"نحن أفضل من غيرنا"

"نحن أفضل من غيرنا"
الرابط المختصر

  في الوقت الذي تعد فيه منهجية المقارنة من أكثر المنهجيات أثراً وثراءً في إحراز تقدم وتطور في الميادين العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في الدول التي تؤمن بالبحث والتخطيط إيمان عمل لا قول فقط، كرّس الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي عندنا  نموذجاً "خاصاً" من أسلوب “المقارنات الانهزامية” التي تجعل معيار تقييم الحال مبني على سوء المآل من خلال النظر إلى الخلف أو الأسفل حيث دول ومجتمعات مجاورة وغير مجاورة ألمّ بها من المصاب ما لا تتمناه دولة ولا مجتمع لنفسه، وذلك عوضاً عن النظر إلى الأعلى وإلى الأمام عملاً بمقولة "الّي بشوف مصيبة غيره بتهون عليه مصيبته!   تكمن خطورة "المقارنة الانهزامية" في أنها تصرف النظر عن معالجة المشكلة الحقيقية إلى تبسيطها والتكيّف معها لتغدو واقعاً مقبولاً ومعقولاً إذا ما قورن بغيره، فما تراه اليوم نقمةً سرعان ما يصبح "نعمةً" تحمد الله ومن سخرهم لتسيّر شؤونك عليها، وما كنت تظنّه أكبر المصائب ينقلب ب"قدرة قادر" وحنكة شاطر" لميزة ومنجز عليك ليس فقط الرضا به بل المحافظة عليه والابتهال لكل من يُبتَهل له من أجل بقائه واستمراره، وهذا ليس بسحر ولا تسويف –لا سمح الله- بل هو أسلوب "المقارنة الانهزامية" الذي جذّرته في ضمائرنا عوامل تراثية وإرثية وربما وراثية؛ يضيق المقام عن سردها وتحليلها.   إذا كان مفهوماً أن لجوء عامة الناس إلى أسلوب "المقارنة الانهزامية" مرجعه "قلّة الحيلة" وخلو الوفاض، بحيث يآنس الفقير فقره بضنك غيره ويواسي العاطل عن العمل يأسه بانحراف أو انتحار أحد نظرائه ويخفف المريض الذي لا يملك ثمن دوائه عن نفسه بكونه حيّاً (يُرزق أو لا يُرزق)، فإن المحزن استساغة انتقال عدوى داء "المقارنة الانهزامية" إلى الحكومات التي كعادتها تستثمر فيه أيما استثمار نظراً لما فيه من بساطة في التسويق وأثر في ستر السوءات والأخطاء المصيرية.   تستمرئ الحكومات منذ زمن ليس بقريب التدليل على "إنجازاتها" بمقارنة نسب العجز والتضخم الراهنة بما كانت عليه في فترات ماضية، بحيث يغدو عدم تزايد هذه النسب بشكل كبير "إنجازاً" يستحق الثقة والإعجاب! فالمشكلة باتت مجرد إبطاء العجز والتخفيف من سرعة تزايده بدلاً من معالجته جذرياً ووقفه لحساب زيادة النمو الاقتصادي.   وفي مجال مكافحة الفساد، تتراقص الحكومات طرباً على وقع أرقام الملفات التي تم فتحها والتحقيق فيها دون معقب عليها في ما لم يتم فتحه بل وما آلت إليه تلكم التحقيقات في هذه الملفات. أما في مجال حرية الرأي والتعبير، فتناقص عدد الصحف والمواقع الألكترونية التي يتم حجبها خلال سنة معينة مع ما سبق من السنوات وكذلك عدد موقوفي ومحكومي الرأي والتعبير، غدت جميعها من المآثر التي تذكرها الدولة في تقاريرها الرقابية على أوضاع حقوق الإنسان!.   مسيرة الإصلاح السياسي بدورها تعد إحدى أبرز ضحايا "المقارنة الانهزامية"، فعلى كل من يشكو من بطء هذه المسيرة أو كونها تسير على جهاز "تريدميل" أن يقارنها بمسيرات إصلاح أخرى بلا حركة ولا حراك؛ كي يقتنع بأن ما لدينا أفضل مما لدى الآخر و"الصبر مفتاح الفرج، وعلينا بطبيعة الحال أن نميّز بين "السرعة" و "التسرع" وبين "التغيير" و "الفوضى" وإن لم نستطع لذلك سبيلاً –ولن نستطع- فعلينا ترك هذه المهمة لمن هم أدرى بشؤوننا وأمورنا ليقرروا ويُنَظِّروا ويَنْظروا.   تجاوزت الحكومات حاجز الإبداع وتفوقت على نفسها بخلق فضاء جديد أكثر رجعيةً من فضاء "المقارنة الانهزامية" التقليدية القائمة على فلسفة النظر إلى الآخر والرثاء لحاله ومن ثم خلق حالة من الفرح بحالنا وحالتنا،  فقد اعتمدت أسلوب "المقارنة الانهزامية الذاتية" بحيث نستغني عن غيرنا ونحقق "اكتفاءً ذاتياً" بمقارنة أنفسنا بأنفسنا و"الله يغنينا عن الغريب". لولا الحياء لكانت بيانات الحكومة لنيل الثقة لا تعدو أن تكون بضعة جمل تقول: "ستسعى حكومتنا للمحافظة على ما تحقق من نسب عجز ومعدلات فقر وبطالة وآفاق ضيّقة للحريات دون زيادة أو نقصان، مع سؤالكم الدعاء أن لا تزيد".   لا يدرك –أو ربما يدرك- قادة التيارات المحافظة بشاعة وخطورة الاحتجاج بمقتضيات "الخصوصية" و "السياق" و "طبيعة وتركيبة الدولة والمجتمع..." لوقف مسيرة الإصلاح والتغيير، حيث أنهم بذلك يقرّون ويؤكدون على تغليب الجمود على النهوض والتقوقع والتموضع على الانفتاح والارتقاء إلى آفاق سبقتنا إليها دول كان لديها ذات السياق والمساق.   أنّى لسجناء ركب الماضي أن يكون ركبهم ماضي؟ وكيف لأسرى القِدَم هجر أطلاله والمضي قُدُما؟. إذا كان العليل في عرف أصحاب "المقارنة الانهزامية" دواؤه في استذكار من كان مرضهم أشد عضالاً من مرضه، فإن سلوى "الميؤوس" من شفائه بتحديقه في قبور من ماتوا، والعاقبة عندكم بالمسرّات و "نحن أفضل من غيرنا".