بعد أن خرج علينا الوزير الإسرائيلي العنصري، إيتمار بن غفير، بتصريحاته المُتطرّفة عن حقّ اليهود في الصلاة في أرض الحرم القدسي (المسجد الأقصى) وضرورة بناء كنيس يهودي في ما سمّاه جبل الهيكل، خرج علينا مسؤولون إسرائيليون برفض ما جاء به المذكور. وتركّز ما قاله مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وما قاله وزير الدفاع الإسرائيلي، في أنّ تصريحات بن غفير مرفوضةٌ، وفي أنّ الستاتيكو (الوضع القائم) في المسجد الأقصى، أو ما سمّاه جبل الهيكل، لم يتغير.
واضح لأيّ مراقب للوضع في المسجد الأقصى أنّ الاتّفاق العثماني في القرن التاسع عشر الذي نظّم الأمور الخاصّة بالأماكن الدينية في القدس وبيت لحم قد تآكل بصورة كبيرة، ولم يبقَ أيُّ معنى لـ "ستاتيكو"، التي تعني إبقاء الأمور كما هي عبر القرون، فالتصرّف الإسرائيلي في الشهر الماضي (أغسطس/ آب) يختلف كلّياً عمّا كان عليه قبل انتفاضة الأقصى عام 2000، ويختلف كثيراً عمّا كان عليه عام 1878، عندما أصدر السلطان عثمان الثاني فرمانه بشأن كيفية التعامل مع الأماكن الدينية في القدس. تآكل هذا الاتّفاق يتطلّب الوعي والعمل الدؤوب لإعادة الأمور الى أصولها، ووقف نزف التغيير البطيء والخطير لوضع الأماكن المقدسة في فلسطين عموماً، وفي القدس بالتحديد.
عضو مجلس الأوقاف الإسلامية، والمدير التنفيذي للصندوق الهاشمي لإعمار الأقصى، وصفي كيلاني، صرّح للموقع المتخصّص بالقدس، والصادر باللغة الإنكليزية Jerusalem Story بأنّ من الواضح أنّ شرعية قدسية المسجد الأقصى/ الحرم الشريف للمسلمين فقط "مبنية على أدلة دينية وسياسية وقانونية متينة لا تقبل الجدل". ويقول المسؤول في الديوان الملكي الأردني، الذي قليلاً ما يتحدّث للإعلام، إنّ "المسجد الأقصى جزء من عقيدة المسلمين وقبلتهم الأولى... له مكانة في قلوب المسلمين تعادل مكانة الكعبة المشرّفة". وأفاد الكيلاني أيضاً، في مقابلة حصرية، الصحافي المقدسي خليل العسلي، بأنّ المسلمين "على يقين من أنّ من حقّهم الوصول إلى المسجد الأقصى والصلاة فيه. وأنّه قلب فلسطين النابض، ومركز قضيتها، والقضية التي استشهد من أجلها آلاف الصحابة وصحابة الصحابة، بالإضافة إلى من حاربوا إلى جانب صلاح الدين الأيوبي. ومن أجل تحرير المسجد الأقصى جرت معارك مؤتة واليرموك وأجنادين وحطّين وعين جالوت. بالإضافة إلى المعارك التي خاضها الفلسطينيون في العصر الحديث، بدءاً من الثورة العربية الكبرى عام 1916، وثورة 1936، ومعارك تحرير القدس وباب الواد، وسيواصل الفلسطينيون والمسلمون النضال دفاعاً عن المسجد الأقصى، حتّى يعود إليه الشرف والعزّة مرّة أخرى".
ويُؤكّد الكيلاني أنّ أيّ تغيير في المكانة التاريخية أو الشخصية أو الوظيفة للمسجد الأقصى سيُقابل برفض ومعارضة شعبية في مستوى العالم الإسلامي، الذي يبلغ تعداد سكانه 1.9 مليار نسمة، إذ "إنّ أيّ تغيير في طابع أو وظيفة المسجد الأقصى المبارك وفقاً لأهواء ورغبات المتطرفين اليهود سيؤدّي إلى حرب دينية بين المسلمين واليهود، التي من المُؤكّد أنّها ستمتدّ إلى ما وراء حدود فلسطين، وتهدّد السلام والأمن في العالم أجمع".
استقطب الموقع المتخصّص بشأن القدس أيضاً رئيس جمعية دراسات الشرق الأوسط والإسلام في إسرائيل (ميساي)، والمحاضر في كلّية القاسمي الإمارات وجامعة رايخمان بإسرائيل، البروفيسور إسحاق رايتر، الذي بيّن أنّ مصطلح الوضع الراهن في الأماكن المقدّسة صيغ في منتصف القرن التاسع عشر في محاولة لتحديد حقوق الطوائف الدينية المشتركة وتجميدها في الأماكن المقدسة. وفي يونيو/ حزيران 1967، قرّرت الحكومة الإسرائيلية أنّ إدارة جبل الهيكل/ الأقصى ستبقى في أيدي إدارة الأوقاف الأردنية، وسيُمنح غير المسلمين الحقّ في الزيارة للسائحين. وكان من المعتاد أن تُخطر الشرطة إدارة الأوقاف مسبقاً بزيارة هذه الجماعات، وعدم السماح لها بزيارة مجموعات أكبر من ثلاثة أشخاص في المرّة الواحدة، عندما يرافقهم ضابط شرطة وحارس الأوقاف، للتأكّد من عدم صلاتهم أو التسبّب في استفزازات. وبدءاً من عام 2017، بدأت الشرطة، بدعم غير رسمي من السياسيين الإسرائيليين، بإبعاد حرّاس الأوقاف عن مرافقة المجموعات اليهودية. وتغضّ الشرطة الإسرائيلية الطرف عن حقيقة أنّ اليهود يقيمون الصلاة الصامتة بصمت على طول الجدار الشرقي للحرم، وبالقرب من باب الرحمة، وفي الآونة الأخيرة، تُؤدَّى الصلاة بصوت عالٍ.
ويضيف أنّ الحكومة الإسرائيلية تزعم أنّها تحافظ على الوضع الراهن، كما التزمت به قبل أن يتوصّل وزير الخارجية الأميركي جون كيري في صيف عام 2014 إلى تفاهم بين الملك عبد الله الثاني ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، "الذي يهدف إلى التأكيد أنه لا ينبغي أن يكون هناك أي تغيير في الوضع الراهن". ولكن في الممارسة العملية، تُنفَّذ سياسة بن غفير في الأرض، بحسب رايتر، ويزعم المسلمون أنّ هذا دليل على أنّ إسرائيل تريد السيطرة على الحرم المقدّس، أو على الأقلّ، تقسيمه بين اليهود والمسلمين حسب الزمان والمكان.
ما يحدث في القدس، وبالذات ما يتعلّق بالمسجد الأقصى، خطير، وخطير جداً، وقد يُؤدّي إذا لم يُلجَم المتطرفون اليهود إلى حرب دينية لا يريدها أيُّ عاقل. إنّ المسؤولين المحلّيين والدوليين والمؤسّسات العالمية (منها مجلس الأمن ومنظّمة يونسكو) عليهم التحرّك بسرعة، وقبل فوات الأوان وانفجار الوضع الحسّاس في الأقصى مرّة أخرى