كيف نقرأ نتائج الانتخابات النيابية 2024؟

الرابط المختصر
  • شهدت الانتخابات النيابية 2024 مفاجآت ثقيلة تمثّلت بعدد المقاعد التي حصدته جبهة العمل الإسلامي على مستوى القائمتين الوطنية والمحلية. والنتائج المتواضعة للأحزاب السياسية، بخاصة التي كانت التوقعات تذهب إلى أن تأخذ عددًا أكبر وتكون ندًّا للإسلاميين. أما الثالثة، فهي مستوى شفافية ومصداقية في الانتخابات يذكرنا بما حدث في العام 1989، بعكس التصورات أو الدعايات التي كان يروج لها كثيرون.     

 

  • ما حدث هو انتصار حقيقي وكبير ومؤازر للدولة بمؤسساتها السياسية والأمنية، بلا مبالغة، لأنّ النتيجة الأكثر أهمية استعادة وعودة المصداقية للعملية السياسية وشرعيتها، وهي نقطة تحول من الضروري أن نبني عليها.

  • هنالك فرصة اليوم لكل من مطبخ القرار والحكم والمعارضة للوصول إلى تفاهمات حول المرحلة القادمة، وشروط وإطار الانتقال الديمقراطي.

 

  • الانتقال أو التحول الديمقراطي عملية تأخذ مدى زمنيًّا ولها شروط، وأهم شروطها الوحدة الوطنية، كشرط مسبق، ثم وجود تفاهمات وحوارات لتكريس قواعد جديدة للعبة السياسية خلال المرحلة الانتقالية وهو مهم جدًّا أيضًا.

 

  • نفسّر فوز الإخوان المسلمين عبر ثلاث فرضيات رئيسية؛ الأولى، “تأثير غزة” Gaza Effect، وهو أمر جدلي كان في أوساط النخبة السياسية، وذهبت العديد من التوقعات إلى أنّها لن تنعكس بقوة، بل ستكون هنالك حالة من العزوف داخل المدن الكبرى، وهي توقعات لم تنجح ولم تفشل بالكلية. الثانية، أنّ التصويت للإخوان هو نتيجة طبيعية لتراكم أزمة الثقة بين الحكومات والشارع، تلك الحفرة من الانهدام التي تشكلت خلال الأعوام الماضية، وكانت حالة من اللامبالاة في أوساط رسمية تجاهها. الفرضية الثالثة، أنّ الأحزاب البرامجية في العالم الثالث لا تعمل بصورة آلية، بخاصة في مرحلة مبكرة من الانتقال والتحول الديمقراطي، ففي البداية من المنطقي أن تسود الأحزاب أو الأفكار الأيديولوجية، لكن بعد أن يرى الناس النتائج والفروق بين التنظير والواقع يبدأون بالبحث عن الأحزاب البرامجية.

 

  • من الظلم محاكمة التجربة الحزبية بالفشل، بل أزعم أنّ التجربة نجحت في خطوتها الأولى على أكثر من صعيد؛ فقد أكدت التجربة أنه لا توجد هنالك “هندسة انتخابية” وعلى الأحزاب أن تعتمد على نفسها، لذلك ستنعكس النتائج بصورة فاعلة على الحراك الحزبي في المرحلة القادمة وتغربله بدرجة كبيرة وتصحح الاتجاه نحو المسار الصحيح.

 

  • ما حققته الأحزاب الجديدة، بخاصة التي اجتازت العتبة، وبخاصة حزب الميثاق وإرادة وتقدم والوطني الإسلامي وعزم والاتحاد والعمال ونماء والعمل، لا يستهان به، فالوصول إلى قواعد شعبية تكاد تصل إلى (مئة ألف) بالنسبة للميثاق مهم، خلال شهور معدودة، وضمن ظروف الحرب على غزة والتشكيك في اللعبة السياسية، والتنافس مع الأحزاب السياسية الأخرى على القاعدة الاجتماعية نفسها، بل الضروري البناء عليها بصورة فاعلة.

 

  • من المهم أن تكون الانتخابات بداية جديدة لمرحلة قادمة أكثر زخمًا في التحول الديمقراطي، وهذا يستدعي قدرًا كبيرًا من المرونة من مؤسسات القرار من جهة والمعارضة السياسية من جهةٍ أخرى.

 

  • الكرة في ملعب جبهة العمل الإسلامي اليوم، فيما إذا كانت ستعزز الرأي داخل مؤسسات القرار الذي يدفع نحو التقدم والتوغل أكثر في المسار الديمقراطي، من خلال طروحات عقلانية واقعية من قبل الجبهة، والابتعاد عن منطق المناكفة واللعبة الصفرية، أو النشوة بالانتصار التي لم تجر على الإسلاميين في العالم العربي إلاّ كوارث كبيرة، ثم أدت إلى تدهور المسار الديمقراطي بصورة كبيرة.

