كيف يتحول المتدين إلى متعصب؟

كيف يتحول المتدين إلى متعصب؟
الرابط المختصر

التدين هو موقف وجداني وفكري من الحياة والعالم، يتعامل فيها المتدين مع الحياة والعالم من منظور ديني، ويرى أن الحياة، أو حياته على الأقل، لا تصلح إلا إذا طبق الدين وعاشه كما يجب، لذا يمتلك المتدين حساسية عالية تجاه دينه، ولا يقبل أن يمسه أحد بسوء أو أن يشكك أحد به.

 

يحترم المتدين لموقفه هذا، وخصوصاً إذا لم يكن مبنيًّا على النفاق بل على الصدق، ومبنيًّا على توحيد بين الظاهر والباطن، لا الانفصام بينهما. وهناك كثير من المتدينين الصادقين الجميلين المترفعين عن الدناءة والشرور والتعلق الرخيص بالمال أو بزهو حياة الدنيا، وكثير منهم يزهدون بالمظهر والمنظر ليقتربوا من الله بطاعتهم وعمل مرضاته.

 

إلا أنهم مغلقون على أفكارهم ومبادئهم ومعتقداتهم، لا يشكون لحظة بها ولا يراجعونها أو ينتقدونها أو يحاولون أن يمنطقوها على الأقل، ولا يقبلون من يقوم بهذا العمل بل يبتعدون عن أية حلقة أو جماعة تحاول أن تقوم بذلك؛ لذلك ينغلقون في مجموعة من المؤمنين بنفس المبادئ والقيم والعقائد التي توافقهم في أهوائهم ومشاربهم وطريقة حياتهم وعادة ما يكونون مستعدين للدفاع عن عقائدهم حتى بدمائهم.

 

الحساسية والصدق والانغلاق الفكري هي سمات المتدينين، وهذه الصفات هي مكمن القوة ومكمن الضعف في الآن نفسه في نفوس المتدينين، فهم أقوياء بجماعتهم وانتمائهم وصدقهم وحساسيتهم. وهم ضعفاء بجماعتهم (المغلقة) دون الآخرين وانتمائهم الفكري إلى عقيدة لا يقبلون فيها النقد أو حتى التطوير. أما صدقهم فيتحول إلى نقطة ضعف مكشوفة أمام أصحاب النوايا السيئة، وحساسيتهم هي مقتلهم الذي ينفذ منه المحرضون والمُجيشون إلى داخل نفوسهم وعقولهم.

 

ينتمي المحرضون والمجيشون وغاسلو أدمغة البشر إلى فئة أخرى غير فئة أصحاب المبادئ من المتدينين أنهم برغماتيون (عمليون) وأصحاب دهاء وحيلة وخبث وليسوا منغلقين على أنفسهم إنما عارفون بالطبيعة الإنسانية قادرون على التلاعب بها والتأثير بها كما يشاؤون.

 

يبدأ المحرضون والمجيشون عملهم على استفزاز حساسية المتدينين العالية ليجرحوها في صميمها بطريقة تجعل المتدينين يستفزون في عقيدتهم ومبادئهم وقيمهم وأخلاقهم. سمعت أحدهم يخطب بجماعة من المتدينين ويقول: "يطلبون منا أن نترك الغرب والصليبيين يعتدون على ديننا وقرآننا وعلى تراثنا ويهينون نبينا ويغتصبون نساءنا وأخواتنا وأمهاتنا".

 

لم يعين المجيش المحرض من هو الغرب بالتحديد؟ ولم يعين كيف يعتدى على ديننا أو نبينا أو على قرآننا؟ ولم يعين كيف سيغتصبون نساءنا وأخواتنا وأمهاتنا؟ ولم يسأله المستمعون كيف ومتى ولماذا ومن بالتحديد؟ فالخطاب استفزهم وجرحهم لأنه أصاب مقدساتهم وأهم قيمهم (الشرف) وأعز الناس إليهم، نساءهم وأمهاتهم وأخواتهم، وهكذا أغلقت جروح حساسيتهم الطريق أمام عقولهم ليفكروا بهذا الكلام ومعناه. وعندما يرى وقع كلامه عليهم هنا ينقض على ما تبقى من حكمتهم وتسامحهم وتدينهم ليقول لهم : هل أنتم جبناء؟ هل ستقفون مكتوفي الأيدي وترون بأم أعينكم ما سيحل بدينكم وبنسائكم وبأمهاتكم وهن يغتصبن أمام أعينكم؟

 

لم يكتفِ المحرض والمجيش بذلك، بل يأتي لهم بوقائع كان قد حرفها بدقة متناهية، ليثبت لهم أن ما يقوله صحيح، وكيف أن هناك قس غربي أمريكي قد مزّق القرآن مثلاً، وأن هناك جريدة فرنسية نشرت صوراً تسيء إلى النبي محمد إلخ من الوقائع الصحيحة إلا "وقائع فردية"، يستعملها كلها ليجعل سامعيه يظنون أن كل الأمريكيين، وكل الفرنسين وكل الدنماركيين هم كذلك، وكل الغرب من ألفه إلى يائه يفكر ويقوم بهذه الأعمال في كل يوم وفي كل ساعة، وأن ليس للغرب من همّ إلا الهجوم على الدين، ودينهم بالذات.

