هل يدخل الفضاء الأردني مرحلة الصمت؟
إذ يقترب قانون الجرائم الإلكترونية المثير للجدل في الأردن من دخول حيز التنفيذ في 12 سبتمبر/أيلول الجاري، يسود قلق في الأجواء الصحفية والسياسية والحقوقية الأردنية من أن يعيد البلاد إلى أجواء الأحكام العرفية، بغطاء قانوني يفرض الصمت ويغلق مساحات التعبير في البلاد. وقد حذّر من القانون حقوقيون أردنيون ومنظمات حقوق الإنسان العالمية. وهو يفرض عقوبات مالية وأحكاما بالسجن على نقد المسؤولين والسياسات على مواقع التواصل الاجتماعي، بحسب تفسير القاضي مواد محددة في القانون، تفتقد إلى الوضوح، وتستعمل مصطلحات فضفاضة، مثل "اغتيال الشخصية" و"التشهير" و"بثّ الكراهية" بدون تعريف واضح يجعلها قابلة للتكييف، أي إسقاط المعاني التي يقرّرها المدعي العام والقضاء، والأهم الحكومة، للتضييق على الحياة السياسية وحق المواطن الأردني في التعبير.
صحيح أن من واجب الدولة حماية المجتمع من خطاب العنصرية والطائفية والتمييز، ولكن يجب أن تكون هناك تعريفات دقيقة لمصطلحاتٍ أصبحت أداة قمع وأحكاما وقراراتٍ تعسّفية، بل وسلاحا لتصفية حسابات سياسية ومجتمعية، وحتى شخصية، بما يحمله ذلك من تداعياتٍ على المجتمع، ويهزّ الشعور بالأمان، ويقوّض قوة القضاء بوصفه ضامنا للعدالة والحقوق.
ما يعمق القلق أن التعديلات الجديدة على قانون الجرائم الإلكترونية لم تكن بمعزل عن سياسات وإجراءات سبقته؛ من إنهاء نقابة المعلمين، واعتقالات حراكيين ومعارضين، وتهميش لدور النقابات المهنية، من خلال تدخّل رسمي لمنع فعاليات سياسية شعبية في مقرّها؛ مجمع النقابات المهنية، الذي لعب دورا أساسيا حتى في سنوات الأحكام العرفية في توفير مساحة للنشاط السياسي في الأردن. أي أننا نشهد إغلاق مساحات الاجتماعات "المغلقة" بعد إغلاق ساحات التجمّع (الفضاءات المفتوحة) ذات الرمزية السياسية والوطنية، مثل دوار جمال عبد الناصر، المشهور بدوار الداخلية (جبل الحسين) والدوار الرابع (جبل عمّان)، وقبلها حصر التظاهرات ضد سفارة الكيان الصهيوني (في ضاحية الرابية) بعيدا عن محيطها إلى محيط جامع الكالوتي، ولم يتبقّ إلا الفضاء الافتراضي للتعبير والتحرّك السياسي، وجاء القانون بصورته الجديدة لينقضّ عليه في حركة محيرة وغريبة.
يحقّ للناس أن تسأل عن أسباب التضييق على الحرّيات، فيما تتوسّع عمليات التطبيع الاقتصادي مع الأردن
إجراءات الدولة لخنق مساحات التعبير محيّرة وغريبة فعلا؛ فلا توجد هناك حركة واسعة ومنظمة ومناوئة للنظام تطالب بتغييره، بل على العكس؛ فالثورات المضادّة التي ذبحت الانتفاضات العربية، والتدخلات الأجنبية، عسكرية كانت أو سياسية أو اقتصادية، أضعفت إيمان الشعوب العربية بقدرتها على التعبير، فيما أصبح الاستقرار هدفا أساسيا، وحتى حلما، لكثيرين. وفي الأردن على وجه الخصوص، يدفع الخوف من فقدان الاستقرار ومواجهة مآلات مشابهة لما حدث في دول عربية مجاورة إلى الاعتكاف عن النشاط السياسي المعارض، خوفا من أي تقويضٍ للسلم الأهلي.