شهدت الانتخابات النيابية 2024 في الأردن مفاجآت ثقيلة تمثّلت بعدد المقاعد الذي حصدته جبهة العمل الإسلامي (الذراع السياسي لحركة الإخوان المسلمين) على مستوى القائمة الوطنية أولًا، إذ قاربت نصف مليون صوت على القائمة الحزبية الوطنية، وثانيًا على المستوى المحلي. والمفاجأة الثانية الأثقل، هي النتائج المتواضعة للأحزاب السياسية، بخاصة تلك التي كانت التوقعات تذهب إلى أن تأخذ عددًا أكبر وتكون ندًّا للإسلاميين، مقارنة بحجم الدعم والتأييد الذي تلقته تلك الأحزاب من مؤسسات الحكم. والمفاجأة الثالثة، هي أنّنا نتحدث عن مستوى شفافية ومصداقية في الانتخابات يذكرنا بما حدث في العام 1989، بعكس التصورات أو الدعايات التي كان يروج لها كثيرون. 

النتائج مهمة، لكن الأهم كيف سيقرأ مطبخ القرار النتائج في سياق الظروف الإقليمية والداخلية والدولية؟! وهنا تكمن جملة مهمة من الأسئلة والتساؤلات التي من الضروري طرحها اليوم بمستوى من التبصّر والتعمق أعلى من القراءة التقليدية أو السطحية التي لا ترى الأمور إلاّ بمستوى محدود وجزئي، فاتجاه القراءة هو الذي سيؤطر بدرجة كبيرة سيناريوهات المرحلة القادمة!

من الفائزون ومن الخاسرون؟ ما هي دلالات فوز الإسلاميين؟ ما هي دلالات نتائج الأحزاب السياسية الأخرى، بخاصة أحزاب الميثاق وإرادة والوطني الإسلامي وتقدم وعزم؟ ما هي التداعيات السياسية وشكل الحياة البرلمانية والحزبية القادم بناءً على النتائج الحالية؟ 

دعونا نذهب مباشرةً إلى الدلالات التي ستنبثق منها معالم المرحلة القادمة، والدلالات تحدد بمنهجية القراءة، وهذه المنهجية التي أنصح بها..

أولًا- على صعيد التحديث السياسي ومآلات التحول الديمقراطي

ما حدث هو انتصار حقيقي وكبير ومؤازر للدولة بمؤسساتها السياسية والأمنية، بلا مبالغة، لأنّ النتيجة الأكثر أهمية استعادة وعودة المصداقية للعملية السياسية وشرعيتها، بعدما حدثت فجوة كبيرة في الثقة والمصداقية خلال الأعوام السابقة، وهي نقطة تحول من الضروري أن نبني عليها، فحجم مشاركة المعارضة غطى على محدودية المشاركة السياسية، وأكّد على أنّ من كان يشكك في نزاهة الانتخابات ومصداقية الدولة وبحجم الرهان الذي يضعه الملك شخصيًّا على مشروع التحديث هو خاطئ؛ والدليل على ذلك انتخابات نزيهة ونتائج قوية للمعارضة السياسية. 

بعد انتخابات العام 1989 تفاجأ السياسيون بالنتائج بصورة كبيرة، وقال بعض رجال الدولة الكبار “هذا المجلس مش ابن عيشة”، وضغطت بعض دول المنطقة للتراجع عن التجربة، ولو استكملت تلك التجربة وأخذت المدى الزمني والمرحلي المطلوب للنضوج والاكتمال والاستقرار لكنّا اليوم دولة ذات ديمقراطية راسخة، ولانتقلنا من مرحلة المد والجزر التاريخية إلى ترسيخ قواعد وأصول جديدة للعبة، تلك الفرصة ذهبت، بخاصة بعد الميثاق الوطني 1990-1991، لكنها اليوم تعود بقوة مع مئوية الدولة ومع الاحتفال باليوبيل الفضي لعيد الجلوس الملكي، وهنالك فرصة اليوم لكل من مطبخ القرار والحكم والمعارضة للوصول إلى تفاهمات حول المرحلة القادمة، وشروط وإطار الانتقال الديمقراطي. 

بالضرورة سيكون هنالك متخوفون ومتشككون في اكتمال التجربة، ومن يدفع للعودة إلى وراء وإلى خطورة مثل هذه النتائج في هذه المرحلة الدقيقة في تاريخ المنطقة، لكن -في المقابل- فإنّ المرحلة الدقيقة نفسها واللحظة التاريخية الراهنة ومواجهة المشروع الصهيوني اليميني والضغوط الأميركية على الأردن، في حال فاز دونالد ترامب، ذلك كلّه يدفع إلى استكمال التجربة وبناء جبهة داخلية متماسكة وقوية وتفاهمات بين الشارع والمؤسسات السياسية، وهذه فرصة من الضروري أن نعطيها مداها الزمني، وأن تكون تجربة لمحاولة استكمال الطريق إلى المستقبل نحو الديمقراطية. 

