نبوءة إشعياء…حرب نتنياهو "المقدسة" ونهاية الزمن
طالعتنا محطات التلفزة المختلفة يوم 26 أكتوبر الماضي على كلمة ألقاها بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الدولة العبرية في خطاب موجه للرأي العام اليهودي حصراً حول الحرب التي أعلنتها "إسرائيل" على غزة.
لم تكن الكلمة معتادة من سياسي "إسرائيلي" يصنف علمانياً بأن يستند على نصوصٍ دينية توراتية ولكنها جاءت في جملة تصريحاته الشاعرية عن أبناء النور والظلام والنصر والعماليق والحرب المقدسة، اللافت في كلمته كان إعلانه بأنه ومنظومته "سوف يحققون نبوءة إشعياء" وهي نبوءة توراتية تتحدث عن مجيء المسيح أو المسيا المخلص و الذي سيجمع شتات اليهود في العالم ويبني دولتهم وهيكلهم ليسودوا على أمم العالم.
خلاف جوهري
يؤمن أغلب اليهود بهذه العقيدة بتفاوت بسيط مع وجود خلاف جوهري عند التيارات المناهضة للصهيونية في تفسير هذه العقيدة، فطائفة الأرثذوكس المحافظين يقولون أن المسيا سوف يجمع اليهود من الشتات في العالم وأنه لا يجوز إقامة "مملكة " أو كيان يهودي قبل قدومه في الأرض المقدسة ، على عكس أطروحات الحركة الصهيونية التي ترى أنه يجب على اليهود التجمع في أرض الميعاد والعمل على" إستقدام " هذا المسيا ؛ هذا الخلاف يتجلى في صراع بين تيارات دينية أبرزها حركة ناتوري كارتا المعروفة و بعض المجاميع اليهودية المختلفة؛ ما يهمنا هنا في هذا الموضوع ليس نوعية كلمة نتنياهو أو خطابه الذي يبدو للوهلة الأولى كأنه خطاب حماسي ديني ليلهب عواطف الشعب اليهودي، أو كجزء من الدعاية الرسمية "الإسرائيلية" التي أوجدت شعاراً مركزياً لهذه المرحلة السياسية وهو "بوحدتنا ننتصر" تدعو من خلاله للتوحد على صعيد الجبهة الداخلية، في إشارة واضحة للسعي لتجاوز الانقسام السياسي الحاد الذي تطور لأن يكون "شرخًا" في البنية التركيبية للمجتمع "الاسرائيلي" غير المتجانس وشبه المتناحر منذ تشكيله قبل أكثر من 75 عاماً؛ كما لا يمكننا اعتبار هذا الخطاب جزءاً من الدعاية الصهيونية التقليدية التي عملت عليه الوكالة اليهودية طوال تاريخها من أجل عودة اليهود إلى فلسطين وإقامة الدولة القومية، إن هذا التصريح يظهر عقيدة وفكر ونهج ورؤى الطبقة السياسية الحالية في الكيان العبري، هذه العقيدة التي تجاوزت حدوده الجغرافية و اكتسبت شعبية في أعالي البحار وخصوصاً بين قوى ومنظمات ولوبيات اليمين الأمريكي الذي أصبح يعرف باسم "المسيحية المتصهينة" لتعصبها الأعمى والمحموم للمشروع الصهيوني الديني فسخرت كل طاقاتها وإمكانياتها السياسية والمادية لدعمه بدون قيد أو شرط.
لفهم أصل ومصادر هذه الرؤى السياسية الحالية وكيف وصلت لخطاب رئيس حزب ليبرالي -وإن كان يمينياً -علينا أن نرجع إلى منتصف و نهاية ثمانينات القرن المنصرم، حيث انطلاق مسيرة بينيامين نتنياهو السياسية خلال عمله ونشاطه كمتحدث للإعلام الأمريكي عن "إسرائيل"، وعمله كممثل دائم "لإسرائيل" في الأمم المتحدة وعضوية الكنيست لاحقاً.
