لا تدافع عن النساء في الأردن

لم تكد تمضي بضعة أسابيع على استمتاعي بمقابلتي سيدة ملهمة من جنوب الأردن ساهمت، بشكل لافت، بدعم جهود تمكين النساء هناك، إلا وعاد الواقع يضرب في العاصمة عمّان، خبر، خبرين، ثلاثة، أربعة أخبار لجرائم متتالية ضد النساء خلال 25 يوما فقط من بدء العام الجديد. جريمتان مزدوجتان: واحدة انتهت بموت الأم وجنينها في أحشائها على يد شقيقها، والثانية قتلت فيها الأم وابنها المراهق الذي حاول الدفاع عنها بالوقوف بوجه رصاصة والده، فأسلما الروح معا.

فتاة ماركا، فتاة مستشفى الجامعة، والدة الرصيفة، ومسميات أخرى مختلفة، تتشابه بأنها جاذبة لمصّاصي دماء مواقع التواصل الإجتماعي الذين يتكاثرون في ظلمة أخبارها الكاذبة ووحل شائعاتها. تجذبهم قصص قتل النساء وغموض أسبابها، من دون التفكير بأنهن ربما كن ضحايا أشقاء مدمني مخدرات، أزواج رافضين دفع النفقة، آباء غاضبين لسبب أو آخر، أو مجتمع لا يطيق فكرة أن النساء يملكن عقولا بالفعل، قصص وأسباب عديدة كلها تبرّر حوادث القتل والعنف بأشكاله على النساء.

مهما اختلفت التبريرات والأسباب، يقفز إلى الأذهان، مباشرة وبلا وعي ومن دون أدنى تفكير، أن كل امرأة قتلت على يد ذكر من العائلة هي بالتأكيد ضحية جريمة بداعي الشرف (مصطلح يدعو نشطاء وناشطات بإلحاح إلى الكفّ عن استخدامه)، لأن قتل إمرأة لا يمتّ للشرف بصلة، ببساطة، والحاجة لإقرار قانون لتجريم العنف الأسري يمنع إفلات الجناة من العقاب، بحجة إسقاط العائلة للحق الشخصي، إذا كانت الضحية فتاة.

مجتمع لا يطيق فكرة أن النساء يملكن عقولا بالفعل، قصص وأسباب عديدة كلها تبرّر حوادث القتل والعنف بأشكاله على النساء.

ترزح فتيات ونساء تحت طبقات متتالية من العنف، كلما أزلنا طبقة انفجرت في وجوهنا أخرى؛ فإذا لم يسمح المجتمع بتزويج الفتاة، قاصرةً أو مرغمة، حرمها من حرية التنقل والاختيار. وإن سمح لها بالدراسة حرمها من العمل لاحقا، وإذا أجبرها على العمل حرمها من راتبها أو أجبرها على تحمل بيئة عملٍ مسيئة أحيانا. تفيد دراسة لمنظمة "أكشن إيد" أجريت في أكتوبر/ تشرين الأول 2020 بأن "أردنية من بين كل خمس عانت من أحد أشكال العنف في مكان العمل".

كل أنواع العنف مؤلمة، لكن العنف الاقتصادي أقساها. وفي الخلفية، تدفع منظمات دولية بأن أهم أدوات تمكين النساء اقتصادية، وتغفل عن حقيقة أن التمكين الاقتصادي، إن لم تحتضنه قناعة مجتمعية بحق، فإن خيار النساء في العمل سيتحول عبودية وانتهاكا، فالكدمات لا تظهر على وجوه النساء الكادحات، فلا حاجة لطلاء الوجه لإخفائها، ولا تنتهي حياة عاملةٍ بالقتل في حالات متطرّفة، ولا تحبس الموظفة بين جدران المنزل، بل على العكس تجبر على الخروج منه، وتشوّه روحها كدمات الحاجة، وتُغتال كرامتها بالتحرّش وراء جدران المصانع المتهالكة. وذلك كله من أجل مساهمتها في دخل الأسرة وتحسين دخلها، وتجنيب أفراد عائلتها الجوع، وفوق ذلك كله تُحرم من الميراث، وتمنع من التصرف بما تملك.

تؤكد الحكومة، بشكل احتفالي، في المناسبات الوطنية والدولية، مرارا وتكرارا، أنها داعمة لتمكين النساء وحمايتهن. وشرّعت للوصول إلى هذا الهدف قوانين (على الرغم من قصورها أحيانا)، ومنحت النساء كوتا في انتخابات المجالس المحلية والنيابية، لكن النساء خسرن خمس مقاعد نيابية في المجلس النيابي المنتخب في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وأربع حقائب وزارية في الحكومة الحالية.

