من يرثي مريد اليوم؟

"أتلمَّس أحوالي منذ وُلدتُ إلى اليوم، وفي يأسي أتذكر، أن هناك حياة بعد الموت، هناك حياة بعد الموت، ولا مشكلة لدي" بهذا النص أعلن مريد البرغوثي مواجهته للموت، منذ زمن بعيد، ولكن اليوم غيّبه الموت فعلا. 

 

ولد الشاعر والأديب الفلسطيني مريد البرغوثي في قرية دير غسانة قرب رام الله في الضفة الغربية، عام 1944م، وبعد استكمال تعليمه الثانوي في رام الله، انتقل إلى مصر ليكمل دراسته الجامعية بتخصص الأدب الإنجليزي وأنهى مرحلته الجامعية عام 1967م، إلا أن لعنة احتلال الضفة الغربية حالت دون عودته إلى فلسطين، فقد منع الاحتلال الفلسطينيين الذين تزامن وجودهم خارج البلاد من العودة إليها، فكتب وجعه في فرحة تخرجه بقوله " نجحت في الحصول على شهادة تخرّجي وفشلتُ في العثور على حائط أعلِّق عليه شهادتي" . وكان يعرف حينها "رضوى" التي أوقفها شعره عن استمرارها بكتابة الشعر، بعد أن تسلّلت أبياته الشعرية إلى قلبها ومسمعها على أحد أدراج جامعة القاهرة، فقالت عن ذلك :" كان أول لقاء لنا على سلم جامعة القاهرة، حيث كان يلقى على أصدقائه إحدى قصائده، فانتبهت له وشعرت بكلماته تخترنى، وكنت أكتب الشعر أيامها، ولكن بعد أن سمعت قصائد مريد، تركت الشعر لأن الشعر أحق بأهله وذويه". وتزوجا في عام 1970م، بعدما رفض والدها، إلا أن قصتهما أبت إلا أن تكون، بمشيئة الله. 

 

مريد في الغربة 

لم يستطع مريد البرغوثي من العودة إلى فلسطين إلا بعد ثلاثين عاما، تنقل خلالها بين عدد من البلدان العربية والغربية، منها ما كان مجبرا منفيا عليها، حيث بعد منعه من العودة إلى فلسطين، تم ترحيله من مصر بقرار من الرئيس المصري أنور السادات ومعه عدد من الطلاب الفلسطينيين عام 1977م، وفي هذا اعام أنجب ابنه الوحيد "تميم"، قبل أن يتم ترحيله ومنعه أيضا من الإقامة في مصر لمدة 17عاما، بسبب بيان نُسب إلى الطلبة الفلسطينيين آنذاك، عارض البيان زيارة السادات للاحتلال، وقال مريد في هذه الحادثة :" اقتادوني إلى دائرة الجوازات في مجمع التحرير، ثم أعادوني في المساء إلى البيت لإحضار حقيبة سفر وثمن تذكرة الطائرة، في الطريق إلى سجن ترحيلات الخليفة، كنت أنظر إلى شوارع القاهرة نظرة أخيرة، ماذا تحمل الأيام لهذا الطفل ذي الشهور الخامسة، ولرضوى ولي ولنا؟ لم أقم بأي فعل لمعارضة الرئيس السادات لإسرائيل، كان ترحيلًا وقائيًا، ونتيجة وشاية، كما تبين بعد سنوات عديدة، لفقها زميل في اتحاد الكتاب الفلسطينيين ! الحياة صعبة على التبسيط كما ترون". بعدها بقي لقاء مريد بزوجته وابنه في أماكن الشتات ضمن زيارات قصيرة في الإجازات الصيفية.

وفي 1993، اجتمع شمل العائلة حيث تم السماح لمريد بالعودة إلى مصر.

 

مرثيات مريد 

أتركوا الأبواب مفتوحة، ليخرج الحزن. ولتدخل السيدة. وقع خطاها خفيف، وأكيد على هذا الدرج. إننى أسمعه يقترب. رضوى عاشور جزء ممّا سيصنعه هذا الجيل فى أيامه الآتية، وهو جزء مما صنعته في أيامه الماضية".رضوى عاشور، تركتنا بعدها لا لنبكي". كانت هذه السطور من أبلغ ما قيل في رثاء الحبيبات، فكيف لا، ومُطلقها شاعر فذ، مزّقه المنفى والشتات وجمعه حب "رضوى" "وفلسطين".