خلال تواجد نتنياهو في الولايات المتحدة الأمريكية بناء على مهماته الرسمية كان حريصاً أن يقابل الحاخام الحاسيدي مناحيم مندل شنيرسون زعيم أكبر المنظمات الدينية اليهودية الدولية"حاباد" التي تضم أكثر من 5000 مؤسسة في مختلف دول العالم، بل أنه كان يسافر خصيصًا لملاقاته كما أشيع في ذلك الوقت وبالأخص عند فوزه بعضوية الكنيست فقد توجه مباشرة للقاء شنيرسون لأخذ ما نستطيع أن نسميه "البركة" من هذا الحاخام الذي كان يعتبر من أكبر رجال الدين اليهود في العالم لدرجة أن الكثير اعتقدوا انه المسيا شخصياً، كان نتنياهو يطلب منه البركة من أجل حياته بشقيها الشخصي والسياسي، وكان شنيرسون يحرص خلال هذه اللقاءات على تشجيع نتنياهو ومباركته ثم يسأله سؤالاً مباشراً عم سبب تأخر المسيا ويقول له "لماذا لم يأتي المسيا بعد؟ عليكم أن تفعلوا شيئاً من أجل دفعه للمجيء" وكان نتنياهو يجيبه "سوف نفعل ، نحن نفعل" الأمر الذي أظهرته كاميرات التسجيل التي وثقت هذا اللقاء واللقاءات الأخرى بينهما .
بالرغم أن نتنياهو ينتمي لعائلة علمانية لكنه أظهر ميولاً دينية محافظة في شبابه سرعان ما اختفت عن الرأي العام بسبب تقلباته التي اتسمت بالانتهازية والبراغماتية، فسياساته وتصريحاته تتنوع أشكالها بحسب الظرف القائم و بناء على أيدلوجية التيار الذي يسعى للتحالف معهم لتحقيق مكاسب سياسية، فيظهر مؤيداً للحركات الاجتماعية الليبرالية كالمثليين والمتحولين جنسياً، وفي وقت لاحق يظهر علمانياً ولكنه يهودي تقي و متدين ملتزم في ذات الوقت.
بالرجوع إلى وقتنا الحالي شهدت الساحة السياسة "الإسرائيلية" الكثير من التجاذبات وعدم استقرار سياسي خلال السنوات الأخيرة داخل المنظومة البرلمانية "الاسرائيلية"، كما شهدت هذه الساحة المتقلبة دائماً انحسارًا للتيارات السياسية الليبرالية، التي لم تستطع أن تمثل الكتلة العلمانية في المجتمع أو حتى تقوم بتوحيد صفوفها على الأقل.
خلال هذه الفوضى الحزبية وجد نتنياهو الفرصة سانحة للقيام بعمله السياسي و تحقيق واجب والتزام الديني كصهيوني متدين، فجعل حزب الليكود يتجه أكثر نحو الخطاب الشعبوي السائد في الكيان العبري وهي الشعبوية اليمينية والتطرف العقائدي، فأصبح الليكود حزباً أكثر تطرفاً من أيدلوجيات تاريخية منافسة مثل "الصهيونية التصحيحية" التي أعادت تشكيل نفسها في تيارات سياسية بشكل جزئي، هذه السياسة الشعبوية وإعلان مشروع يهودية الدولة مكنته من قيادة جماهير الحزب اليمينية المتطرفة واستقطاب المزيد من الكتل الاجتماعية المتعصبة ليشكل تحالفاً يساعده على الهيمنة المطلقة على السلطة.
تكون تحالف نتياهو السياسي من مجموعتين رئيسيتين من عتاة اليمين الصهيوني المتطرف، المجموعة الأولى تتكون من بقايا أحزاب قديمة ضعفت فأفرزت تكتلات سياسية صغيرة وأحزاب يمينية بدون تأثير قوي، ومن أبرز هذه الكتل حزب البيت اليهودي الذي يرجع في أصوله التكوينية إلى حزب المفدال "الحزب القومي الديني" المصنف كحزب من أحزاب "الصهيونية الدينية" .
