هذه المرة ليست مثل كل مرة

"ليس كل ما يعرف يقال ولكل مقام مقال، وهذه المرة ليست مثل كل مرة"، هذه العبارات التي تنتزع من سياقاتها تغدو الوسادة التي تنام عليها ضمائر النخبويين المفترض في بعض منهم التعقل والحكمة وتغليب صوت العقل في أوقات الأزمات الكبرى واجتياح المشاعر للمشهد برمته.
المزاد على هذه العبارات يُفتَح لتستعر المزايدات مع بداية المجازر التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة منذ عام 2008، حيث يصرخ بها كل من تحكمت به عواطفه جراء مناظر القتل والتدمير والتهجير التي تبثها شاشات التلفزة لضحايا القطاع، بحيث يصبح كل سؤال أو تساؤل عن مدى حكمة وحوكمة قرار شن هجوم من قبل حماس ضد إسرائيل الذي يمثل دائماً شرارة الحرب وحجتها للإسرائيليين؛ بمثابة "تشكيك بعدالة القضية وتبرير لما يقوم به جيش الاحتلال الإسرائيلي"، لتظهر متلازمة حماس والقضية الفلسطينية التي لا تعبر عن واقع ولا تعكس الاتجاهات الفعلية داخل فلسطين قبل خارجها.


للمرة السادسة وليست الأخيرة، انفراد حماس ببدء الحرب يعتبر ممارسةً استبدادية سلطوية وتجييراً لقطاع غزة ببشره وحجره لأجندتها التي –وهو ما لا تنكره الحركة نفسها ويؤكده الواقع- باتت أجندةً إقليميةً ترتبط بإيران وحزب الله، هذان الفريقان اللذان كان يلعنهما حتى يوم السادس من أكتوبر 2023 قبل بدء هجوم حماس غالبية من يؤيدونها اليوم ويجعلونها عنواناً للقضية الفلسطينية وعدالتها بتاريخها ومفاعيلها الممتدة لعقود من النزف والاستنزاف.

صرخ في وجهي أحد المعارضين لتيارات الإسلام السياسي بعد أن نشرت مقالةً عن الحرب الراهنة في غزة معاتباً بل لائماً مصرّحاً عمّا بات يوحد النخبويين والشعبويين والتنويريين والظلاميين في هذه الظروف، حيث قال بملء فيه: "حماس مقاومة وليس لها علاقة بالإرهاب ومن قتلتهم يستحقون القتل ولا يمكن اعتبارهم مدنيين"، فلمّا ذكّرته بتاريخ حماس وممارساتها خلال فترات الهدنة والهدوء داخل القطاع استدرك وقال: "نعم، لكن لكل مقام مقال"، وحينما سألته عمّا "إذا كان هدف حماس من هجومها كما تقول هو الأسرى والمسرى، فهل حققت أو ستحقق أياً منهما؟ هل توقفت الاعتداءات على الأقصى؟ هل تحرر أسير واحد أم زاد عددهم 750 خلال فترة العدوان الأخير على غزة؟"، فكان جوابه جواب المراهن على ما يقوله "خبراء ومحللو المناسبات على الفضائيات": "هذه المرة غير كل مرة"، ولم أعاود سؤال هذا الأخ بعد أن بات هؤلاء "الخبراء والمحللون"  أنفسهم يتبنون روايةً أخرى حينما أدركوا أن إسرائيل لم ولن تكترث للرهائن المدنيين ولا حتى العسكريين الذين أخذتهم حماس التي يبدو أنها ظنّت بمشورة أو بقراءة خاطئة من تجربة حزب الله أن ورقة الرهائن سوف تكون بمثابة مكابح تجمح وحشية إسرائيل وتحقق لها بعض المكاسب التفاوضية.


