هل يصلح الفكر البطريركي في أردن القرن الـ 21؟

يناقش بعض الأردنيين في الآونة الأخيرة أموراً  كنا نعتقد أن البلد تجاوزها منذ زمن. فرغم الحداثة والحرية وتوفر العلم والمعلومة للجميع لايزال البعض يصر على تطبيق فكر النظام بطريركي والذي عفا عليه الزمن.

يفيد خبراء اللغة العربية أن النظام البطريركي يعتبر "نظام اجتماعي للرجال السلطة فيه على النساء." وتفيد مصادر لغوية أن مصطلح "البطريركية" يُشتقّ من الكلمة بالإنكليزية (patriarchy) ومن كلمة "patriarches" اليونانية التي تعني كبار السنّ من الذكور، ويُقصد بها الآباء زعماء العائلات والقبائل والكنائس."

طبعاً تغلبت المجتمعات الحالية على العديد من صفات النظام البطريركي. فأصبح للمرأة دور أكبر رغم أنه غير كاف، كما تراجع دور زعماء العائلات والقبائل. لكن يبدو أن النظام البطريركي الكنسي لا يزال مسيطراً في بعض الأوساط كما ويبدو أن البعض (وأشدد على كلمة البعض) في الدولة الأردنية لا يستطيع أن يخرج خارج عباءة هذا النظام حيث يعتبر نفسه وصياً على أبناء نفس البلد التابعين لنفس الديانة وهي المسيحية.

قد يقول البعض أن الأمر نفسه موجود في أنظمة دينية أخرى، ولكن التركيز هنا هو النظام البطريركي المسيحي وتأثيره على حياة الناس في بلد حضاري- بلد المؤسسات والقانون.

يطالب البعض أن تتبع كل الكنائس المسيحية النظام البطريركي متناسين الانشقاقات والإصلاح الكنسي في القرون الوسطى. ويتم تجاهل بل مهاجمة الأنظمة الكنسية الأخرى والتي تعتمد اللامركزية في إدارة شؤونها.  فقد جاء مؤخراً في مقال لشخصية مسيحية معروفة انتقاد لتلك الكنائس التي لا يوجد لديها نظام بطريركي هرمي ووصفها بأنها كنائس تدار "بدون مرجعية لاهوتية أو إدارية إنما بمجلس أو بعمدة". طبعا غياب النظام البطريركي في الإدارة لا يعني أنه نظام بدون مرجعية دينية أو إدارية.

المشكلة أن الأردن كباقي دول الشرق تشترط أن كل مواطن يجب أن يتبع طائفة دينية حسب الولادة وعلى المواطن المسيحي أن يقبل بمحاكم كنسية معينة حتى وإن لم يعد يتبع لتلك الكنائس.  ورغم التقدم العلمي والفكري والإصلاح السياسي وعودة الأردن للنظام الديمقراطي عام 1989 إلا أننا لا زلنا نرى أنظمة طائفية تفرض على الجميع الخضوع لها، ذلك في نفس الوقت الذي يطالب فيه الملك خلال ورقة النقاش السادسة العمل على نظام الدولة المدنية التي تسعى للتعامل مع جميع المواطنين بالتساوي من خلال قانون ونظام مدني ومحاكم مدنية. لكن ولغاية الوصول إلى هذا الهدف النبيل علينا عدم العودة إلى الوراء.

لقد تجنبت قيادات إحدى الطوائف المسيحية والتي تتبع اللاهوت الإنجيلي (الذي يتمسك بحرفية الإنجيل) الخوض في المسار القانوني لتشكيل محاكم كنسية وذلك منذ بداية القرن الماضي شعوراً منهم أنه من الأفضل ترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله كما جاء في الكتاب المقدس. ولأن الإنجيليون يرفضون الطلاق، اقتصر مطلبهم من الدولة الأردنية فيما يتعلق بأمور الأحوال الشخصية على الاعتراف بقانونية الزواج لأعضائها وهذا ما تم ويتم لغاية الآن حيث تقوم الدولة بتسجيل الزواج في دفاتر العائلة وكافة الوثائق الرسمية.

