لماذا خصّ ترامب الشعب الأردني بخطاب مسجّل؟

الرابط المختصر

على غير المعهود، خص الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الشعب الأردني بكلمة مسجلة ومصوّرة يثني فيها على الملك عبد الله الثاني، ويصف الأردنيين بأنهم "حيويون وبالغو الذكاء". وكان الفيديو، الذي بُث في 12 فبراير/ شباط الجاري، على حساب منصة إكس التابع للبيت الأبيض، محاولة لاحتواء غضب العاهل الأردني بعد مباغتته بدخول الصحافيين لدى انتهاء لقائه الرئيس الأميركي، نقضاً لاتفاق بعدم عقد مؤتمر صحافي لهما. وسرّب مسؤولون أردنيون لصحافيين أردنيين، وأصدقاء لهم في واشنطن، أن ترامب "غدر بالملك"، وخصوصاً أن الملك ارتبك، وأجاب بطريقة غامضة أثارت قلقاً واستياءً بين الأردنيين الذين يتوقعون تصريحات واضحة ترفض بشكل قاطع اقتراح ترامب بالتهجير القسري لأكثر من مليون فلسطيني من قطاع غزةّ إلى الأردن. حتى إن أردنيين عبّروا عن مخاوفهم من أن الملك ينوي الموافقة على رؤية ترامب، واستمر اللغط العلني ساعتين، ما استوجب إعلان الملك موقفاً لا لبس فيه، يعيد فيه تأكيد "رفض تهجير الفلسطينيين إلى الأردن". واستدرك الموقف الذي وضعه فيه ترامب، فكتب على حسابه على "إكس": "أعدت تأكيد موقف الأردن الثابت ضد التهجير للفلسطينيين في غزّة والضفة الغربية. وهذا هو الموقف العربي الموحد". وهذا الموقف هو الذي قرأه وفهمه السياسيون الغربيون والصحافتان الأميركية والعالمية.

كان تسلسل الأحداث كبير الدلالة، وفيه من العبر الكثير؛ فالشارع الأردني شديد الحساسية لكل حرف يقال أو يقوله الملك حيال مقترحات ترامب بتحويل غزّة إلى مشروع عقاري بعد تهجير الفلسطينيين القسري إلى الأردن، فهم لا يرون عملية ترحيل من غزّة فقط، بل يرونها مقدّمة للتهجير القسري للفلسطينيين من الضفة الغربية والقدس الشرقية، تمهيداً لضم معظم الضفة وغور الأردن والتخلص من الفلسطينيين بطردهم إلى الأردن، ما يعني تصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن والفلسطينيين. وهي من أكثر القضايا حساسية لدى الشعب الأردني، فالمقولة الصهيونية، التي ردّدها كبار الصهاينة والمسؤولين الإسرائيليين، ماضياً وحاضراً، أن الأردن هو الوطن البديل للفلسطينيين، لا تزال عالقة في أذهان الأردنيين والفلسطينيين معاً، وتشكل هاجساً دائماً للأردنيين بأن المخطّط الاسرائيلي والأميركي يقضي بإنهاء الكيان الأردني والهوية الأردنية، واحداً من شروط إنهاء القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين. وكانت عناوين الصحف الأردنية في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته وأوائل تسعينياته تصرخ محذّرة من مخطّط "الترانسفير"، وهو تعبير إسرائيلي مخادع مأخوذ من كلمة "نقل" من مكان إلى آخر بالإنكليزية، لكنه يعني عملياً طرد الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن.

اكتسب الملك عبد الله الثاني شعبية وتأييداً غير مسبوقين لموقفه الرافض تهجير الفلسطينيين إلى الأردن، ولكنه تأييد مرتبط باستمرار موقفه بغضّ النظر عما يقرر العرب في اجتماعهم المقبل

... في عام 1989 بدأت موجة هجرة اليهود السوفييت إلى إسرائيل، بعد ضعف الاتحاد السوفييتي وانهياره في بداية التسعينيات، فعلت الأصوات مجدّداً محذرة من "مخطّط التهجير"، سواء في الأردن، أو من قيادة منظمّة التحرير الفلسطينية، وعلى الأخص مع تولي القائد الفلسطيني عبد الجواد صالح إطلاق حملة عربية وعالمية لمنع التهجير. حتى إن القمة العربية في بغداد عام 1990 دعت إلى وقف هجرة اليهود السوفييت إلى فلسطين، فيما استمرّت إسرائيل في بناء المستوطنات وسحب هويات أهل القدس الشرقية وإبعاد المناضلين وتدمير البيوت في عملية مستمرة. وهذا يعني أن المخطّط ليس جديداً، لكنه أخذ منحىً خطيراً مع تولّي اليمين الأكثر تطرّفاً الحكم في إسرائيل وتصاعد عمليات التدمير والطرد الأخيرة وغير المسبوقة من مخيم جنين ومناطق أخرى. بمعنى أن خطة "الترانسفير" قد بدأ تنفيذها، بالنسبة إلى الأردنيين والفلسطينيين. وجاء مقترح ترامب ليؤكّد، أو على الأقل يعمّق، قلق الأردن من أن هناك موافقة دولية تحت مسميات مختلفة لتهجير الفلسطينيين إليه.