الانتقال أو التحول الديمقراطي عملية تأخذ مدى زمنيًّا ولها شروط، وأهم شروطها الوحدة الوطنية (كما قال دنكوارت روستو) كشرط مسبق، ثم وجود تفاهمات وحوارات لتكريس قواعد جديدة للعبة السياسية خلال المرحلة الانتقالية وهو مهم جدًّا أيضًا، وهو الأمر الذي يمثل تحديًا في حالة مثل الأردن تشكل العديد من المحددات دافعًا مستمرًا خلال التجربة التاريخية السابقة للعودة إلى وراء، ومن أبرز هذه المحددات الجغرافيا السياسية والموقع الصعب للأردن بما يمليه من قيود على اللعبة السياسية، بخاصة ما يتعلق بالمعادلة الخارجية.. 

إذن، لا داعي لأي قلق أو تخويف مسبق، وحجم وجود المعارضة الإسلامية ما يزال محدودًا أمام وجود أغلبية مؤيدة للسياسات القائمة، وكل ما في الأمر أنّ اللعبة السياسية ومشروع التحديث أخذ جرعة كبيرة من الثقة والمصداقية والقوة، لم يكن ليحصل عليها لو كان هنالك أي تدخل أو شكوك في نتائج الانتخابات.

ثانياً- على صعيد نتائج جبهة العمل الإسلامي

قد أزعم أن العديد من قيادات جبهة العمل الإسلامي لم يكونوا يتوقعون هذه النتائج بهذا الحجم، بالرغم من أنّ حملتهم الانتخابية كانت ناجحة جدًا (كما سنقدم لاحقًا في دراسة يعمل عليها معهد السياسة والمجتمع)؛ إذ ركزت الحملة على القضايا الرئيسية التي تحافظ على قاعدتها الاجتماعية من ناحية، وعلى استقطاب من هم جمهور محتمل وممكن لهم، فكانت القضية الفلسطينية والحرب على غزة جزءًا أساسيًّا من حملتهم الإعلامية والدعائية، وقضية الهوية الإسلامية في المجتمع والأسرة والحفاظ عليها، وقضية التطبيع وما يتعلق بـ(الجسر البري)، وربما ساهمت عملية ماهر الجازي (على معبر الكرامة قبل يومين من الانتخابات) في تقوية حملتهم الانتخابية، بخاصة أنهم وظفوها أيضًا في الدعاية السياسية.

نفسّر فوز الإخوان المسلمين عبر ثلاث فرضيات رئيسية؛ الفرضية الأولى، “تأثير غزة” Gaza Effect، وهو أمر جدلي كان في أوساط النخبة السياسية، فيما إذا كانت شعبية حماس الجارفة في الشارع الأردني ستنعكس داخل صناديق الاقتراع، أم لا؟ وذهبت العديد من التوقعات إلى أنّها لن تنعكس بقوة، بل ستكون هنالك حالة من العزوف داخل المدن الكبرى، وهي توقعات لم تنجح ولم تفشل بالكلية، إذ بقيت حالة من العزوف، لكن الصوت الأردني-من أصول فلسطينية على مستوى القائمة العامة اختار عمومًا أحد أمرين؛ إما الإسلاميين أو المقاطعة، ولم تنجح الأحزاب السياسية الجديدة بإحداث اختراق يُذكر على صعيد القائمة الوطنية، فالرسالة واضحة جدًّا كانت في هذا السياق. 

الفرضية الثانية، أنّ التصويت للإخوان هو نتيجة طبيعية لتراكم أزمة الثقة بين الحكومات والشارع، تلك الحفرة من الانهدام التي تشكلت خلال الأعوام الماضية، وكانت حالة من اللامبالاة في أوساط رسمية تجاهها وكأنّها أمر طبيعي أو غير مهم، لكنها أمر مهم فعلًا في حالة مثل  الأردن، دولة تواجه تحديات مستمرة وقوية داخليًّا وخارجيًّا، فمن الضروري أن تكون هنالك قواعد مستقرة توافقية للعبة السياسية، والطريقة الوحيدة لذلك هي الديمقراطية الانتخابية التنافسية.

