قرى أطراف العاصمة تغفو على حلم " وردي" مؤجل

 "قبل سنتين كان حلمي أكمل تعليمي وأصبح معلمة رياضيات، هسا أنا خلص راح علي التعليم"  بهذه الكلمات عبرت غزل  ذات العشرين ربيعًا عن حزنها، وهي تستذكر سنوات مضت لم تتمكن خلالها من استكمال التعليم الثانوي؛ لعدم توفر شعب دراسية في مناطق قريبة من قريتها "دليلة" الواقعة في لواء الجيزة

حصلت غزل نهاية الصف العاشر على معدل 85 في المائة ، وكانت تحلم بالالتحاق بإحدى الجامعات بعد أن تنهي دارستها الثانوية، إلا أنها لم تتمكن من إكمال تعليمها لعدم وجود شعب ثانوية مدرسة في القرية. 

كان غياب المواصلات العقبة الثانية التي واجهت غزل، إذ لا خيار سوى الالتحاق بمدرسة نتل  الثانوية للبنات التي تبعد  أكثر من أربعة كيلومترات عن القرية.

تقع قرية دليلة المطيرات في أطراف محافظة العاصمة وتتبع إداريًّا  لواء الجيزة  الممتد علـى مساحة تقدر بثلث مساحة العاصمة  عمّان.

يضم اللواء عدة قرى شبه معزولة، حيث الطرق الضيقة والمسافات الموحشة التي تفصل مدارس تلك المناطق بعضها عن بعض

 

تزايد عدد الطالبات الملتحقات بالمرحلة الثانوية في المدارس الحكومية في اللواء بشكل واضح منذ عام 2015، وهن يشكلن أكثر من نصف طلبة تلك المرحلة في تلك المدارس بالمنطقة  .

بلغ عدد المدارس الحكومية التي تضم شعبًا للمرحلة الثانوية في لواء الجيزة للعام الدراسي 2021 /2020  44 مدرسة، خُصص أكثر من نصفها للإناث  ، ومع ذلك تواجه العديد من الفتيات في اللواء تحديًا كبيرًا لاستكمال تعليمهن الثانوي.

تكشف هذه القصة المدفوعة بالبيانات عن عدم توفر شعب ثانوية في مدارس تابعة لقرى داخل لواء الجيزة بالعاصمة ، في الوقت الذي أنشأت فيه وزارة التربية والتعليم شعبا ثانوية للذكور في تلك القرى، ما يقلل من فرص استكمال التعليم الثانوي لدى الإناث

 



 

توضح مديرة مدرسة دليلة الأساسية المختلطة فريال السبيلة أن معظم طالبات المدرسة اللواتي انقطعن عن التعليم أنهين الصف العاشر .

تضم المدارس الحكومية المختلطة طلبة من الذكور والإناث في المرحلة الأساسية الدنيا ( الأول - الرابع)، في حين تقتصر بقية الصفوف الأساسية على الطالبات.

توضح السبيلة أن أقرب مدرسة لقرية دليلة تقع في قرية نتل، إلا بعض الأهالي يفضلون إلحاق بناتهن بمدارس في محافظة مادبا لتوفر المواصلات." في أهالي ما عندهم وسيلة نقل، وإذا وجد باص مايكرو وحيد، يعتبر تكلفة لكنه يتوفر لميسوري الحال." ، تقول مديرة المدرسة.

تؤكد المديرة السابقة للمدرسة ختام الكدراوي أن المسافة وتكاليف النقل كانت من أسباب انقطاع الطالبات عن الدراسة الثانوية. وهي تقدر  عدد المنقطعات عن الدراسة سنويًا من طالبات المدرسة بين 4-7 طالبات .

توضح الكدراوي أن وزارة التربية والتعليم أضافت في الماضي شعبة للصف الأول الثانوي داخل المدرسة ، لكنها ُأغلقت بعد عامين لقلة عدد الطالبات في ظل القرار الذي اتخذته الوزارة بدمج الشعب التي يقل عدد طلبتها عن عشرة .