 

بعدها ينتقل المحرض أو المجيش إلى خطوته العملية التالية وخصوصًا إذا كان الهدف قريبًا وقريبًا جدًا منه، يحرضهم مثلًا للاعتداء على باص للسواح الأجانب الذي يمر ببلدتهم أمام أنوفهم وعيونهم، أو مهاجمة جماعة من الغربيين تعمل في شركة أو مصنع قريب، أو انتداب أحدهم (أحد الموجودين) لقتل من يؤيد هؤلاء أو يدافع عنهم حتى ولو بقلمه، وسيكون القاتل شهيداً وبطلاً لدينه، إمام المؤمنين الذين ينتدبونه للعمل باسمهم.

 

هكذا استطاع المجيش والمحرض السيطرة على عقل المتدينين ومن ثم تحويلهم إلى متعصبين وإلى قاتلين في مدة بسيطة من الزمن باللعب على ثلاثة أوتار: الحساسية الدينية العالية لدى المتدينين، انغلاقهم الفكري والحياتي الذي لم يجعلهم يميزون بين الفعل وردالفعل الصحيح، وصدقههم الذي جعلهم يظنون أن المحرض صادق في سعيه للدفاع عن الدين والشرف والقيم.

 

تحولت الصفات الثلاثة الجميلة في نفوس المتدينين إلى صفات قبيحة على يد محرض مأجور، أما الفئة الأخطر والأكثر تعصبًا فهي فئة "المهتدين التائبين"، أي تلك الفئة التي مرت من الانفلات الكامل إلى فئة التعصب الكامل، أو من مرتكبي المعاصي والشرور إلى التوبة والتكفير عنها. فعلماء النفس يقولون أن التغير الفجائي والانتقال من طرف إلى طرف آخر دون تمهيد هو نوع من الاختلال النفسي والعقلي, ويعرف المجيشون والمحرضون هذه الفئة حق المعرفة لذا يتلاعبون بها ويصورون لها الحالة الجديدة التي عليهم أن ينتقلوا إليها كحالة طوباوية كاملة، ما عليهم إلا أن يعبروا الخط الفاصل ويقولون "إن الله هادهم"، حتى يمروا إلى الطرف الآخر، ويعرف المحرضون نقطة الضعف النفسي لدى هؤلاء ويلعبون بها وعليها حتى يقنعوهم بأن حالتهم الجديدة تلبي طلبهم النفسي, فإذا كان هناك شخص مكبوتًا جنسيًا وعدوه بالنساء وبإشباع رغباته كاملة في الحياة الآخرى (في الجنة)، وإذا كان فقيرًا معدمًا وعدوه بالخيرات العميمة وبالطعام الوفير، وإذا كان هناك شخص من مرتكبي المعاصي والشرور، طالبوه بأن يعوض عنها بطريقة جديدة، مثلًا بأن يدفع حياته أو دمه للتكفير عن ذنوبه ومعاصيه السابقة قبل موته أو قبل وصوله إلى الحياة الأخرى.

 

نلاحظ التدرج والتطور في زرع القناعات الجديدة التي تتم من خلال منظومة دينية وفكرية وجماعية جديدة، تحتضن هؤلاء الوافدين الجدد وتهيئهم لدورهم المستقبلي، وتتكلم تلك الجماعة بنفس اللغة ويقومون بممارسة نفس الطقوس بحرفية عالية، ويتناوبون على "المهتدي" أو "المرتد" أو "التائب" ليثبتوا قناعاته الجديدة، والتائب يحس بضعفه الفردي وبحاجته إلى الانتماء إلى الجماعة الجديدة التي تتمهل في دمجه دمجاً كاملاً وتطالبه بإعطاء البرهان تلو الأخر لإثبات حسن نيته وعزمه الأكيد على الانتماء إليها وعدم تخليه عن مبادئها، في الوقت عينه يفصل المهتدي أو التائب عن جماعته السابقة وحتى عن أصدقائه وأهله وعن العالم الخارجي، فتصبح تلك الجماعة وطقوسها وشعائرها وأفكارها هي عالمه ودنياه والتي يريد أن ينتمي إليها بكل جوارحه حتى لو دفع حياته ثمنًا لهذا الانتماء.

 

تسمى بعض هذه الدوافع في علم النفس بالدوافع النفسية، حيث يشعر الفرد أن كل حياته وعالمه ومكبوتاته يجب أن تفرغ في مسألة واحدة يتكالب عليها ويركز فيها كل مكبوتاته النفسية، لتتحول إلى مركز اهتمامه العقلي والنفسي.

 

فإذا كانت الأيديولوجية هي وليدة فكر معين في زمن وواقع معين فإن من يتبناها ويندمج بها يتماهي معها حتى النهاية، هكذا يصبح الدين بالنسبة للمتدين الذي قفز فوق الخط الفاصل ما بين التدين والتعصب، فأصبح متعصباً عقليًا مضافًا تعصبه النفسي الذي يجعله أسيرًا هذا التعصب ولا يرى العالم إلا من خلال نظاراته الجديدة هذه.

 

ليس الدين في حقيقته أيديولوجيًا، مع أن الجزء العقائدي منه ينتمي إلى الأيديولوجيا، إلا أن الخوف في أن يفقد الإنسان المتدين انتماءه إلى الحياة لينتمي فقط إلى الدين الذي يصبح ملجأ لعقله ولقلبه ولنفسه، ولا يرى شيئًا آخر إلا هو وتلك الجماعة التي ينتمي إليها.

 

*عضو الجمعية الفلسفية الأردنية وأستاذ الفلسفة في الجامعة الأردنية حاصل على دكتوراه في اللاهوت من جامعة اللاتران بإيطاليا، دكتوراه في الفلسفة من جامعة كليرمونت في كاليفورنيا دكتوراه في الفلسفة من جامعة الكسليك في لبنان.

أضف تعليقك