أما المجموعة الثانية فهي ضمت تحالف من خلايا ومجاميع و أحزاب انبثقت أو تطورت عن منظمات صنفت إرهابية في الكيان العبري نفسه، مثل حركة كاخ التي أسسها الصهيوني المتطرف مئير كاهانا ثم حركة كاهنا حي التي أسسها ابنه بنيامين زئيف كاهانا والحركة السرية اليهودية وغيرها من التيارات الإجرامية، بعد اضمحلال هذه العصابات أصبحت عبارة عن مجاميع متشرذمة تنظيمياً ولكنها متحدة فكرياً، وقد ظهر منها يغال عامير قاتل رئيس الوزراء "الاسرائيلي" السابق اسحق رابين، وبعد جهود سياسية تجمعت هذه القوى في حزب القوة اليهودية المتطرف .
تتفق هذه المجموعات التي تنتمي لتيارات "الصهيونية الدينية الكلاسيكية " والصهيونية الكهانية الفاشية" وتدعوا علناً للتطهير العرقي وطرد العرب من فلسطين التاريخية وجعل دولة "اسرائيل" دولة يهودية خالصة تمهيداً لبناء "اسرائيل الكبرى" من النيل إلى الفرات الدولة التي نقشوا خارطتها على العملة المعدنية "الاسرائيلية" من فئة العشرة أغورات "عُشر الشيكل".
في العام الماضي قامت الولايات المتحدة بإزالة اسم منظمة كاهانا حي من قائمة التنظيمات الإرهابية، فمنحت نوعاً من الشرعية السياسية لأعضاء سابقين في هذه المنظمات من أجل الانخراط في المشروع السياسي الصهيوني الحالي مع زملائهم بدون الخوف من عقوبات أمريكية.
تشكلت تكتلات سياسية جديدة نجحت بتجميع شراذم التيارات الصهيونية المتطرفة، التي وجدت ضالتها وفرصتها في الكتلة الليكودية المتطرفة التي يقودها نتنياهو بمزيج من أفكار رحبعام زئيفي أحد زعماء التيار المتطرف في الحركة الصهيونية صاحب نظرية الترانسفير التي تعتبر أن فلسطين التاريخية هي دولة يهودية ويجب ترحيل العرب الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن و من قطاع غزة إلى مصر؛ المشروع الذي تراجع بعد ما قدم تيار "الصهيونية العمالية" و الكتل اليسارية بقيادة رابين طرحاً آخر تمثل في اتفاقية أوسلو التي تهدف للوصول إلى حل الدولتين والتعايش المشترك.
تراجعت أفكار التهجير والتطهير العرقي التي طرحها زئيفي و التي تمثل شريحة واسعة من القوى اليمنية بعد توقيع اتفاقية أوسلو، أثر ذلك ظهر الغضب والسخط اليميني والشعور بالخيانة والغدر من قبل حزب العمل وحلفائه، فقام رحبعام زئيفي خلال المداولات البرلمانية حول اتفاقية أوسلو و استغل وقته المخصص للمداخلة البرلمانية بقراءة أسماء الجنود الذين قتلوا في حرب 67 من أجل "تحرير يهوذا والسامرة" الاسم الصهيوني للضفة الغربية.
وجد نتنياهو نفسه يعود لهذا الطرح الايدلوجي المتوافق مع رؤيته الليكودية الجديدة بعد انحسار التيار الليبرالي الصهيوني، فأعلن في مناسبات عديدة وبشكل دعائي سياسي مجموعة خطط وأطروحات تدور حول هذه الفكرة مثل نيته ضم غور الأردن للدولة العبرية ودمج القرى العربية الأكثر سكانا داخل الخط الأخضر للضفة الغربية ليتخلص من أصواتهم في الكنيست وقوتهم التصويتية مستقبلاً، ثم صرح في مناسبة أخرى أن الأردن قد "احتلت الضفة الغربية" و سلبتها من الدولة اليهودية التي كان يجب أن تأخذ شرق الأردن أصلاً .
