كولومبوس بين محمود درويش وسوزان ساراندون

"... لَنْ يَفْهَمَ السّيّدُ الأبْيضُ الْكلماتِ الْعَتِيقَةْ/ هُنا، في النّفوس الطّليقةِ بيْن السّماء وبيْنَ الشّجر"... محمود درويش، من قصيدة "خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة...".

في خطوةٍ شجاعةٍ، تحدّت الممثلة الأميركية، سوزان ساراندون، أسطورة قيام أميركا والكيان الصهيوني في آن واحد، متبنيةً خرائط من إعداد مجموعة "أصوات يهودية من أجل السلام"، تفضح غزو الاستعمار الأوروبي الأبيض وجرائمه وعمليات التطهير العرقي التي بُنيت على أشلاء أبناء السُّكان الأصليين والفلسطينيين، وإن اختلف المكان والزمان، الإمبراطورية الأميركية والدولة الاستيطانية الإحلالية الإسرائيلية، في مقاربةٍ ليست جديدة، لكنّ النجمة الحائزة جائزة أوسكار أقحمت المقاربة عنوةً في حيز الفضاء المحفوظ للسرديات الرسمية.

كان التوقيت في غاية الأهمية؛ فقد وزّعت بطلة "ثيلما ولويز" الرسوم في يوم الاحتفاء بكريستوفر كولومبوس، المستكشف الإيطالي الذي ضلّ الطريق في رحلته عبر المحيط، وظنّ أنه وصل إلى الهند، وأطلق على السكان الذين دمّرت قواته ومجموعة المبشّرين المسيحيين حياتهم "الهنود". وكانت المجازر المتتالية التي أدّت، مع صعود دولة "البيض" في أميركا، إلى حشرهم في بقع جغرافية محدّدة، ثم تم سنّ قوانين تحدّ من حقوقهم بموارد أرضهم الطبيعية. لكن تطورا مهما حدث العام الحالي (2021)؛ إذ لأول مرة بدأ إحياء ذكرى موازية تحت عنوان "يوم السكان الأصليين"، وهو عنوان يرفض الاحتفال الرسمي بذكرى أليمة ويضع أميركا أمام خطيئتها الأصلية. وللتوقيت بعد آخر؛ إذ جاءت المقاربة والمقارنة امتداداً لهبّة مايو/ أيار الفلسطينية، والتي تحدّت الأسطورة الصهيونية والرواية التي يريد العالم فرضها على الفلسطينيين، حين رفع الفلسطينيون في كل أنحاء فلسطين التاريخية شعاري "نحن أهل الأرض الأصليون وأنتم الدخلاء" و"فلسطين من البحر إلى النهر"، إذ جوهر القضيتين، وإن اختلفت التطورات التاريخية، محاولة إبادة شعبين باسم نشر الحضارة، فقد كانت حجّة التبشيريين والقوات التي أغرقت الأرض بدماء سكان أميركا الأصليين هي "جلب الحضارة إلى الغرب المتوحش" والقصد هنا الزحف المسلح من شرق أميركا إلى غربها، وهي مقولة ردّدها مؤسس الصهيونية، ثيودور هيرتزل: إن الهدف من إقامة وطن يهودي لليهود في فلسطين إنشاء ثكنة متقدّمة للدفاع عن "الحضارة الأوروبية" في وجه التوحش.

لخّصت الخرائط التي أعدتها مجموعة "يهود من أجل السلام" الحكاية المشتركة في جذورها الاستعمارية العنصرية

لخّصت الخرائط التي أعدتها مجموعة "يهود من أجل السلام" الحكاية المشتركة في جذورها الاستعمارية العنصرية، فبدت الخرائط الحالية لفلسطين وأميركا متماثلةً في تقليص مساحة وجود الفلسطينيين وحصره ومحاصرته في تجمّعات سكانية (سمّيت أميركياً المحمّيات). وفي فلسطين قرى ومدن تنكمش يوميا مع تمدّد الاستيطان اليهودي الصهيوني. وليست هذه المجموعة جديدة، بل بدأت بحركة معارضة للاحتلال الصهيوني، ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل شاركت في حركة التضامن الدولية، وقدّم أفرادها أنفسهم دروعا بشريا لحماية الفلسطينيين من الجيش الإسرائيلي خلال الانتفاضة الثانية. وأصبحت المجموعة أوضح في مواقفها ضد المشروع الصهيوني في السنوات الأخيرة، وتجرّأت وقدّمت مقاربة محظورة بشأن قضية فلسطين، اشتهرت ووزعت بفضل المعارضة للسياسة الأميركية والمؤيدة لحقوق الفلسطينيين، سوزان ساراندون.

