريم بعض المرات"
ثرواتهم مجهولة.. وعلاقاتهم مشبوهة
بعدَ تنفيذ الحملة التي لم يُعلن عن وقت انتهائها، اُستدعي 142 متهما بممارسة السحر من جميع المحافظات، ووقعوا تعهدات تلزمهم بعدم الرجوع لمهنتهم، مع الاستمرار بمراقبتهم، واتخذت بحق بعضهم إجراءات أمنية دونَ أن تُذكر طبيعة هذه الإجراءات، أو السبب وراء اتخاذها، وفقا لتقرير المكتب الإعلامي للشرطة. في حين أكدَ لنا مواطنون يقطنون بالقرب من مشعوذين قبض عليهم، أن الشرطة في غزة داهمَت أوكار المشعوذين وحرقَت الأوراق التي تستخدم في السحر والأعشاب كذلك وبعض الأغطية.
الا ان الناطق الإعلامي باسم الشرطة أيمن البطنيجي نفى حرق أيٍ من مقتنيات المشعوذين الذين ألقي القبض عليهم، مؤكدا أنها اكتفت فقط بتوقيعهم على تعهدات قاضية بعدم الرجوع إلى مزاولة السحر والشعوذة. التعهدات لم تحل دون عودة هؤلاء لمزاولة الشعوذة ما استدعى اعتقالهم مرة اخرى وفقَ البطنيجي.
خلال ورشة عمل نظمتها في يناير 2011 الإدارة العامة للوعظ والإرشاد في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بعنوان "معالجة ظاهرة السحر والشعوذة وأثرها على الفرد والمجتمع"، صرحَ نائب مدير المباحث العامة في جهاز الشرطة المقدم منصور حماد أن جهازه أوقف "150 ساحراَ ومشعوذاً ... في حين وصلت الشرطة ثلاثون شكوى فقط ضد مشعوذين".
أكد المقدم حمادَ أيضا أن "معظم السحرة والمشعوذين يمتهنون مهنا أخرى، إلا أن عملهم في الشعوذة يُدر عليهم آلاف الدولارات شهريا".
الشرطة الفلسطينية والمباحث العامة لم تحصِ بدقة ثروات المشعوذين، وفقَ ما أكده لنا مصدر موثوق في وزارة الداخلية.
في الأثناء يخيّم الأذى على حياة أو صحة طالبي العلاج بأي ثمن في غياب قانون وإجراءات رادعة لحماية الناس من الخداع والاستغلال.
تم اعداد هذا التحقيق بدعم من شبكة (أريج) إعلاميون من اجل صحافة استقصائية عربية www.arij.net وباشراف الزميل وليد بطراوي