المقاومة ليست مباراة مصارعة أو ملاكمة يهلل الجمهور فيها لضربة قوية وتألم الخصم للحظات في إحدى الجولات، وإنما المقاومة استراتيجية وبرنامج وخطوات محسوبة وخيارات متنوعة ما بين الدبلوماسية والعمل السلمي والعمل المسلح ولكل سياقهواعتبارات تفعيله، وهنا أقول للأخوة الغاضبين الساخطين علي أنه فعلاً  "لكل مقام مقال". لو كان لدى حماس خبرة أو حتى مجرد بعد نظر، لوضعت الاحتمالات كافة على الطاولة قبل خوض هذه العملية وتحمل نتائجها، ولما رددت داخلياً ما قاله حسن نصر الله بعد حرب 2006 "لو كنا نعلم أن ردة الفعل ستكون بهذا الشكل لما قمنا بما قمنا به"، فكان الأولى بصالح العرعور نائب رئيس المكتب السياسي للحركة بدلاً من أن يخرج على قناة الجزيرة محملاً مسؤولية قتل عدد من الأطفال والنساء واختطاف مدنيين من الجانب الإسرائيلي ل"مجموعات مسلحة من قطاع غزة اندفعت بعشوائية من الثغرات التي أحدثتها عناصر حماس التي كان غرضها مهاجمة فرقة غزة الإسرائيلية"؛ أن يقول أخطأنا في تقدير الأمور وردات الفعل، فمن يدرس تاريخ المحرقة وسياقها وما يمثله أثرها من قيم لدى الدول الغربية وكيف استثمرها وما يزال ساسة إسرائيل، لعلم فعلاً أن "هذه المرة ليست مثل كل مرة"، فبدلاً من تعاطف العالم مع غزة المحاصرة التفت دول العالم  واصطفت حول وخلف إسرائيل في دعم ما كان لها أن تحصده بحكومتها اليمينية المتطرفة، وبايدن الذي كان يرفض حتى يوم السادس من أكتوبر لقاء نتنياهو زاره وعانقه ويتحدث إليه يومياً عبر الهاتف وكأنهما خطيبان في الأسبوع الأول من خطبتهما، أما الرهائن، فضربت عنهم إسرائيل صفحاً بل أعطتهم حماس هدية في أيام العدوان الأولى في لحظة صدق مع النفس وغلبة الطبع على التطبع حينما أعلن ناطقها الرسمي بلهجة داعشية صرفة أنهم "سوف يبدؤون بقتل رهينة من المدنيين ويوثقون ذلك بالصوت والصورة إن لم تتوقف إسرائيل عن قصف المنازل"، ليتأكد المؤكد من وجهة نظر إسرائيل وجوقتها بأنهم يتعاملون مع عدو أصولي متطرف ذي نزعة استئصالية إرهابية.


خسرت إسرائيل حتى اليوم من هذه الحرب ثقة جمهورها بحكومتها وضربة مؤلمة لكرامة جيشها و 1400 قتيل وحوالي 5000 جريح و 210 رهينة، لكنها ربحت: تأييداً إنسانياً ومادياً وسياسياً غير مسبوق من دول العالم قاطبةً باستثناء الدول الإسلامية والعربية التي ليس لمواقفها تأثير على الخارطة العالمية، وكسبت مصالحة مع الإدارة الأمريكية ودعم عاجل بمليارات الدولارات ومبرر لم يكن لها الحصول عليه لدكّ قطاع غزة وارتكاب ما تشاء فيه من جرائم حرب وتغيير ملامحه وواقعه السياسي والجغرافي والديمغرافي، لذلك، فعلاً "هذه المرة غير كل مرة".
 أما حماس، فقد ربحت استعراضاً نرجسياً لقوتها وإمكانياتها الاستخباراتية لمدة 24 ساعة واحتجزت 210 رهينة باتت تفرج عن بعضها مقابل دخول المساعدات وليس مقابل الأسرى في سجون الاحتلال. أما قطاع غزة، فخسر وما يزال آلاف المنازل والمرافق التي سوّيت بالأرض و 4500 ضحية قضت بخلاف 1000 يقدّر أنها تحت الأنقاض و 12000 جريح سيقضي عدد منهم لخطورة إصاباتهم وسيصبح عدد آخر منهم من  ذوي الإعاقة دون خدمات، هذا فضلاً عن نزوح لثلاثة أرباع مليون إنسان من شمال القطاع إلى جنوبه ومسح كامل لأحياء في غزة وآثار اجتماعية ونفسية لن يزول أثرها حتى سنوات قادمة.


حزب الله في جنوب لبنان كما يقول اللبنانيون أنفسهم ومعظم الشعوب العربية التي انقلبت على الحزب بعد دعمه للطوائف الشيعية في العراق في الصراع الأهلي الدائر هناك منذ عقدين من الزمن ودعم النظام في سوريا والحوثيون في اليمن هو شوكة في خاصرة الدول العربية وبصفة خاصة لبنان وعقبة في طريق تخلصه من أعبائه السياسية، وحماس بدورها شوكة في خاصرة أهل قطاع غزة والقضية الفلسطينية التي للأسف بات يختزل كثيرون ومن بينهم مدّعو الثقافة والتنوير والسلام القضية الفلسطينية بماضيها وحاضرها ومستقبلها بهذه الحركة التي -مثل أخواتها من حركات الإسلام السياسي- سبق وأن رفعت السلاح في وجه أبناء جلدتها لمجرد أنهم ينتمون لفصائل فلسطينية أخرى وسوف تكون من أوائل المتحالفين مع أعدائها في حال الوصول لتسويات سياسية دائمة، تماماً كما فعل أسلافها من الأخوان المسلمين في مصر وغيرها حينما عانقوا أعداء الأمس بل وفتحوا قنوات حوار مع أمريكا في غمرة الأزمات السياسية والإنسانية ضد شعوب الننطقة، وكان آخر هؤلاء وليس أخيرهم الرئيس الراحل محمد مرسي ومرشد الأخوان محمد بديع عام 2012، فهذه الحركات  تتغذى على نتائج الأزمات والكوارث والويلات، هذا كله إن بقيت حماس كما هي، لأنه فعلاً كما قال الأخ الغاضب وغيره من الحمساويين بالعدوى لا بالانتماء وتردد معهم إسرائيل نفسها: "هذه المرة ليست مثل كل مرة".

أضف تعليقك