لماذا كلفة رُخَص الإذاعات المحلية مرتفعة؟
من المعروف أنّ التلفزيون والفيديوهات عبر السوشل ميديا قد أصبحت الوسيلة الأولى للتواصل الإعلامي. ولكن رغم نجاح الفيديو والتلفزيون، إلا أن من الخطأ إهمال الشريك الإعلامي الأصغر وهو الراديو والملفات الصوتية.
لقد استمر الراديو في لعب دور مهم في حياة الناس للعديد من الأسباب، أهمها أنّ الإنسان يصرف وقتا أكثر في السيارة، الأمر الذي يجعل من الصعب أن يركز عينيه على الصورة وأن يبقى للراديو دور مهم للتواصل. ومن المعروف أيضاً أن الراديو يعتبر أكثر وسيلة تواصل ناجعة في الأزمات واختلاف الطقس، فحتى في أشد الموجات الثلجية يبقى المذياع يعمل ويستطيع المواطن متابعته حتى في حال انقطعت الكهرباء.
وفي عالمنا العربي، كانت للراديو أهمية كبيرة، ولكن ليس في مجال التنمية كما هو الحال في العديد من الدول النامية، بل في مجال التطورات المسلحة والانقلابات العسكرية. فقد نجح العديد من القائمين على تلك التحركات بالسيطرة على الحكم من خلال احتلال القصر الملكي أو الجمهوري ومن ثم إعلان البيان رقم واحد عبر الراديو. ولكن ذلك كان في وقت احتكار الدول والقوة المهيمنة على الراديو.
في عصرنا الحالي، هناك العديد من الاستخدامات للراديو، ولكننا لسبب أو لآخر ما زلنا مستمرين في التخوف من الراديو بسبب تلك التحركات التي جرت في أواسط القرن الماضي وقبل بزوغ الفضائيات والثورة الرقمية.
وقد طرأ تغيير كبير على ملكية الإذاعات ونوعيتها في العقود الأخيرة، فقد انتهى عصر الموجة المتوسطة AM ودخل عصر الـFM. والفرق بينهما كبير، فالموجة المتوسطة أقل جودة ولكنها أوسع انتشاراً وتتجاوز كثافة البنايات. أما الـ"إف إم" فإنها موجة عالية الجودة وخاصة للموسيقى ولكنها محصورة في منطقة جغرافية لا تتعدى حدود مدينة كبيرة وموجاتها لا تتجاوز البنايات، ما يتطلب أن يكون هناك اتصال بصري من البرج إلى المتلقي، الأمر الذي يشكل صعوبة في مدينة جبلية مثل العاصمة الأردنية، عمّان، حيث هناك العديد من المناطق التي لا يصلها البث.
تأخرت الدول العربية كثيراً في تخصيص الموجات الإذاعية مفضّلةً أن يبقى الشعب مرتبطاً بإذاعات رسمية تملكها الدولة، ولكن بعد مرور وقت، خصوصاً بعدما دخلت الولايات المتحدة بقوة من خلال إذاعة "سوا" وبدأت بجذب الشباب من خلال بث تبادلي بأغنية عربية تليها أغنية أجنبية، اضطرت العديد من الدول العربية لفتح الأثير، خاصةً لشركات تجارية تبث بالأساس أغاني وبرامج "خفيفة" غير سياسية.
ومع الزمن تطورت الإذاعات الخاصة وأصبحت هناك إذاعات جادة، رغم عدم جدوى ذلك، الأمر الذي وفر فرصا أكثر لإذاعات ذات طابع ديني إسلامي بدلا من إذاعات علمانية غير مؤدلجة.
التشريعات الأردنية وغيرها لم تسعف إمكانية أن يلعب المجتمع المدني دورا مهما في مجال الإعلام الإذاعي. فترخيص الإذاعات تم تقييمه على أساس الإذاعات التجارية الربحية ولم يتم وضع تشريعات تسمح للجمعيات الخيرية والشركات غير الربحية بتملك الإذاعات، فضلا عن بقاء كلفة الترخيص للإذاعات الخاصة مرتفعة جداً، الأمر الذي صعّب على أفراد أو عدة مؤسسات أن تستطيع توفير الرسوم المرتفعة والتي تصل إلى 25 ألف دينار سنويا في العاصمة وتقل قليلا خارج العاصمة.