الفرضية الثالثة، أنّ الأحزاب البرامجية في العالم الثالث لا تعمل بصورة آلية، بخاصة في مرحلة مبكرة من الانتقال والتحول الديمقراطي، ففي البداية من المنطقي أن تسود الأحزاب أو الأفكار الأيديولوجية، لكن بعد أن يرى الناس النتائج والفروق بين التنظير والواقع يبدأون بالبحث عن الأحزاب البرامجية، وفي دولة مثل الأردن بهذا المحيط الإقليمي المضطرب الخطير وهذه الديناميكيات المتصلة بالهوية وأسئلة الدين والجغرافيا والقضية الفلسطينية فليس من الممكن أن نستبعد أو نحجّم أهمية الخطاب الأيديولوجي بخاصة الديني. 

ثالثًا- على صعيد الأحزاب السياسية الأخرى

من الظلم محاكمة التجربة الحزبية بالفشل، بل أزعم أنّ التجربة نجحت في خطوتها الأولى على أكثر من صعيد؛ فقد أكدت التجربة أنه لا توجد هنالك “هندسة انتخابية” وعلى الأحزاب أن تعتمد على نفسها، لا على “مساعدة صديق”، وأنّه ما حك جلدك مثل ظفرك، لذلك ستنعكس النتائج بصورة فاعلة على الحراك الحزبي في المرحلة القادمة وتغربله بدرجة كبيرة وتصحح الاتجاه نحو المسار الصحيح.

من زاوية أخرى ما حققته الأحزاب الجديدة، بخاصة التي اجتازت العتبة، وبخاصة حزب الميثاق وإرادة وتقدم والوطني الإسلامي وعزم والاتحاد والعمال ونماء والعمل، لا يستهان به، فالوصول إلى قواعد شعبية تكاد تصل إلى (مئة ألف) بالنسبة للميثاق مهم، خلال شهور معدودة، وضمن ظروف الحرب على غزة والتشكيك في اللعبة السياسية، والتنافس مع الأحزاب السياسية الأخرى على القاعدة الاجتماعية نفسها، فهذا إنجاز مهم، ويعطي هذه الأحزاب قاعدة شعبية من الممكن بل الضروري البناء عليها بصورة فاعلة.

ولقد تميزت حملة العديد من الأحزاب السياسية بالنجاعة، مثل الميثاق وإرادة والديمقراطي الاجتماعي (الذي لم يحقق الفوز) واختلف المشهد الانتخابي بصورة كبيرة عن التجارب السابقة، وهذا أمر يمكن الاستفادة منه والبناء عليه في المرحلة القادمة، من زاوية نظر التحول الديمقراطي ونظرياته وعلم الأحزاب السياسية فإنّ هذه الأحزاب السياسية لم تفشل بل حققت نجاحًا مقبولًا قويًّا، يمكن البناء عليه مستقبلًا، من خلال خطط واقعية والاعتماد على الذات والتعلم من الأخطاء.

أما الأحزاب اليسارية عمومًا، تحالف النهوض، وقائمة طريقنا والتيار الديمقراطي، فإنّ النتيجة – من زاوية واقعية- كانت متوقعة، ربما حاولت الأحزاب بصورة جدية إحداث تغيير في حملتها الانتخابية واجتهدت وعملت الكثير، لكن الواقع أقوى منها؛ فالتحول الاجتماعي- الثقافي كان هو المتغير الأكثر أهمية. لذلك فإنّ هذه الأحزاب بخاصة التيار الديمقراطي عليه أن يعيد بناء حساباته في خطابه الفكري ورؤيته الإصلاحية وكيفية إعادة الاشتباك مع الشارع من خلال مراجعات أيديولوجية أو فكرية في الحدّ الأدنى.

ثم ماذا بعد؟!

من المهم أن تكون الانتخابات بداية جديدة لمرحلة قادمة أكثر زخمًا في التحول الديمقراطي، وهذا يستدعي قدرًا كبيرًا من المرونة من مؤسسات القرار من جهة والمعارضة السياسية من جهةٍ أخرى، الكرة في ملعب جبهة العمل الإسلامي اليوم، فيما إذا كانت ستعزز الرأي داخل مؤسسات القرار الذي يدفع نحو التقدم والتوغل أكثر في المسار الديمقراطي، من خلال طروحات عقلانية واقعية من قبل الجبهة، والابتعاد عن منطق المناكفة واللعبة الصفرية، أو النشوة بالانتصار التي لم تجر على الإسلاميين في العالم العربي إلاّ كوارث كبيرة، ثم أدت إلى تدهور المسار الديمقراطي بصورة كبيرة.

وعلى مؤسسات القرار أن تعطي الفرصة كاملة لهذه التجربة وأن تترك الباب مواربًا أمام تفاهمات ليس مع الإسلاميين بالضرورة، بل مع القوى والأحزاب السياسية في المجلس القادم عمومًا، وأن نتخلى عن مخاوفنا وعن التهويل من حجم الانتصار، بل محاولة توظيف ذلك لتعزيز قدرات النظام الرمزية والتنظيمية في مواجهة الاستحقاقات الداخلية والخارجية..