ليس بالضرورة تحرش

 

 «إنما الأعمال بالنيات»، قول يجري على ألسنة الناس بمناسبة وبدونها دون إدراك من كثيرين خطورة النية وأثرها الواقعي والقانوني على الأفعال التي قد تنزل من مصاف المباح إلى درك الجرائم المعاقب عليها.

 كان «القصد الجنائي» أو ما يعرفه غير المتخصصين ب«النية» السبب الرئيس الذي جعلني أتعلق بعلم القانون الجنائي وأنفق من عمري سنوات في دراسته وتحليله والحصول على درجة الدكتورا فيه. ذلك أنه كانت تأسرني حقيقة أن قيام الطبيب مثلاً بإعمال مبضعه في جسم إنسان دون موافقته سوف يفضي به إلى خلف القضبان بتهمة الإيذاء، بينما مجرد إعلان المريض رضاه عن الفعل نفسه يجعله مباحاً يحظى بالاحترام والتقدير ويستوجب الأجر، والشيء نفسه يقال عن جريمة الاغتصاب والزنى والتحرش وغيرها من الجرائم الجنسية التي تكتسب وصف «الفعل الجرمي» حال وقوعها بالإكراه بمعناه الواسع، لتتحول إلى علاقة حميمية خاصة –بغض النظر عن رأيك فيها- طالما ارتضاها الطرفان، وفي هذا المقام، لك أن تتخيل أن مواقعة شخص لأنثى دون رضاها قد يفضي به إلى حبل المشنقة أو السجن المؤبد –بحسب العقوبة المقررة- وقد يمر مرور الكرام وربما يستوجب الاعتذار وتعويض الشخص المدعى عليه إذا أثبت أن المواقعة تمت برضى كامل من شريكته.

 في جرائم التحرش، قد تدقّ الأمور إلى حد يصعب معه أحياناً توصيف الفعل وتكييفه لصعوبة إثبات الرضى بسبب تعذر تأويل ردة فعل الضحية خصوصاً إذا صمتت ولم تقاوم أو لم تعبر عن رفضها لما يقع عليها مع قدرتها العضوية على ذلك. فمرور فتاة في شارع يتسكع على نواصيه شبان أو رجال بائسون يسمعونها عبارات سبعيناتية بالية مثل: «من إيمتى القمر بطلع بالنهار.. أموت شنق.. أموت حرق.. أموت دهس تحت إجرين حمار مسرع..» وغيرها من أكلاشيهات القرن الماضي؛ وعدم تعبيرها عن انزعاجها ورفضها لهذه الاعتداءات اللفظية التحرشية ومتابعة مسيرها دون التفات إلى ما يقال عنها ولها؛ لا يمكن بحال تأويله على أنه عدم ممانعة استناداً إلى القول الذي يجري على ألسنة الناس دون تبصرّ «السكوت علامة الرضى» بل في هذه الحالة يجب تفسير السكوت على أنه قرينة الإكراه المعنوي لتعذر مجادلة المتحرشين ومقاومتهم ولو بالكلام لأسباب اجتماعية ونفسية واتقاءً لشرهم.

 في المقابل، باتت تهمة التحرش سلاحاً يستخدمه كثيرون في مواجهة خصومهم، فلا تكاد تخلو سنة من تداول اتهامات بالتحرش لرئيس دولة أو زعيم حزب أو حاكم ولاية أو مرشح برلماني أو شخصية قيادية اجتماعية أو أكاديمية.. وفي هذه الحالة غالباً ما تلجأ الشخصيات العامة المتهمة بالتحرش إلى نفي أصل الفعل بدلاً من الإقرار بوقوعه مع إثبات أنه كانت برضى من وقع عليها بل معها، والسبب في ذلك هو أن استراتيجية الإقرار بوقوع الفعل ونفي عنصر الإكراه عنه بالنسبة للشخصيات العامة ضار جداً لأنه سوف يترك آثاراً سلبيةً على محيطهم الأسري والاجتماعي ومستقبلهم السياسي أو المهني .