ورغم أن المشرع الأردني إضاف تعديلا على قانون المرئي والمسموع عام 2015 يوفر إمكانية إعفاء إذاعات لا تبث الإعلان التجاري من دفع رسوم الترخيص، إلا أن ذلك لم تتم ترجمته بأنظمة وتعليمات، وبقي القرار النهائي لمجلس الوزراء. ورغم محاولة إذاعة مجتمعية، هي راديو البلد، الطلب من مجلس الوزراء عام 2019 بالموافقة على الإعفاء، ورغم صدور توصية من مدير هيئة الإعلام آنذاك المحامي محمد قطيشات، ومصادقة وزيرة شؤون الإعلام جمانة غنيمات على ذلك، إلا أن مجلس الوزراء (ويبدو بسبب الضائقة المالية) رفض السماح بذلك الإعفاء، في حين استمر الإعفاء متوفرا لكافة الإذاعات الجامعية العامة والإذاعات التابعة لمؤسسات شبه حكومية، مثل الصندوق الهاشمي وأمانة العاصمة.
من المعروف عالمياً في مجال ملكية الإعلام المرئي والمسموع، أن هناك ثلاثة أشكال يجب مراعاتها حسب المعايير الدولية. فهناك إعلام رسمي تملكه الدولة ويدفع بدله المواطن من خلال رسوم (كما يحدث في دينار التلفزيون من فاتورة الكهرباء) وذلك لأن الإعلام الرسمي مطلوب منه توفير معلومات عامة لكل المواطنين وبصورة مهنية وممثلة لفئاتهم كافة، ومن المفترض ألا يجني الإعلام الرسمي أي إعلانات، لأن ذلك سيدخله في منافسة غير عادلة مع الإعلام التجاري وقد يؤثر سلبا في نوعية برامجه.
أما الصنف الثاني فهو الإعلام التجاري والذي يتطلب من الدولة أو من الجهة التنظيمية توفير بيئة منافسة عادلة له للعمل دون تمييز من إعلام آخر. وهنا لا بد من تسجيل ملاحظة على وجود خلل وثغرة تشريعية في موضوع شروط ترخيص الإذاعات المملوكة من مؤسسات عامة. كما لم يتدخل المشرع الأردني في تحديد عمل إذاعات مملوكة من جهات رسمية، مثل الجيش والشرطة والأمانة في تحصيل إعلانات، رغم أن لها العديد من الميزات الخاصة، الأمر الذي خلق غيابا للمنافسة الحرة بين وسائل الإعلام.
ولكن رغم كل ذلك ورغم انتشار معقول للإذاعات في الأردن، إلا أنّ الطيف الإذاعي، خاصة خارج العاصمة لا يزال غير مستغل، وينتج عن ذلك هدر لثروة وطنية يمكن الاستفادة منها على عدة مستويات. فدراسات عالمية للبنك الدولي وغيره من المؤسسات الدولية أظهرت أن المجتمعات المحلية التي توجد فيها إذاعات مجتمعية تزيد من تكاتفها الاجتماعي وتقل فيها البطالة، والأهم تقل الهجرة المسعورة من القرية إلى المدينة.
تستطيع الدول العربية أن تعالج العديد من تلك المشاكل الاجتماعية والاقتصادية من خلال تسهيل إقامة الإذاعات المجتمعية وذلك من خلال إدخال تراخيص خاصة بالإذاعات إلتي تملكها جمعيات خيرية أو شركات غير ربحية وإلغاء الرسوم المفروضة على تلك التراخيص أو استبدالها برسوم رمزية قد تدفع في المرة الأولى بدلا من الرسم السنوي.
يبقى السؤال المحير لماذا تم العزوف عن الاستفادة من طيف الموجة القصيرة؟ صحيح أن الكلفة الأساسية لبرج الموجة القصيرة مرتفعة، ولكن في المقابل تصل الموجة القصيرة إلى مسافات أكثر بكثير من الـ"إف إم"، كما تخترق الموجة القصيرة المناطق ذات الكثافة الإسمنتية والمناطق الجبلية.
الموجة المتوسطة لها ميزة خاصة للإذاعات المعنية بالكلام وليس بالموسيقى. قد تكون هناك حاجة لتحالف ما لتغطية الكلفة الأساسية للبرج وجهاز البث، والكلفة التشغيلية، وبدل الكهرباء، وطبعا أجور فريق العمل.
قد يكون من الصعب للمواطن الانتقال من موجة الـ"إف إم" الشائعة إلى موجة الـAM، إلا أن وجود برامج ومضمون جيد سيخلق جمهورا يتابع محطات على الموجة المتوسطة.
في الوقت الحالي لا توجد أي إذاعة عربية على الموجة المتوسطة AM تملكها أي جهة غير حكومية. لقد حان الوقت لتغيير هذا الوضع وإعطاء دور للمجتمع المدني لاستخدام الموجة القصيرة لبرامج إخبارية مهنية وبرامج تنموية تقدم مضمونا مفيدا للمجتمعات المحلية، إضافة إلى زيادة الإذاعات المحلية من خلال تخفيض الرسوم وتسهيل شروط الترخيص.
*العربي الجديد