 

ورثى مريد العديد من أيقونات الأدب والتحرر العربي، الفلسطيني تحديدا، الذين جمعته معه علاقة حميمة، ففي أواخر الستينات تعرّف مريد على الرسام الفلسطيني الراحل ناجي العلي، إلا أن صديقه العلي سبقه للموت اغتيالا في لندن عام 1987، وذكره مريد في كتابه "رأيت رام الله"، بجملة من النصوص النثرية التي تصف شجاعة ناجي، ورثاه شعراً بعد زيارة قبره قرب لندن بقصيدة أخذ عنوانها من إحدى رسومات ناجي "أكله الذئب". فيقول مريد رحمه الله:" وقفنا على قبره خاشعين وما زال ينزف حزناً علينا، وينزف حزناً على شكل أيامنا القادماتِ، ويرمي على قاتليهِ التهكم والذعرَ حياً وميتاً، ويحبسهم في براويزه الهازئات، يمضي إلى موته صامتاً عارفا، وقفنا على قبره مائلينَ، وفي قبرهِ كان ناجي العلي واقفا". 

 

و في بيروت تعرف على غسان كنفاني الذي اغتاله الإسرائيليون العام 1972م، ورثاه في قصيدة فلسطيني في الشمس : 

يتتابعون على جسور الحلم، أجدادي، وجوه أحبّتي، وتناقضُ الكلمات والمِرآةِ، مدّي لي يديكِ ، وأَرْجِعي "غسّـانَ". لا . فالموت لن يرضى وأحياءٌ كِثار"

 

وفي قصيدة "كشرفة سقطت زهورها"، أهداها مريد رثاءً لـ محمود درويش قال فيها 

:" وكأنّه إذ مات أخْلَفَ ما وعدْ.، وكأنّنا لمناه بعض الشيء يومَ رحيلِهِ.، وكأنّنا كنّا اتّفقنا أن يعيش إلى الأبدْ.

'محمودُ ابن الكُلِّ' - قالت أمّهُ، وتراجعت عن عشبِهِ، خَفَرًا، لتندفع البلدْ.

يا ويحَها 'حوريّةٌ'، هل أدركتْ أنّ البلاد لتوّها، قد ودّعتْ من كلّ عائلةٍ ولدْ؟"

فلسطين في وجدان مريد 

أصدر البرغوثي رواية " وُلدت هناك، ولدت هنا" وهي امتدادا لروايته الأولى عن زيارته لفلسطين، وصف فيها عودته ورحلته إلى موطنه الأم مع ابنه الوحيد الشاعر أيضا تميم البرغوثي . وترجمت هذه أيضا إلى الإنجليزية عام 2012م. 

وكتب فيها نصّه المشهور:" بوسعنا الآن أن نقول لأطفالنا إن النعاس لن يظل نصيبهم إلى الأبد، ولا إلى بعض الأبد. لكن علينا أن نعترف لهم ولأنفسنا قبلهم بأننا مسؤولون أيضًا. جهلنا مسؤول. قصر نظرنا التاريخي مسؤول، وكذلك صراعاتنا الداخلية، وخذلان عمقنا العربي المكوّن من دول معجبة بمستعمريها حد الفضيحة." 

انتاجه الأدبي 

كان انتاج مريد البرغوثي النثري في عملين هما (رأيت رام الله و ولدت هناك ولدت هنا). وترجما إلى اللغة الإنجليزية, وإلى جانب أعماله النثرية، صدرت للبرغوثي 12 مجموعة شعرية، أقدمها "الطوفان وإعادة التكوين" عام 1972، و"فلسطيني في الشمس" عام 1974، و"نشيد للفقر المسلح" عام 1976، و"سعيد القروي وحلوة النبع" عام 1978، و"الأرض تنشر أسرارها" عام 1987، و"قصائد الرصيف" عام 1980، و"طال الشتات" عام 1987، و"عندما نلتقي" عام 1990، و"رنة الإبرة" 1993، و"منطق الكائنات" عام 1996، و"منتصف الليل" عام 2005.

 

بهذه الأعمال الأدبية وقصة عشقه لفلسطين ورضوى ورثائه لأعلام فلسطين، غادرنا مريد .. فمن يرثي مريد اليوم ؟ 

أضف تعليقك