مجدّداً في الأردن ... الشكّ يكفي لقتل امرأة

تخبرنا الفلسفة بأنّ الشك يقود إلى اليقين، لكنّ هذا ليس واقع الحال في الأردن، تحديداً في ما يخص الجرائم الواقعة على النساء، فيكفي أن يشكّ أحدهم في العائلة بسلوك إحدى نسائها لينتهي به الأمر إلى إعدامها خارج قطاع العدالة "بيده لا بيد عمرو" ليكون القاضي والحكم والمنفذ بلحظة اعتقد فيها أنه "يغسل عارَه" الذي لم يتأكّد أصلاً أنها جلبته. بل إن العدد الفعلي للجرائم التي وقعت بداعي الشرف لا يتجاوز فعلياً حالاتٍ معدودة كما تُظهر سجلاتٌ رسميةٌ في المراحل النهائية للتحقيق وفي أروقة المحاكم، وذهبت ضحيتها امرأة ربما رفضت زواجا قسريا، أو رفضت التخلّي عن إرث أو مجرّد خلافاتٍ عائلية بحتة.

يرفض كثيرون تصديق ذلك، وتبقى عبارات "شكّ في سلوكها .. وقَتلها غسلا للعار" تُعمي بصيرتنا، مثل لوحة إعلانية ضوئية بشعة في طريق صحراوي مظلم، عبارات مكرّرة تساق لتبرير جريمة قاتلٍ تسمّى ظلما جريمة شرف، وهي أبعد ما تكون عنه، بل اعتداء سافر على الإنسانية.

في أسبوع واحد ارتكبت ثلاث جرائم بحق نساء، واحدة في العاصمة عمّان والأخريين في محافظتين خارجها، ارتكبت ببشاعة  في بيوت مظلمة فقدت  مشاعر الأبوّة والأخوة وانتهت أخبارا عاجلة على الشاشات الزرقاء خبا بريقها بعد ساعاتٍ فقط، وخيم مجدّدا الصمت على الشارع الأردني الذي يتواطأ كثير من أفراده ضمنيا مع قاتل، لأن الضحية فقط امرأة.

بحسب بيانات المركز الوطني للطب الشرعي، ارتفع عدد جرائم قتل النساء عام 2022 إلى 118 جريمة، بزيادة 14 جريمة عن تلك المسجّلة عام 2021 التي أزهقت فيه حياة 28 امرأة مقابل 16 امرأة في العام الذي سبقه. ونتذكّر التوجيهات الملكية في العام 2010 بتشديد العقوبات في الأحكام الصادرة في الجرائم الواقعة على المرأة، وبالفعل، وصلت الأحكام في بعض الحالات إلى الإعدام شنقاً. لكن واقع الحال أن جناةً واصلوا الإفلات من حبل المشنقة، مستفيدين من إسقاط عائلة الفتاة حقّهم الشخصي، وفقا لأحكام المادة 98 من قانون العقوبات التي تتيح للجاني الاستفادة بما يعرف بالعذر المخفّف نتيجة سورة الغضب الشديد.

أسوأ ما في جرائم القتل، وتحديدا الواقعة على النساء، أنّه يُبحث دائماً عن مبرِّر، وأسوأ من يعطي تلك المبرّرات هو الإعلام الذي يقحم تفاصيل ليست ذات صلة ليقود القارئ رغماً عنه إلى التعاطف مع الجاني، وتوجيه أصابع الاتهام للضحية التي ارتكبت سلوكاً أو مظهراً غير مرضي عنه، رغم أنه قد يكون تصرّفاً إنسانياً بحتاً، فاستحقّت بناء على تصوّر قاصر أن تجزّ رقبتها في مطبخ البيت من الوريد إلى الوريد بلا رحمة، أو يُطعن جسدها مراراً وتكراراً في غرفة المعيشة، أو تُحرق وهي حيّة في غرفة نومها، بل إنّ إحدى الجرائم تعدّ جريمة مركّبة: زوّجت فيها الضحية وهي طفلة في الـ16 من عمرها وأنجبت طفلة، وتطلّقت، ثم زوّجت مرّة أخرى وتطلقت إلى أن قتلت، وهي في الـ19 من عمرها، لرفضها الزواج الثالث الذي حاولت أسرتها إرغامها عليه، وذلك كله في ثلاث سنوات فقط، ولم تعرف حتى لأي ذنبٍ قتلت، إلّا لأنّه جرى الشكّ في سلوكها!



تحاول النساء النجاة من العنف المستمر في البيوت المغلقة على أسرارها، ولا يعرف أحدُهم مقدار المعاناة التي تعانيها نساءٌ جريمتهن الوحيدة أنهن يحاولن العيش بالحدود الدنيا المتاحة للآدمية، تهرُب المحظوظات منهن إلى ملاجئ وبيوت ضيافة حكومية لا تزال دون المستوى والعدد المطلوب فعلياً. وللحقيقة، جاء إنشاؤها متأخّراً نسبياً، إذ أنشئت أول دار ضيافة للنساء المعنّفات تابعة لمؤسسة مجتمع مدني (الاتحاد النسائي) في 1997.

ما نحتاجه، بالإضافة إلى تحسين خدمات الحماية والرعاية للنساء المعنّفات، قاعدة بيانات دقيقة للجرائم الواقعة على النساء وأسبابها ودوافعها ونتائجها على العائلة والمجتمع بشكل عام، قوانين صارمة تعاقب الجاني وفقاً للجريمة لا أسبابها، وبغضّ النظر عن الضحية، جهد مجتمعي ومدني لرفع الوعي بمعايير العدالة والمساواة بين الجنسين، وأن يتم التعامل مع كليهما كإنسان يستحقّ الحياة والعيش بحرية وكرامة بلا سلطة أو منّة من أحد.

أضف تعليقك