صحيحٌ أن أصواتا ظهرت في السنوات الأخيرة تتحدّى العائلة الملكية نفسها، ولكنها لم تترجَم إلى حشود جماهيرية تدعو إلى إسقاط النظام، ما يجعل المشهد وإصرار الدولة على كبح أي صوت ناقد، ولا نقول معارضا، مستغرَبا جدا، خصوصا وأن الدولة مصرة، فيما يبدو، على إظهار جدّية وصرامة في نيتها. وإلا، ما معنى أن يصدر حكم على الكاتب الساخر أحمد حسن الزعبي بالسجن عاما على خلفية تعليق على الإنترنت، ينتقد تصريحا مثيرا للجدل لوزير؟ المستغرب أيضا أن الدولة لم تر أي إشكالية في كلمات الوزير "الدم أرخص من البترول"، في أثناء إضراب سائقي الشاحنات العام الماضي، لكنها وجدت في لجوء الزعبي إلى التعبير الأدبي والرمزي الطابع في استنكار الظلم جريمة!
وما معنى توقيف الصحفي عبد المجيد المجالي لانتقاده محاضرا جامعيا لم يتعامل مع طالب بطريقة لائقة؟ السؤال الآخر: ما الحكمة من هذه الإجراءات، فالكتابة الناقدة الساخرة، كما يفترض، هي عمليا أيضا قناة عن الغضب الشعبي، فما الحكمة من قفل أمنية "التنفيس"؟ إذ تزيد هذه الخطوة من التأزيم المجتمعي والسياسي، فأين الحكماء من مسؤولي الدولة؟ بل وتزيد شكوك المواطن العادي في هدف الدولة السياسي في فرض مرحلةٍ من التعتيم. ومعلوم أنه في غياب معلومات كافية تنتشر الشائعات، حتى وإن لم يتم التعبير عن الشكوك تحت طائلة العقاب، لكن الشائعات والتكهنات تنتشر، فعهد الفضاء الإلكتروني جديد نسبيا، والناس لم تفقد القدرة على متابعة الأخبار ومحاولة استنباط مغزى ما يحدُث، أكانت استنتاجات صحيحة أم خاطئة، لكنها تزيد الشكوك ومن فقدان الثقة في الدولة ومؤسّساتها.
لم يتبقّ إلا الفضاء الافتراضي للتعبير والتحرّك السياسي، وجاء القانون بصورته الجديدة لينقضّ عليه في حركة محيرة وغريبة
تذهب الشكوك في الأردن دائما باتجاه تحضيرات لتسوية نهائية مع إسرائيل، لن تكون ضمن موازين القوى إلا تصفية للحقوق الفلسطينية على حساب فلسطين والأردن. لا نقول إن ذلك يحدُث. ولكن يحق للناس أن تسأل عن أسباب التضييق على الحريات، فيما تتوسّع عمليات التطبيع الاقتصادي مع الأردن، فكل هذه الاتفاقيات من استيراد الغاز (المسروق من الفلسطينيين) من إسرائيل، واتفاقية استيراد المياه المحلّاة من البحر الأبيض المتوسط مقابل الطاقة الشمسية من وادي عربة، إضافة إلى المشروع الجامع، مجمّع بوابة الأردن، الرابط بين كل مشاريع التطبيع الاقتصادي والطاقة بين تل أبيب والعالم العربي.
اللافت أن تشريع قانون الجرائم الإلكترونية تبعَه تمرير قانون الملكية العقارية المثير للجدل، خاصة بعد رفض مجلس النواب اقتراحا بالنصّ على منع بيع الأراضي والعقارات للإسرائيليين، فاستباحة أراضي الأردن وعقاراته أمام إسرائيل يُضعف موقف الأردن وسيادته في مواجهة حكومة إسرائيلية متطرّفة تريد إكمال المرحلة النهائية من بناء المشروع الصهيوني الاستيطاني في أسرع وقت، ولا تأبه بسيادة الأردن ولا مستقبله. فالعدو واضح، وأميركا تضغط على الأردن للدخول في الاتفاقيات الإبراهيمية التي تقبل ضمّ إسرائيل القدس، ولا تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية التاريخية المشروعة. لذا، وجب التساؤل: إذا لم يحتمِ الأردن بشعبه فمن يقف أمام الأطماع الإسرائيلية وخطرها على الأردن وشعبه وعلى النظام، فليس لإسرائيل صديق؟
وبدل أن تبدأ في الأردن مرحلة مكاشفة، نجد أن "مشروع التحديث" السياسي الذي يجري تطبيقه، والمفروض أن يوسّع المشاركة السياسية من خلال الأحزاب، يقزّم هذه الأحزاب، وحتى الموالية منها، ويلغي دور الصحافة ويُضعف الحياة السياسية، والمستفيد الوحيد هو إسرائيل لا غير.