هذا الخطاب القديم المتجدد كجزء من أيدلوجيات مثل "الصهيونية التصحيحية" التي أوجدها الأوكراني الصهيوني المتطرف زئيف جابوتنسكي، وطرح رحبعام زئيفي و إجماع القوى "الصهيونية الدينية" شكل قوة سياسية من حلفاء أقوياء على المستوى الشعبوي لديهم قوى اجتماعية يسهل التحكم بها عن طريق حاخامتهم الذي يحركون السياسيين قبل الجماهير ، فقام تكتل يميني يتفق مع التيار الليكودي ووضع البرامج السياسية والاقتصادية والعسكرية لتهجير الفلسطينيين إلى الأردن ومصر والقضاء على فكرة وجود دولة فلسطينية أو حتى وجود عربي في فلسطين التاريخية.
اللافت في الأمر الليكوديين المتطرفين بزعامة نتنياهو يتشاركون الرؤى والخطط المرتكزة على الفكر الديني والنبؤات الدينية المسيانية "نسبة للمسيا"؛ فهذا بتسلئيل سموطريتش من حزب البيت اليهودي وزير مالية نتنياهو صاحب دعوة إبادة بلدة حوارة الفلسطينية، يصرح علناً أن مشروعاً لضم الضفة الغربية للدولة العبرية قد تم الاتفاق عليه وأن أمام الفلسطينيين خيارات ثلاث إما البقاء بدون أي حقوق مدنية كمجرد سكان، أو الهجرة إلى دولة ثالثة "الأردن " كخيار يتفق مع مشروع الترانسفير أو الخيار الثالث وهو الإبادة.
و سموطريتش هذا إرهابي متطرف تم اعتقاله بتهم التخطيط لتنفيذ هجوم ارهابي عقب الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005 حيث القي القبض عليه و بحوزته 700 لتر من البنزين، للاشتباه في مشاركته في عملية إرهابية وهي محاولة تفجير طريق رئيسي في "إسرائيل" وتم توقيفه في السجن لمدة ثلاثة أسابيع، لكن لم توجه إليه اتهامات بعد امتناعه عن التكلم في التحقيقات التي أدراها قادة جهاز الشاباك.
من أبرز حلفاء نتنياهو أيضاً والذي يشارك سموطريتش أفكاره المتطرفة شخص مدان بالقانون المحلي "الاسرائيلي" بتهمة انتسابه لمنظمة ارهابية، وهو وزير الأمن القومي سيء السمعة ايتمار بن جفير من حزب " القوة اليهودية" الامتداد الحالي لفكر مائير كاهانا الفاشي، بعد توليه منصب وزير الأمن القومي قام بالعديد من البرامج العنصرية ضد العرب الفلسطينيين في كل مكان، ولكن أبرز أعماله هي قيامه بخلق مليشيات صهيونية متطرفة لمساندة الأجهزة الأمنية "الاسرائيلية"، وقام بتوزيع الألاف من قطع السلاح الآلي بشكل رسمي على المستوطنين الموالين للتحالف اليميني الحاكم، ومن ناحية أخرى يقوم سموطريتسش بضخ الأموال و تخصيص الميزانيات لهم من أجل تشييد أكبر عدد من البؤر الاستيطانية لإغراق الضفة الغربية بمستوطنات تحميها القوات النظامية والمليشيات المسلحة، هذه العصابات قامت بتنفيذ العديد من الهجمات ضد المزارعين الفلسطينيين فقتلت العديد منهم وقامت بسرقة محاصيل الزيتون منهم بعد قطافه، ومازالوا يقومون بهجمات إرهابية متزامنة مع هجمات القوة العسكرية على قطاع غزة.