خسرت النساء خمس مقاعد في المجلس النيابي المنتخب في نوفمبر، وأربع حقائب وزارية في الحكومة الحالية

لتراجع منجزات النساء في الأردن أسباب عدة، ولتزايد العنف الواقع عليهن أسباب أكثر، أهمها أن تلك الدعوات الرسمية ليست في مستوى عال من الجدّية لإيجاد أدوات دعم وحماية فاعلة، وأقلها جائحة كورونا التي ضيّقت الخناق على الفئات الضعيفة في المجتمع، وأكثرها ضعفا بالتأكيد نساء العائلة: الضحايا اللواتي حبسن مع الجناة خلف الأبواب المغلقة.

لا أظن أن هذا الواقع سيتغير بفكرة "الموروث الاجتماعي الأردني بتكويناته المتنوعة لم يكن يوما كارها للنساء". ولكن على الأقل كان من المريح سماع حديث صلفة أبو تايه عن رحلتها، واحدة من تسع أخوات انطلقن من البادية الجنوبية المعروفة بتزمتها ومحافظتها، ووصلن إلى درجات علمية عالية من جامعات أجنبية منتصف القرن الماضي، ومساهمتها بإنشاء أول قسم داخلي في مدرسة حكومية على مستوى المملكة للإناث، ضم سبعين طالبة من البادية في محافظة معان التي تتهم بشكل مبالغ فيه وخيالي أحيانا بالتطرّف. وهذه القصة مثال واحد على آلاف القصص التي سمعتها من أردنيات دعمتهن قبائلهن وأسرهن ليحققن إنجازاتٍ عجز رجال عن تحقيقها، وتم احتضانهن من بيئة داعمة وفخورة.

المستغرب والمحزن أن ما تم تحقيقه لا يتم البناء عليه، بل أصبحنا نعيش ردّة واضحة في مكانة النساء وموقعهن في الأردن، وزادت بظهور كراهية مجتمعية، خصوصا بين الأجيال الشابة على غير المتوقع، وتبرير العنف تجاههن وبشكل علني.

أصبحنا نعيش ردّة واضحة في مكانة النساء وموقعهن في الأردن، وزادت بظهور كراهية مجتمعية

ليس الإعلام بريئا بالكامل من دماء فتيات مراقة على صفحاته، كنا نعاني قبل "الإنترنت" من لون بعضه "الأصفر"، وننتقد عدم مراعاته معايير المهنية، وتحامله على النساء، وعدم استخدامه لغة مراعية أخلاقيات المهنة، وأنه في تغطياته يحمّل النساء، الضحايا، دائما عبء الجريمة، بعباراتٍ إيحائيةٍ تثير الشك، وتضرب عفة الضحية وأخلاقها. اليوم معاناتنا من انحياز الإعلام وتحامله باتت أعمق، إذ أصبح المحتوى، فوق كل ما ذكر، مرهونا بمزاج "إعلام السوشال ميديا" ومريديه، وأبطال "البث المباشر" .

يقول أحدهم: القصة أكبر من أخ عذّب أخته وضربها بعنف بأداة حادّة وقيدها بالجنازير وحبسها في حمام البيت، مانعا عنها الإسعاف، وضرب والدته لأنها تدخلت لنجدتها، وتسبّب بعرج لشقيقتها. ويعلن ببرود أنه يجب سماع الرواية الأخرى لذكور العائلة، وأن "هناك دائما تفاصيل مسكوتا عنها وحجة ليس كل ما يعرف يقال!!".

القصة فعلا أكبر من ذلك، التفاصيل تحمل كارثة بمؤشرات مرعبة، تنسف كل الجهود الداعمة للعدالة والمساواة في المجتمع، ورسائل مفخّخة مخفية لحجم الكراهية تجاه النساء، فضحها حجم التفاعل الاجتماعي المؤيد لضرب النساء والدعوات إلى قتلهن، والتحامل على كل من يدافع ويدعو لوقف سيل العنف الجارف تجاههن، فإن كانت مدافعة توصف بأنها "بلا أخلاق"، وإن كان مدافعا فهو "ديوث"، وإن كانت مؤسسة مجتمع مدني فهي تمارس الجاسوسية على البلد.

*العربي الجديد

أضف تعليقك