"يوم كولومبوس" ما هو إلا احتفال مشين بنكبة الأجداد تعرّي بشاعة الخرائط التي رسمها كولومبوس والصهاينة بدم السكان الأصليين والفلسطينيين

كانت المقاربة الموجعة حاضرة دائما في تاريخ الوعي الثوري الفلسطيني، ودخلت إلى أعماق الشاعر محمود درويش، فكتب قصيدته الشهيرة "خطبة الهندي ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض"، متأثرا بكلمةٍ تغصّ بالألم النابع من التصاق السكان الأصليين بالجذور، ألقاها زعيم قبيلة الدواميش، سياتل، عام 1854 معلنا استسلام شعبه، لكنه تحدّى قدرة الرجل الأبيض المستعمر على حب الأرض والهواء والشجر، إلا إذا توقف عن محاولة تطويعها وتدميرها، فخاطب الزعيم شعبه قائلاً: "لا يترك هذا الرجل الأبيض حيث يحلّ ويرحل شبرا من أرض من دون ضجيج. لم يبق لديه مكان لسماع حفيف الأوراق وتفتحها في الربيع، أو لسماع طنين أجنحة الحشرات. لكن لربما أنني متوحّش، لا أفهم أنّ الضوضاء تصم الأذنين. وما يتبقى للحياة حين يعجز الإنسان عن سماع صرخة طائر السبد، أو يصغي في أعماق الليل لنقاش الضفادع حول البركة. لكن لربما أنني إنسان أحمر، لا أفهم".

تأثر ابن بلدة البروة في فلسطين، الذي اقتلع من بيته ومدرسته بخطبة الزعيم الذي أُجبِر على الاستسلام، وأبى أن يدع الرجل الأبيض يعتقد أن ملكية الأرض بالسلاح والأموال تجعله ابن هذه الأرض، فأكمل محمود درويش خطبة الزعيم قائلا في تماه روحي يتجاوز الجغرافيا والزمان: "مِنْ حقّ كولومبوس الْحُرّ أن يَجدَ الهنْد في أيّ بَحْرٍ/ ومَنْ حقّه أن يُسمّي أَشْباحَنا فُلفُلاً أوْ هُنودا/ وفي وُسْعهِ أَنْ يكسّر بوْصلةَ الْبحْر كي تَسْتقيم/ لكنه لا يصدق أن البشر سَواسِيّةٌ كالْهَوَاء/ وكَالْمَاء خَارِجَ مَمْلَكَةِ الْخَارِطَة". وجاء يوم في عام 2021 لتلاق رمزيٍّ غير مخطّط له، ولمقاومة متجدّدة لنشطاء من السكان الأصليين، تذكّر العالم بحقيقة أن "يوم كولومبوس" ما هو إلا احتفال مشين بنكبة أجدادهم تعرّي بشاعة الخرائط التي رسمها كولومبوس والصهاينة بدم السكان الأصليين والفلسطينيين، وللتذكير بسواسية البشر خارج مملكة "الخرائط".

هناك من لن يفهم درويش وخطبة سياتل، ولا مقاومة الشعب الفلسطيني وعملية الإبادة بحق السكان الأميركيين الأصليين

رمزية نشر الخرائط وتوزيعها جنباً إلى جنب، بعدما عمّمتها ساراندون في الفضاء الافتراضي الواسع، ليست مجرّد ضربة إعلامية ذكية، بل إنها صدمة كانت ضرورية للوعي الأميركي "المدجّن"، في أساطير نشر الحضارة عبر الحروب و"نشر الديمقراطية"، وعن حماية حليف يتشارك في معتقداته الأخلاقية والروحية مع فكرة أميركا وسياستها، لكن التشابه، كما فضحته خرائط المساحات المتقلّصة لسجون الشعب الفلسطيني وسجون السكان الأصليين، وإن كانت في الهواء الطلق، يفضح زيف المفاهيم "الأخلاقية والروحية" التي تجمع بين الإمبراطورية الأميركية والمشروع الاستيطاني الصهيوني، فكل منهما متجذّر بالتفوق العنصري، ليسعفها الإيمان بهذا التفوّق الزائف في اقتلاع شعوب وحصارها وهي على أرضها.

الفلسطيني، كما الساكن الأصلي، يعرف كل طائر وشجرة ونبتة وحركة غيم في بلاده، ويحفظها ويحافظ عليها في الذاكرة. ابتلي السكان الأصليون في أميركا بسيطرة أقوى إمبراطورية في التاريخ، لكنّ الإمبراطوريات، كما علّمنا التاريخ، تنتهي، كما حذّر زعيمهم في خطبة سياتل أنّ الرجل الأبيض لن "يفلت من يد المصير". وفي النهاية يقول، وأقتبس من خاتمة الخطبة البالغة الذكاء "لعلّنا إخوان".

لكنّ هناك من لن يفهم درويش وخطبة سياتل، ولا مقاومة الشعب الفلسطيني وعملية الإبادة التي ارتكبت بحق السكان الأصليين في أميركا. ولن يفهم شجاعة الجميلة ساراندون. أتحدّث عن العرب الممعنين في التطبيع مع العدو الصهيوني، عن السقوط الأخلاقي، عمّن لا يفهم لغة العصافير والأرض والشجر، عمّن يتواطأ بالجريمة باسم "الحضارة". لكن سيأتي يوم يلفظكم المستعمر ويرميكم الصهيوني. تأتي الأصوات من أميركا تفضح الجريمة، وأنتم تتنافسون بالتغطية عليها، فلا سبيل إلا مقاومة التطبيع وبجرأة وصراحة. ومن دون ذلك، نصبح جميعنا متواطئين في فرض دكتاتورية الخرائط.

*العربي الجديد

أضف تعليقك