برغم الاختلاف التنظيمي والتباين الأيدلوجي بين حزبي سموطريتش وبن جفير إلا أنهما يتبعان تعاليم حاخام متطرف يدعى دوف ليئور وهو صاحب دعاوي لإبادة العرب الفلسطينيين بالكامل من أجل سلامة "اسرائيل"، و صاحب "الفتوى " الدينية التي تجيز قتل المدنيين والأبرياء والقضاء عليهم خصوصاً في غزة، الأمر الذي يبدو انه انعكس في قرارات الكابينيت الحكومي الأمني الذي يقوده نتنياهو وحلفائه وتم تنفيذه على الأرض خلال القصف العنيف وحملة الإبادة التي يقوم بها الجيش "الاسرائيلي" في غزة خلال الاسابيع الماضية.
بالعودة لنتنياهو و مع وجود اختلاف في التصنيف الديني بين الحاخام شنيرسون والحاخام دوف ليئور إلا أنهما يشتركان في الفكرة الصهيونية الدينية الداعية للحث على استقدام المسيا؛ ليئور هو حاخام "الحركة السرية اليهودية" وهي منظمة إجرامية نفذت عمليات ارهابية متعددة خلال ثمانينات القرن المنصرم، كانت تخطط لتفجير قبة الصخرة والمسجد الأقصى من أجل التعجيل بالحرب الكبرى وتنفيذ النبؤات التوراتية التي يعتبرها قادة التحالف اليميني المتطرف مرشدهم العام في عملهم السياسي والديني على السواء ،كما أشار سموطريتش في مقال له بعنوان " خطة اسرائيل الحاسمة" في نشرة إعلامية صهيونية اسمها "شيلوَخ" عام 2017 حيث أعلن صراحة عن برنامجه السياسي القائم على طرد الفلسطينيين وإقامة الدولة اليهودية الصافية بناء على فكره المتطرف فكتب سموطريتش: "أعتقد أن دولة "إسرائيل" هي بداية خلاصنا، وتحقيق نبوءات التوراة ورؤى الأنبياء." الفكر الذي يتقاطع مع طرح "يهودية الدولة " الذي أعلنه بنيامين نتنياهو لاحقاً.
بعد وصول هذه التيارات المنتمية للفاشية الصهيونية إلى السلطة نفذوا الكثير من وعودهم السياسية لناخبيهم ولكنهم أيضاً عملوا على تنفيذ تعهدات دينية لحاخامتهم بالتحالف مع زملائهم من منظمات ارهابية أخرى كأمناء جبل الهيكل ومجاميع استيطانية ذات جذور مشتركة يجمعها الهوس المحموم بإبادة العرب الفلسطينيين أو طردهم وهدم المسجد الأقصى.
من جملة هذه التعهدات "إجبار" المسيا على القدوم بحيث يخططون لقيام حرب كبرى من حروب نهاية الزمن تهدف لجهل الرب يسمع لهم ويرسل المسيا المخلص لبناء الهيكل وهيمنة اليهود على شعوب الأرض الذين خلقوا لخدمتهم، و قد بدأوا بالفعل بالتجهيز لهذا القدوم بل وصل بهم الأمر إلى جلب أبقار أو عجول حمراء اللون من أجل القيام بطقوس التطهير التي تعقب هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل الثالث وقاموا بعدة محاولات لتقديم قرابين في المسجد الأقصى والصلاة فيه بالإضافة إلى الاقتحامات المتعددة التي كانت برعاية ايتمار بن جفير التي تظهر العمل الدؤوب لفرض سيطرتهم على "جبل الهيكل" كما يسمونه.