عودة إلى ما يحدث الآن، اكتسب الملك عبد الله الثاني شعبية وتأييداً غير مسبوقين لموقفه الرافض تهجير الفلسطينيين إلى الأردن، ولكنه تأييد مرتبط باستمرار موقفه بغضّ النظر عما يقرر العرب في اجتماعهم المقبل. فعلى رغم وجود دعم شعبي لعدم القبول، بل والرفض، إلا أن هناك تخوّفاً عميقاً من أن تختل عزيمة الملك إذا لم يجد دعماً من مصر والسعودية على وجه الخصوص. صحيحٌ أن المؤسسة الأميركية لم تتبنّ مقترح ترامب، لكنها استغلته لترمي الكرة في الملعب العربي لاستدراجهم إلى المساومة وقبول مقترحاتٍ لا تقلّ خطورة، ليس أقلها تطبيع العلاقات مع السعودية وضمان تعاون عربي لإخراج حركة حماس من دائرة الحكم في غزة.

فلسطين والأردن معرّضان للخطر نفسه الذي تتعرض له فلسطين، العدو هو إسرائيل، ولا يغيّر لطف ترامب المفاجئ من دعم واشنطن إسرائيل

عليه، المؤسسة الأميركية، سواء في الحزبين الديمقراطي والجمهوري، أو الخبراء في واشنطن الذين يؤثرون في القرار لديهم، أقنعوا ترامب بضرورة التراجع عما بدا إهانة مقصودة للملك، فبدأت أصوات تؤكد أهمية دور الملك والأردن الاستراتيجي وضرورة عدم العبث باستقرار الأردن، على الأقل حالياً، فالجميع يرى دوراً قد يختلف عما يفكّر فيه ترامب، إذ تُصاغ تصورات تضعها مراكز الأبحاث والدوائر المؤثرة في واشنطن، بأن يتولى الأردن دوراً في إدارة قطاع غزّة، وأن تضغط على السلطة الفلسطينية بإنهاء كل تنظيمات المقاومة المسلحة، أي أن يكون للأردن القرار الأمني في الضفة الغربية، حتى دون إرسال الجيش الأردني إلى الضفة الغربية، وهو ما يشرح، ولو جزئياً، "هبّة" دوائر القرار والإصرار على أن يتخذ ترامب خطوة يعبّر فيها عن احترامه الملك، لذلك قال في خطابه المسجل إن الملك من أهم القادة في العالم.

 

بغضّ النظر عن أهداف "حملة محاباة" الملك والأردن في واشنطن، ما جرى مؤشّر على أهمية المملكة وموقعها الاستراتيجي، ما يقوي موقفها، إذ لا بديل من السير في طريق حماية الأردن وصونه من مخططات التهجيرالإسرائيلية. فالسعي في واشنطن يهدف إلى الوصول إلى تطبيع إسرائيلي عربي تحالفي، ينهي القضية الفلسطينية، حتى لو اقتضى التهجير القسري للفلسطينيين من الضفة الغربية بخاصة، وتوريط الأردن في دور يهدّد استقراره وسيادته، لأن أولوية واشنطن حماية إسرائيل وضمان هيمنتها.

داخلياً، يجب تمتين الجبهة الداخلية بجدية، ويجب البدء بإطلاق سراح جميع موقوفي الرأي بغضّ النظر عن إنهاء مدة أحكامهم من عدمها، وإفساح المجال للفاعليات الحزبية والنقابية والوطنية للتعبير بمنتهى الحرية عن رأيها. وعلى الحكومة أن تُسكِت أصوات "كُتابٍ" وتلجم "الذباب الإلكتروني" المدعوم من أجنحة معينة من الدولة والكفّ عن التحريض على الفلسطينيين وكأنهم السبب في التهجير الإسرائيلي القسري للشعب الفلسطيني، ففلسطين والأردن معرّضان للخطر نفسه، العدو هو إسرائيل، ولا يغيّر لطف ترامب المفاجئ من دعم واشنطن إسرائيل.