ورقة التوت

ورقة التوت
الرابط المختصر

  يتحدث المشتغلون بالسياسة سواءً من محترفيها أومُحَرِّفيها عن مبدأ الفصل بين السلطات بوصفه من أهم أركان ترسيخ الحكم الديمقراطي وتعزيز مبادئ سيادة القانون واستقلال السلطات، في الوقت نفسه، يعمد، أو يتعمد، جانبٌ من هؤلاء إلى التعامل مع هذا الركن بمنطق عصا موسى التي متى شاء هَشَّ بها على غنمه ومتى شاء استخدمها تحقيقاً لمآرب أخرى.   المتأمل لأداء الحكومة خلال السنتين الماضيتين في ما يتعلق بعملية سن التشريعات وآلية عرضها والدفاع عنها أمام مجلس الأمة؛ يدرك أن ثمة افتئات ناعم متعمد تتم ممارسته على السلطة التشريعية لتحقيق غايات سياسية بأقل "الخسائر" على الحكومة وأفدحها على الجسم التشريعي بمجلسيه.   المتتبع لسياق إقرار أو رفض العديد من النصوص التشريعية ذات الطبيعة الجدلية، يلحَظ بوضوح استخدام الحكومة لتكتيك "ورقة التوت" التي تواري بها ما قد يراه عامة الناس على أنه "سوءة" دون التنازل عنه بل والدفع نحو تحقيقه بشتى السبل. جسّدت الإضافة ذات الطابع السياسي التي اقترحها النواب العام المنصرم على مُعَدَّلة قانون "منع الإرهاب" المتعلقة باستثناء الأفعال التي يتم ارتكابها ضد "الاحتلال الإسرائيلي" من الجرائم التي ينعقد فيها الاختصاص لمحكمة أمن الدولة؛ أبرز الأمثلة على "تكتيك" "ورقة التوت"، إذ لم تنبس الحكومة ببنت شفة للتعبير عمّا يحمله هذا المقترح –النبيل في غايته المُشكِل في تطبيقاته- من تبعات أمنية وقانونية وقضائية، آثرت الحكومة أن تلوذ بالصمت إزاءه كي لا تُتَهم بأنها تعارض وتُعَرقِل المساعي النضالية لنصرة القضية الفلسطينية، التزمت الحكومة الصمت لأنها تُدرِك أن ثمة من سيجادل في هذا المقترح ويُناقِش معقوليته وآثاره الحتمية على الصعيد الأمني والسياسي، وقد كان لها ذلك حينما عارض الأعيان المقترح –وكنت من بينهم- ليصر مجلس النواب بدوره على مقترحه لتنعقد على إثر ذلك جلسة مشتركة ساخنة انتهت برفض المقترح لتنام الحكومة قريرة العين ليُرمى ب"الانهزامية" كل عين. استمرأت الحكومة استخدام "ورقة التوت" فقامت ببث أجواء مرعبة تُنذِر من "عاقبة" التروي في دراسة ومناقشة قانون ضريبة الدخل وألقت بثقلها كله خلف الكواليس للإسراع في إقرار هذا القانون الإصلاحي المفصلي مع وعود بمراجعته وتعديله في أقرب وقت، وبعد أن كان لها ما تريد، أسقطت الحكومة بكل هدوء "ورقة التوت" معلنةً أن القانون ليس بحاجة إلى تعديل وإن كان هناك حاجة فعلى من يرى ذلك التقدم بمقترح تعديل متكامل ومقبول!   في الاتجاه نفسه، يبدو مفهوماً تقدّم الحكومة في هذه الآونة بمشروعات قوانين "إصلاحية" تحمل بين جنباتها أحكاماً تعزز من مشاركة المجتمع المدني والمرأة في الحياة السياسية ثم نرى هذه الأحكام تتلاشى أو تكاد؛ تحت قبّة البرلمان حيث تجلس الحكومة ب"وداعة" و"براءة" متناهيتين ولسان حالها يقول: "بيد عمرو لا بيدي".   لقد كشف التصريح الأخير لرئيس مجلس النواب –وهو شخصية نحترمها ونجلّها- حول عدم ضرورة المشاورات النيابية لتشكيل الحكومة القادمة؛ عن حالة مفاهيمية غريبة تسود الحلبة السياسية في الدولة، فالمبادرة التي اتخذها صاحب القرار لمصلحة مؤسسة البرلمان وتعزيز دورها في رسم خارطة الحياة السياسية والمسيرة الديمقراطية، تقابل بإعلان التنازل عنها "ثمناً" مقبول الدفع حال رحيل الحكومة! وكأن المشاورات النيابية مجرد "هديّة" خُصَّ بها هذا المجلس تحديداً وله بذلك حق التصرف بها والتنازل عنها دون معقّب عليه في ذلك! ثمة خلل واضح وهوة سحيقة على المستوى المفاهيمي الذي يحكم "مسيرة الإصلاح" بين مختلف أقطابها، فما يراه البعض على أنه حجر الأساس في بناء الديمقراطية والنظام البرلماني، لا يرى فيه البعض الآخر أكثر من أدوات "تكتيكية" مرحلية تخضع لقانون "الاستعمال والإهمال.   أياً ما كانت الحقيقة الكامنة وراء هذا التصريح، فإن النتيجة المؤكدة هي أن "ورقة التوت" حينما قرّرت لأول مرة أن تُسقِط نفسها وترفع الغطاء، أسقطت معها باكورة أنيابها لتذهب الآمال في برلمان بأسنان وأنياب قَبضَ الريح وتغدو الأحلام بولادة حكومة من رحمه حصاد الهشيم.