إن هذه النبؤات وغيرها وردت في كثير من النصوص الدينية التي يدرسها هؤلاء المتطرفون من حاخامات وسياسيين وجماهير ومن أبرزها كتاب "نهاية الأزمنة والفداء القادم " الذي جمع نبؤات متعددة من حاخامات يهود من القرن العاشر والسادس عشر الميلادي، مثل شمعون بار يوشاي وحاييم بن يوسف فيتال، نبؤات تم تفسيرها بناء على الطرح الصهيوني الديني، حيث تتحدث هذه النبؤات عن حرب كبرى تقوم بين "إبنة يعقوب " و"أبناء إسماعيل" تأخذ شكل التهديد الوجودي للكيان العبري، وبالتالي يجب على القائمين على قيادة الشعب العمل على تأجيجها، لأنه و في خضم هذه المعارك سوف يأتي المسيا وعند قدومه سوف يتجمع أبناء إسماعيل "العرب والمسلمين" على شعب الله المختار، ولكن الرب سوف ينفذ كلام حيث سيأتي "الرب" ويقوم بتخليص شعبه ومسيحه، وهذا يؤكد أن بنيامين نتنياهو -الذي قطع وعداً للحاخام شنيرسون بأن يعمل لإظهار المسيا- يقود نظاماً يستند في سياساته على فلسفة دينية بالتحالف مع رجال دين متطرفين يشرعنون الحركة الصهيونية ويجعلون لهذه الأيدلوجية "علمانية الأصل" صفة القداسة، وتمنح قادتها الحاليين حصانة شبه إلهية مسيانية.
بناء على هذه العقلية فإنه ليس مستغربًا أن يكون دافع الدولة العبرية في دعم بناء سد النهضة الأثيوبي وحمايته أكثر من محاولة لضرب الأمن القومي المصري وإضعاف مصر بشكل خاص و الأمن القومي العربي بشكل عام، بل من الوارد أن يكون هدفه تنفيذ جزء من نبؤة إشعياء التي تحمل في طياتها وعيد الخراب لمصر وتجفيف النيل كجزء من الحرب الكبرى، حرب نهايات الزمن بحسب هذه المنظمات المتطرفة والفاقدة لكل درجات الأهلية السياسية و العقلية أحياناً.
بناء على هذه المعطيات أعتقد بإن الحديث عن أي نوع من التسوية السلمية القائم على حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران مع القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية مع هذا النظام المتطرف هو ضرب من الخيال والوهم والمستحيل سياسيًا ومنطقياً، هذه المجموعة السياسية التي وصلت إلى الحكم في تل أبيب لا تفهم سوى تراكيب ايدلوجيتها الفاشية، وفي نفس الوقت لا تعتمد حصانة دبلوماسية وسياسية تستند على شرعية الانتخابات فقط ، ولا على التعديلات التي قاموا لها لتمنحهم نوعاً من السيطرة على المحكمة الدستورية العليا، لكنهم فوق كل ذلك قاموا بتأسيس قوة اجتماعية مسلحة يستطيعون التحكم بها في أي وقت يشعرون بخطر على مشروعهم الديني السياسي أو بوجود عائق يمنعهم من تنفيذ مهمتم المقدسة.
بالرغم من الأحداث المتسارعة والتي تنذر بوقوع أزمة تتجاوز الحرب الأقليمية وقد تتطور لحرب أوسع يتمسك قادة تل أبيب بالخيار الذي يمثل التيارات الصهيونية اليمينية المتحالفة، وفي خضم التأزيمات والمآزق الكارثية التي أججت العالم بأكمله ومن ضمنهم مئات الألاف من اليهود الرافضين لهذه السياسة، يخرج بنيامين نتنياهو ويؤكد تمسكه بالبرنامج الإلغائي ومخططات التهجير التي فرضت الأزمة الحالية على حكومته إظهارها علناً وكشفت الدعم الأمريكي الأوروبي لها، بل ويقول أنه هنا ينفذ نبؤات التوراة ويستنهض العصبية الصهيونية غير آبه بالسخط الشعبي، متمسكًا بالحل المسياني النبؤي ،لكن ومن وجهة نظري الشخصية أعتقد أنه إذا استمر نظام تل أبيب في تنفيذ رؤيته هذه فإنه سيجد أمامه خيارات صعبة جداً أهونها إنهيار الكتلة الداخلية وتفكك المجتمع والدولة، وأصعبها أن يحقق نتنياهو مراثي إرميا بدلاً من نبؤة أشعياء.