طبعا مبدأ رفض الطلاق لدى الإنجيليين له أسس لاهوتية، إلّا أن الأمر لا يخلو من حدوث حالات يصر فيها الزوجان، اللذان تزوجا رسمياً في كنائس إنجيلية، على الطلاق.  وبما أنه لا توجد محاكم كنسية إنجيلية، يتبع الزوجان ما جاء في قانون الطوائف وتتم أحياناً عملية الطلاق في المحاكم المدنية. هذا الأمر أزعج زعماء النظام البطريركي فخرجت جهات دينية ومدنية تطالب بصورة أو بأخرى فرض بقوة المحاكم النظام البطريركي لمعالجة قضايا الأحوال الشخصية لمواطنين مسيحيين ليسوا أعضاء في الكنائس التي تسير على نظامهم.

لقد قررت الحكومات الأردنية ولأسباب غير واضحة شمول بعض الكنائس ضمن ملحق الكنائس التابع لقانون الطوائف المسيحية رقم 28 لعام 2014 وتجاهل كنائس أخرى. فقد تم ضم كنائس لها عدد محدود نسبيا من الأتباع والسماح لهم بتشكيل محاكم كنسية في حين تم رفض نفس مطلب تشكيل محاكم كنسية لكنائس لها آلاف الأعضاء وتعمل منذ عقود بموافقة الدولة الأردنية.

 لقد تم مؤخراً، على سبيل المثال لا الحصر، ترخيص محكمة كنسية لطائفة السريان الأرثوذكس وذلك قبل عام ونيف. فقد نشرت وكالة بترا قبل إقرار صدور الإرادة الملكية بتشكيل محكمة كنسية للسريان الأرثوذكس في حين يستمر رفض طلب كنائس أخرى، مثل المجمع الإنجيلي الأردني وله آلاف الأعضاء وخدمات إنسانية واسعة منذ عقود، تشكيل محكمة كنسية تعالج أمور الأحوال الشخصية لأعضائها.

المعروف أن الكنائس الإنجيلية تعمل بشكل قانوني في الأردن وهناك لمثيلاتها محاكم كنسية في لبنان وسوريا ومصر كما وأصدر الرئيس محمود عباس قراراً رئاسيا في كانون أول 2018 معترفا بالكنائس الإنجيلية في فلسطين المحتلة.          

تعود نفس الشخصية الأرثوذكسية بتأكيد النظرة الأبوية البطريركية بالقول: "جميع هؤلاء الذين يدعون أنهم من الكنائس المتجددة والذين يطالبون قوق ليست من حقهم هم بالأصل مسيحيين من الطوائف المسجلة رسميا وإذا ما تابعت ولادتهم وزواجهم تجد أنها أجريت في كنائس معترف بها ومسجلة في الأردن ولكنهم يطالبون بالاعتراف بهم ككنيسة أو طائفة كمكسب شرعي." فما الخطأ في ذلك؟ هل يريد قادة كنائس تاريخية العودة إلى عصور الكنيسة الواحدة المسيطرة على أحوال كل الناس؟ من الأفضل بالطبع أن يلجأ جميع المواطنون إلى المحاكم المدنية في أمور الأحوال الشخصية، لكن إلى أن يحقق ذلك لا بد من توفير محاكم كنسية لجميع الطوائف.

أما التلويح بالأمور الوطنية من أجل رفض السماح لبعض الكنائس بتشكيل محاكم كنسية، فالمعروف أن المجمع الكنسي الإنجيلي الأردني الذي يضم خمس كنائس لها خدمات روحية وإنسانية له مواقف وطنية واضحة. فهذه الكنائس تعبر باستمرار  عن دعمها للرعاية الهاشمية للقدس ورفض الصهيونية المسيحية وقد شكل العديد من المنتمين للطائفة الإنجيلية مواقع عليا في الحكومة والجيش فكيف تقبل الدولة الأردنية أن يتهم منتسبون في الجيش العربي وأعضاء في البرلمان والحكومة بأنهم "عملاء لديهم أجندات خاصة لزعزعة الاستقرار والأمن المجتمعي."

إن الدستور الأردني كفل حق المواطنة بدون تمييز على أساس الدين والعقيدة ويجب على الحكومة  احترام ذلك لإنصاف آلاف المسيحيين الأردنيين المخلصين للعرش الهاشمي الذين وجدوا أنفسهم خارج أي مظلة لمعالجة أمورهم الشخصية المدنية وعدم الرضوخ لمن يصر على فرض العودة للنظام البطريركي في اردن القرن الواحد والعشرين.

 

أضف تعليقك