 بعد أفول مرحلة «التحرش اللفظي الكوميدي السبعينياتي والثمانينياتي»، وجد متحرشو اليوم أن الألفاظ المتسمة بالتورية التي كان يستخدمها الآباء والأجداد المتحرشون؛ لم تعد تسعف في إظهار «الرجولة» وتعويض النقص وعدم الثقة بالذات، فقرر هؤلاء تطوير قاموسهم اللفظي ليصبح أكثر وقاحةً وأشد وقعاً على ضحاياهم، فأصبحت تسمع عبارات إيحائية صريحة مثل: «جاي والا الدور الجاي.. مروحة والا إلك مصلحة.. مُزّ.. يا عسل يا بطل.. قديش كيلو الكنافة اليوم.. فرس وأنا خيالها.. جمل وشو العمل.. نفسي أقطف حبتين الفراولة هدول..»، من جهة أخرى، وجد هؤلاء المصعورون في وسائط النقل العامة بيئةً سانحةً لإشباع شبقهم الجامح، لتخرج تقارير الهيءات الدولية والمنظمات المحلية المتخصصة صادمةً في ما تظهره من نسب الفتيات والنساء اللاتي يتعرضن للتحرش اللفظي والجسدي المباشر وأثر ذلك عليهن.

 هذا التفشي المريع لظاهرة التحرش في الأماكن العامة ووسائط النقل -من وجهة نظري- يجعل القصد الجنائي قائماً بمجرد وقوع الفعل دون الحاجة لاستمزاج الضحية للتثبت من عدم رضاها عمّا وقع عليها، ذلك أن التحرش في هذا السياق مثل الفعل الفاضح تماماً الذي يقع فور حدوثه في مكان عام. في المقابل، فإن الفعل نفسه الذي يعتبر تحرشاً سواءً كان باللفظ أو اللمس، ينبغي التروي في توصيفه وتكييفه إذا وقع في مكان وسياق مخالف لما هو عليه في الأماكن العامة، إذ هنا ينبغي على الضحية أن تتقدم بشكوى التي تعتبر بذاتها قرينةً على انتفاء رضاها عن التحرش المدعى بوقوعه، ليأتي دور المشتكاة في حقه ليحاول إثبات توافر الرضى، هذا التوضيح -على بساطته لدى المشتغلين في القانون- كثيراً ما يغمّ على البعض، إذ ثمة وقائع استغلت فيها نساء ورجال حساسية العلاقات الجنسية حال خروجها للعلن ونمطية فهمها والحكم على أطرافها، فسارعوا إلى اتهام الصديق أو الصديقة والشريك أو الشريكة بعد طول معاشرة وتواصل بسبب خلاف دبّ بينهما؛ بأنه كان يتحرش ويعتدي جنسيا، معتمدين على صعوبة إثبات الرضى ليس فقط بسبب طبيعته المتعلقة بعناصر معنوية محضة مثل العلم وإرادة الفعل، بل لليقين أن من يتهم بهذه الأفعال قلما يصمد طويلاً في سياق اتهامي علني حتى وإن كان باطلا، وذلك تجنباً للتشهير وخوفاً على مصدر الرزق أو مصير الأسرة أو المستقبل السياسي أو المهني.. فما بالك لو أضيف إلى جماع ذلكم البعد العائلي والعشائري.

 إن قياس الرضى وفهم طرق التعبير عنه في مجال العلاقات الحميمية؛ ينبغي أن يأخذ في الحسبان طبيعة الثقافة السائدة والعادات والتقاليد الاجتماعية المتجذرة، ففي الوقت الذي يمكن للفتاة فيه أن تعبر عن رضاها الصريح بإقامة علاقة حميمية مع شخص ما في مجتمع الثقافة الجنسية ومعرفة الجسد فيه ممارسة تعليمية وثقافية اعتيادية، يبقى عدم استطاعت فتاة أخرى التعبير عن رضاها الصريح بذلك؛ أمراً متوقعاً في مجتمع مجرد التحدث فيه في العلن عن الجنس والجسد يعتبر من الموبقات، لذلك فعدم التعبير الصريح عن الرضى في هذه الحالة لا ينبغي حمله محمل القرينة النافية لوجوده.

 التربية والثقافة الجنسية ضرورة ومتطلب رئيس لحياة فردية واجتماعية خالية من العوار، فمعرفة الجسد والتعامل مع أهم غريزة مرتبطة بالعاطفة والكينونة بشكل جدي؛ هو الوسيلة المثلى لحماية أطفالنا وفتياتنا وفتياننا من التحرش والاعتداء الجنسي، إذ كيف يمكن مواجهة مشكلة دون التحدث عنها وتحليلها وبيان الحدود التي تجعل منها ممارسة غير مشروعة أو اختيار وقرار ينبغي توجيه الشخص لاتخاذه بطريقة صحيحة.

 ليس كل تغزّل وتقارب وتلامس تحرش أو اعتداء، فالحد الفاصل بين الَغزَل والتحرش، وبين المعاشرة والاغتصاب، وبين التودد والاعتداء، وبين التعبير عن العواطف ومحاولة الإغواء.. هو إدراك كنه الأفعال ورضى طرفيها بها رضاءً حراً مستنيرا.

أضف تعليقك