نفس عميق للتغيير
لعل غياب القيادة هو أبرز المآخذ على ما عرف اصطلاحاً بـ"الربيع العربي"، سواء في ثوراته التي رأى البعض أنها حققت أهدافها وغيّرت أنظمة بالفعل، أو التي حاولت على الأقل، في حين رأى البعض الآخر أنها نقمة على بلدانهم، وساهمت بتردي الظروف بشكل أسوأ مما كانت عليه قبل انتشار شعار "الشعب يريد تغيير النظام" كالنار في الهشيم، حتى أصبح عنواناً للمرحلة، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
وبغض النظر عمّن يوافق على تلك الثورات أو يعارضها، إلا أن الجميع يتفق أنها عبّرت عن شعوب غير منظمة حزبياً ولا سياسياً ولا نقابياً. طيف شعبي واسع كان يعرف بجمهور "الكنبة" لا يتعاطى السياسة وغير مهتم بها، راضٍ على مضض بممارسات قمعية وإقصائية من حكومات وأنظمة غير منتخبة أو منتخبة صورياً، ساهمت بتفشّي الفساد في مختلف جوانب الحياة، إما بغيابها عن واقع شعوبها أو بسكوتها عن رموزه وأقطابه بسبب مصلحة أو شراكة أو تبادل منفعة.
لكن الأغلبية الصامتة نطقت أخيراً وكانت الشرارة؛ تعمّق الظلم الذي شعر به المواطن العربي نتيجة فقدانه لأبسط حقوقه الآدمية، واختلال معايير الحياة الكريمة نتيجة للفقر والبطالة والظروف الاقتصادية الضاغطة، وغياب العدالة الاجتماعية والمساواة بين جميع أفراد المجتمع.
بعد أن كان الدم يغلي وسال الكثير منه في شوارع عواصم عربية عديدة، وبعضها ما زال يسيل حتى اللحظة، جوبهت كل المطالبات الشعبية بكل الوسائل الممكنة لإسكات صوت الناس، وتحوّل خوف السلطة من قوة الناس إلى قمع مضاعف وتراجع حريات غير مسبوق، وتعمّقت الفجوة وفقدت الثقة بعد تراجعها، وزاد الفقر والبطالة واختفت حقوق كانت أصلاً مكتسبة، وعاد الناس اليوم لمساحة أضيق من المربع الأول.
لعل غياب القيادة هو أبرز المآخذ على ما عرف اصطلاحاً بـ"الربيع العربي"، وبغض النظر عمّن يوافق على تلك الثورات أو يعارضها، إلا أن الجميع يتفق أنها عبّرت عن شعوب غير منظمة حزبياً ولا سياسياً ولا نقابياً
ويعود السؤال مكرّراً: لماذا فشلت كل التحركات الشعبية الثائرة على الظلم والمطالبة بحقوقها؟
صحيح أن هناك ظروفاً إقليمية ودولية مؤثرة، وجيوشاً وحكومات يميل لصالحها ميزان القوّة مقابل شباب ثائر ومواطنين مطالبين بالتغيير، لكن لماذا لم يستطع الناس تشكيل قوة ضاغطة مؤثرة مثلاً في العديد من الحالات، لماذا لم يستمر تأثير تلك التحركات في الدول التي تم فيها تغيير الأنظمة مثلاً، لماذا لم يحدث التغيير مثلاً في الدول التي كانت تتأهب وتتخوف من قوة تلك الثورات أن تمتد إليها، وتجاوزتها دون أن تختفي أسباب الرفض والمطالبة بالتغيير؟!
