محمد القيسي بعد عشرين سنة على الغياب .. ذات يوم سنة 1982

على الباب.. 

كانت بيروت قد فرغت للتو من وداع الفدائيين الفلسطينيين سنة 1982 ، ولم يكن حفل الزفاف الفلسطيني في نسخته الجديدة على المنافي قد استقر تماما، كنت في تلك الفترة أدرس الصحافة، طالبا لم يشتد له عود، حين وجدت نفسي في جريدة الشعب أعمل مباشرة مع الصحفي الألمعي موسى عبد السلام "ابو رشا" رحمه الله، وفي ملحق ألوان الذي كانت تصدره الجريدة صباح كل يوم خميس، وأذكر أن رئيس التحرير آنذاك كان أستاذ الجيل المرحوم إبراهيم سكجها.

كنت وصديقي وزميلي حامد الحاج حسن نعمل سويا، كنا متطوعين بدون مقابل، فقط كان همنا أن ندخل المطبخ الصحفي، ونغمس أيادينا بالحبر وبعوالق الورق، ونتورط بالإنغماس في عالم الصحافة ولم نكن قد طوينا نصف التاسعة عشرة من أعمارنا..

كنا في تلك الفترة نعرض مشروع عمل صحفي على أستاذنا المرحوم موسى عبد السلام اختصرناه بجملة واحدة"نريد قراءة المشهد الثقافي الأردني والفلسطيني وتحولاته المحتملة بعد بيروت 1982 "، رحب "ابو رشا" بالفكرة وبالمبدأ، وانطلقنا سويا حامد وأنا نضع تفاصيل خططنا على الورق، ونعرضها على "أبو رشا" الذي دعمها بقوة، وأظنه عرضها قبلا على الاستاذ سكجها في حينه.

كانت وجهتنا الأولى استكشاف صورة المشهد السياسي وفقا لرؤية المثقفين الأردنيين، وكيف ينظرون للمستقبل وللسنوات العجاف المقبلات، وللحقيقة فإن أحدا لم يتوقع بالمطلق أن تكون خارطة الاقليم السياسية والاقتصادية والإجتماعية بعد عشر سنوات على ما وصلت إليه.

كان تيها،وكان ظلاما، وكانت حيرة، وكان الخوف من المجهول يلقي بظلاله على كل شيء، على الأفكار، والطموحات، والأحلام التي ماتت في مهدها، لكن الأهم من ذلك كله هو الشعور بالهزيمة،وفقدان روح التحدي، ولربما كان السؤال الغامض والمبهم يتردد في كل الجنبات"إلى أين تقودنا أيها النهار..؟؟!!".

ولم يكن في الحقيقة أي نهار، بل كانت نهارات ملولة وداكنة، ولم يعد أحد في حينه يحلم بالغد الغامض والمبهم، فقظ كانت رنة ضاغطة من الحزن تحكم المشهد بكامله.

قال ذلك محمد القيسي بوضوح وبحزن تثقله الحيرة حين سألناه عن الجديد الذي ستحمله الأيام بعد 1982 للشعراء وللمثقفين" ستجد الكثير من الحزن، ولا جديد في الأفق".

"شاعر الحزن الفلسطيني " وصف أطلقه عليه المفكر والناقد د. غالي شكري رحمه الله في كتابه الشهير "أدب المقاومة "، وظل القيسي سعيدا بهذا التوصيف، وكأنه يرى فيه اختزالا لا يجافي الحقيقة التي تكشفها أشعاره ومنتجه الإبداعي حتى ذلك الحين،وقبل أن يحمل لقب "الشاعر الجوَال " في السنوات التاليات..

قضيت بصحبة زميلي وصديقي حامد الحاج حسن نحو اسبوع بطوله نتردد يوميا على محمد القيسي في مكتبه في جبل الحسين آنذاك لإستكمال المقابلة التي نسيها القيسي وتذكرها حين عدنا والتقينا صدفة في مكتب المرحوم عبد الله رضوان في وزارة الثقافة سنة 1997ــ إن أسعفتني الذاكرة ــ ليبادرني بقوله إنه نسي أن ينشر تلك المقابلة في كتابه " الموقد واللهب ــ حياتي في القصيدة ــ " الذي صدر عن وزارة الثقافة في عمان سنة 1994 ،  وأعاد فيه نشر مقابلاته وأحاديثه في الصحافة.

في عام 1982 كان القيسي قد انتهى للنو من نشر كتابه " أرخبيل المسرات الميتة " ، وقبلها سنة 1981 كان ديوانه"اشتعالات عبد الله وأيامه " الصادر عن دار العودة في بيروت يأخذ صداه الذي يستحقه لدى مجتمع المثقفين الأردنيين، وأذكر جيدا أنه ألقى علينا جزءا من قصائد هذا الديوان في أمسية شعرية نظمها مركز الشباب في مخيم البقعة سنة 1981 حضرها حشد من جمهور الشعر لا يمكن وصفه أو حصره في حينه.

وما أذكره جيدا أنني أخبرته عن قصيدة له منشورة في عدد قديم من مجلة  " الأفق الجديد " الصادرة في أواخر الستينيات فطلبها مني، وحين أهديت نسخة المجلة كاملة أبدا فرحا غير عادي بها وبالقصيدة التي قال عنها إنه نسيها ولم ينشرها في أي من دواوينه السابقة، فقلت له احتفظ بالنسخة كاملة فهي لك..

كان المرحوم القيسي قد أصدر حتى حينه ثماني مجاميع شعرية هي على التوالي : راية في الريح دمشق 1968، وخماسية الموت والحياة دار العودة، بيروت 1971، ورياح عز الدين القسام بغداد 1974، والحداد يليق بحيفا دار الآداب بيروت 1975، وإناء لأزهار سارا، زعتر لأيتامها دار ابن رشد بيروت  1979، وإشتعالات عبد الله وأيامه دار العودة  بيروت 1981، وأغاني المعمورة (قصائد للفتيان) عمان 1982، وأرخبيل المسرات الميتة (مزامير أرضية) عمان1982، ليصدر بعد ذلك نحو 27 كتابا بين شعر ونثر عدا عن أعماله الكاملة.

بعد شهر من الان وفي الاول من شهر آب المقبل يكون قد مر 20 عاما على وفاته رحمه الله ( توفي في 1 / 8 / 2003) في عمان، ولعل من المهم ان تقوم رابطة الكتاب الأردنيين على الاقل باستذكار هذا الشاعر الذي ظل مهمشا ومنسيا، وهذه أقل ما يمكن أن تقدمه لرجل ولسيرته الإبداعية..

أضف تعليقك