من يمسح دموع صاحبة الجلالة
كانت قصة «دموع صاحبة الجلالة» للكاتب والصحفي الراحل موسى صبري التي تجرعت جمل حوارها وأحداثها بمتعة المكره بحلاوة العمل الإبداعي عام 1990 من خلال مسلسل إذاعي رمضاني حمل عنوان القصة التي أدّى المبدع الراحل أحمد زكي شخصيتها المحورية «محفوظ عجب» ببراعة الفنان الموهوب وعفوية المبدع المسكون بفنه،
وذلك قبل أن تتحول إلى مسلسل تلفزيوني وفيلم سنامائي، كانت هذه القصة درساً في الحياة علمني ضرورة البحث دائماً عن الخيط الرفيع -الذي كثيراً ما يختفي عندي- بين العمل الإبداعي والمبدع والصنعة والصانع،فلم يدر في خلدي يوماً أن يكون هناك أي شيء منطقي يجعلني أقرأ أو أكمل قراءة شيء لموسى صبري رحمه الله إذا بدأته خطأً أو أن أعجب به إذا طاقت نفسي الانحباس بين جلدتيه والتعثر في صفحاته حتى نهايته، وذلك مرجعه رأيي فيه المتعلق بهوسه بالاقتراب من السلطة والأُنس بقربها وتقديم القرابين لها والتقلّب والانقلاب في المواقف في سبيل التشبث بأهداب عبائتها على أساس أن «من جاور التعيس يشقى ويتعس، ومن جاور السلطة يَسعَد ولا يُحبَس».
«محفوظ عجب» في قصة «دموع صاحبة الجلالة» يجسد شخصية الصحفي المتسلق الانتهازي الذي لم يدخر ذلاً ولا تذللاً ولا خيانةً لأقرب المقربين له بمن فيهم زوجته التي أرشد عنها وعن رفاقها السياسيين؛ ليثبت ولاءه الممجوج لأصحاب القرار والسلطة وليصعد إلى حيث لا يستحق في سلّم المناصب والمواقع الصحفية والمؤسسية.
لم يكن سهلاً استساغة إعجابي الكبير المرير بقصة «دموع صاحبة الجلالة» والحرص على متابعة حلقاتها بينما أتخيل أن صبري هو نفسه محفوظ عجب وشريط حياته المهنية –الذي ربما أكون مخطئ في قراءته- يمر أمامي وهو يتحدث لغة الناصريين في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ليكون –بالحد الأدنى- من غير المغضوب عليهم على كثرتهم في حينها،بالرغم من جملته الشهيرة «وما خفي كان أعظم» التي اختتم بها إحدى مقالاته حول محاكمة المشير عبد الحكيم عامر وعباس رضوان عقب «الوكسة والنكسة »، إذ أغضبت هذه العبارة الرئيس جمال عبد الناصر فنقل صبري من الأخبار إلى صحيفة الجمهورية ثم سرعان ما أعاده بشفاعة من الرئيس السادات الذي قرّب صبري وقبل قرابينه حال توليه رئاسة الجمهورية سنة 1971 حتى أصبح صبري «بقدرة قادر ولزاجة شاطر وفهلوة ساحر» رئيس لمجلس إدارة أخبار اليوم سنة 1975، ثم «دنى صبري وتدلى متجاوزاً القوسين بالغاً سدرة المنتهى» حين كتب للسادات خطابه الذي ألقاه في زيارته الشهيرة والمريرة –في حينها- للقدس وحين باع في مزاد علني «برقع الحياء» بتأييده وتمجيده لقرار السادات فرض الإقامة الجبرية على البابا شنودة الثالث في أيلول/سبتمر 1981، مما جعل الأخير لا يشارك في جنازة صبري ولا يصلي عليه حينما وافته المنية عام 1992، على الرغم من أن البابا قال حين سئل عن ذلك: “هو أنا صليت على مين غيره عشان أصلي عليه”، لكن غضب الكنيسة على «الابن العاق» الذي خذلها حين ضيّق عليها السادات لم يكن خافياً على أحد.