قد يقول قائل إن هناك نقابات وبرلمانات وانتخابات تفرز ممثلين للمواطنين، ومؤخراً التشجيع على الانضمام إلى الأحزاب، كما يحدث حالياً في الأردن، وهي قنوات دستورية تحقق مطالب وحقوق المواطنين، وتضمن التشريعات فيها معايير العدالة والمساواة، ولكن واقع الحال لا يرقى لنصوص القوانين والدستور، ولا مخرجات اللجان الملكية أو الحكومية أو غيرها، إذ إن الثقة بالعموم في أسوأ حالاتها، ويجد المواطنون صعوبة بضمان أمانة بائع في متجر صغير في حي ما، ولك مطلق الحرية بأن تتخيل سقف انعدام الثقة في هذه الأوقات.
يميل رأي يمثل فئة لا بأس بها إلى أن غياب التنظيم المجتمعي الحقيقي هو سبب ضعف تأثير المطالبات، سواء التي تمّت عبر اعتصامات أو مظاهرات أو حتى بيانات واحتجاجات مختلفة، وذلك لأنها قد تحدث كهبّة أو ردة فعل، ولذلك تضعف في وجه التيار المعاكس أو عندما يصبح السياق فاتراً. أما في حال وجود تنظيم مجتمعي وعمل تشاركي مبني على قيم واستراتيجية مشتركة، تضمن استمرارية العمل، والأهم استمرارية تطويره لمواجهة التحديات مهما كانت مستحيلة والسياق مهما كان قاسياً، فهناك مطالبات لقضايا وحقوق يمكن تحقيق التغيير فيها فعلاً.
وذلك بقدرة "أهل القضية" الناس الأكثر تأثراً بالقضية التي تخصّ فئة محدّدة في منطقة محددة ضمن ظروف محددة، على تنظيم أنفسهم ومواردهم ليتم تحقيق التغيير وتحصيل الحق. في تلك الحالة، يجتمع المتأثرون في تلك القضية، كعدم المساواة بين الأجور في القطاع الصحي في الأردن على سبيل المثال، ويقررون تنظيم أنفسهم بحراك شعبي يخاطب أصحاب السلطة (وزارة الصحة) لتحقيق مطالبهم، عبر تكتيكات مستمرة ومدروسة تضمن الاستمرارية والالتزام بالمطالب.
يميل رأي يمثل فئة لا بأس بها إلى أن غياب التنظيم المجتمعي الحقيقي هو سبب ضعف تأثير المطالبات، سواء التي تمّت عبر اعتصامات أو مظاهرات أو حتى بيانات واحتجاجات مختلفة، وذلك لأنها قد تحدث كهبّة أو ردة فعل
يصلح هذا الأسلوب لحملات عدالة اجتماعية، ولحملات حقوق سياسية، علماً بأن التمييز بين التغيير السياسي والتغيير الاجتماعي قد يكون واهياً، لأنه في حال بنت الحملات الاجتماعية قوة وقيادة مجتمعية، هي في الحقيقة تغير كذلك معايير القوة السياسية في المحصلة.
ويشترط التنظيم المجتمعي (هو نهج متطور تعمل على أساسه الحملات التغييرية في مناطق مختلفة في العالم، وتتبناه مؤسسات لدعم ناسها، ويدرّب عليه خبراء مختصون مؤمنون بقوة الناس وقدراتهم، مثل مؤسسة "أهل" التي تأسست عام 2011 في الأردن) أن يتحدّث الناس عن أنفسهم ويسردوا قصصهم بتفاصيلها، دون الالتفات إلى الرواية العكسية والمحبطات المجتمعية التي تكسّر مجاديف المطالبين بالتغيير وتحقيق النتيجة، وتدرّب تلك التحرّكات المدنية الناس "أهل القضية" على معايير القيادة المجتمعية، بحيث نضمن أن تكون هناك قيادات وقيادات بديلة في حال شعر البعض بالملل والإحباط وعدم الجدوى، إذ إن الاستمرارية بالمطالبة بالحق هي ليست فقط أساس، بل من مواطن القوة للتنظيم المجتمعي، بالإضافة إلى امتداد قيادات وفرق عمل للقضية ونشرها في مناطق جغرافية متعدّدة.
رصيف22