«محفوظ عجب» لا يموت لأن «اللي خلف ما مات» وذرية محفوظ «اليأجوجية المأجوجية باقية وتتمدد»، وهي اليوم أكثر حظاً وحظوةً من جدها الأعلى، فهي اليوم تنعم بوسائل اتصال وتواصل تتيح لها إسماع قرعها وقرع طبلتها المشدودة وصاجاتها المفرودة لأصحاب القرار والنهي والأمر دون أن تتكبد –كما كان الجد المسكين- عناء الانتظار بالساعات أمام المكاتب والسيارات، ليحظى ولو بدقيقة من وقت أصحاب الياقات والقامات ليتلو عليهم أنشودة «أنتا اللي فيهم وبس»، لذلك، فقد ساهم هذا التطورفي انتشار وازدهار الطريقة «العجبية»، فتجد اليوم تحت كل نعل وخلف كل شاشة كمبيوتر وهاتف «محفوظ عجب»، مع ملاحظة أن «فن وإتيكيت تقبيل الأيادي» بدوره طرأ عليه تغيير واكب هذا التطور، فأصبحت المحلسة ومسح الجوخ وبوس الأيادي «ديجيتال ناعم وانسيابي دون تمجيق لا يليق ودون طرقعة تحدث فرقعة»، لكن دون أي تأثير طبعاً على الفاعلية والجودة.
ربما تكون أدوات أحفاد «محفوظ عجب» في التملق والتسلق قد اختلفت وواكبت التطور، بحيث أصبحوا يتشعلقون على أسطر صفحات الجرائد والمواقع الألكترونية ويؤدون صلواتهم وابتهالاتهم لأهل الحل والعقد على شاشات التلفزيون أو من خلال منصات التواصل الاجتماعي، لكنهملم يدخلوا تغييراً على الدور الذي يؤدونه، فهم إما مدافعون أو مطبّلون أو صامتون إلى حين.. وكله حسب الزفّة ومزاج العريس، فالسياقات والأدوات تختلف لكن العنوان واحد:كيل المديح حتى لو كان «اللي عليه العين غبي وظالم في قراراته»، ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي إذ قال في مثل هؤلاء في قصيدته التي أثنى فيها على الربّاع المصري سيد نصير الذي كان أول من حصل على مدالية ذهبية في ألومبيات أمستردام عام 1928: “قُل لي نُصَيرُ وَأَنتَ بَرٌّ صادِقٌ * أَحَمَلتَ إِنساناً عَلَيكَ ثَقيلا. أَحَمَلتَ دَيناً في حَياتِكَ مَرَّةً * أَحَمَلتَ يَوماً في الضُلوعِ غَليلا...”، إلى أن يقول: “أَحَمَلتَ في النادي الغَبِيِّ إِذا اِلتَقى * مِن سامِعيهِ الحَمدَ وَالتَبجيلا. تِلكَ الحَياةُ وَهَذِهِ أَثقالُها * وُزِنَ الحَديدُ بِها فَعادَ ضَئيلا”.
يجيد «المحفوظون العجبيون» العزف على أوتار النفس النرجسية والمهزوزة خصوصاً «وتر القرار ذي الثقل والوقار، ووتر الجواب الذي قلما يَصْدُق وغالباً ما يكون كذّاب»، فيستثيرون شهوة الأنا المتهيجة أصلاً عند زبائنهم فينتشون.. ولو تعلم، فإن نشوة الذين يطربون للإطراء وتبلغ به أعناقهم عنان السماء هي ثمالة شرسة تطيح بالرفيع وترفع الوضيع، وهي لعنة على المجتهد الصادق مع نفسه، وهي من بعد «الأورغازم» الذي ينتظره شبقوا الارتقاء بلا استحقاق ولا عناء.
أحفاد «محفوظ عجب» تفوقوا على جدهم بأن نمّوا مهاراتهم الأكروباتية فخرقوا قوانين الفيزياء حتى تقلّب آينشتاين ونيوتن في قبريهما، فقد باتوا قادرين على التواجد في أكثر من سرك في وقت واحد، فضحك لهم الحظّ ضحكةً رقيعةً خليعةً وناولهم ما تيسر من حقائب وشوالات شبابية على ثقافية على تعليمية على سياحية على بيئية على إعلامية على خارجية على «ولا مآخذة.. داخلية»، وإذا خانهم الزهر وتبدلت الأحوال على رأي «حكيم الأمة أحمد شيبة»، فالبركة بالسلك الدبلوماسي يتشعلقوا فيه ويتعربشوا عليه، والله يكثّر السفارات والقنصليات والملحقيات لدول «مطرح ما ترسي دقّلها».
إذا سألت عن «كفاءة.. وجدارة.. وأهلية..» بنات المرحوم الحج استحقاق؛ فللأسف كفاءة هاجرت وجدارة ماتت بالجدري وأهلية هائمة على وجهها حزناً عليهما، والدوام لله والفاتحة لمحفوظ عجب والبركة في ذريته ولا عزاء «لصاحبة الجلالة»، ويكفيها من المولد منديل لتكفكف به دموعها.