لم تواجه "دليلة" وحدها نقصًا في الخدمات التعليمية للمرحلة الثانوية الموجهة للإناث، ففي كل من الزعفران وزينب، يحظى الذكور - دون الإناث- بمدرسة ثانوية في حرم القرية .

يستكمل الطلاب الذكور في قرية دليلة تعليمهم الثانوي داخل المدرسة ذاتها التي تلقوا فيها دراستهم في المرحلة الأساسية، بينما يتعين على طالبات الصف العاشر في القرية الالتحاق بالمدارس البعيدة لاستكمال تعليمهن الثانوي.



 

 

 

تضع وزارة التربية والتعليم ثلاثة معايير يتوجب توفرها لفتح شعبة للمرحلة الثانوية وهي وجود عشرة طلاب كحد أدنى لفتح شعب ثانوية في المدرسة، على أن لا تقل المسافة عن أقرب مدرسة ثانوية 5 كيلومتر .

لا تأخذ التعليمات بعين الاعتبار طبيعة المنطقة الجغرافية، وما إذا كانت مخدومة بالموصلات العامة أو خطوط نقل ثابتة.

 

الطريق إلى "الزعفران"

انطلقنا  بالسيارة من مدينة عمّان صوب القرى لنستكشف ملامح القصة عن قرب، كانت وجهتنا الأولى مدرسة نتل الثانوية للبنات، حيث تدرس الفتيات المحظوظات من قريتي الزعفران ودليلة، كان الهدف من الرحلة تتبع طريق العودة الذي تضطر الطالبات إلى المرور به يوميًا.

كنا منصاعين لتطبيق خرائط غوغل معتمدين على إحداثيات أرسلها أحد السكان هناك، شيئا فشيئا تباعدت المساكن وشحت الطرقات وظهر على الأسفلت القدم، أشجار متناثرة في أراض جرداء تتسع كلما تعمقنا داخل اللواء، مرت نصف ساعة حتى ترجلنا أمام مدرسة نتل الثانوية للبنات. 

بدت المدرسة حديثة البناء ذات ألوان زاهية ومرافق متسعة تجاور عددًا من مساكن المواطنين في قرية نتل٬ تابعنا طريقنا لنصل إلى مدرسة القرية الثانوية للبنين، فيما كانت المدرسة الأساسية تبعد نحو كيلومتر واحد.

في طريق العودة من نتل نحو قرية الزعفران شحت المساكن على جابني الطرق، وبدت موحشة خالية إلا من بعض مركبات البيك أب المسرعة، وكلاب ضالة هنا وهناك، لا شيء يشبه طريقًا آمنًا لطالبات في عمر الزهور.

توقفت السيارة على مشارف القرية وقبل أن نصلها بنحو كيلومترين، خطونا بضع خطوات سيرًا على الأقدام قبل أن نستأنف الرحلة مستقلين المركبة، ونحن نتأمل كيف للطالبات أن يقطعن تلك المسافة على الأقدام يوميًا تحت المطر أو في الطقس الحار.

وصلنا أخيرًا إلى مدرسة الزعفران الأساسية المختلطة، تزينت جدرانها بعبارات "العلم نور" و"في حجم بعض الورد" وتوسطت الرسومات خريطة الأردن.

استقبلنا الناشط المجتمعي زيد رضيان الزبن ومن معه بحفاوة، وبدا متحمسًا للحديث، وقف أمام مبنى المدرسة الذي شيدت على أرض مساحتها خمس دونمات تبرع بها عمه منذ سنوات، كما تبرع بمساحة مماثلة لبناء مدرسة للذكور.

فيديو زيد الرضيان  

أخبرنا الناشط المجتمعي من القرية زيد الزبن أن مديرية تربية لواء الجيزة لا تصرف  بدل مواصلات للطلبة من القرية، ويقوم الأهل بتغطية تكاليف نقل بناتهن إلى المدارس المجاورة التي يقع بعضها خارج محافظة العاصمة، إذ تضطر الملتحقات بالفرع العلمي  إلى الذهاب إلى مدارس في محافظة مادبا.

باتت الشمس في كبد السماء، وساعة الهاتف المحمول تشير إلى ما بعد الواحدة ظهرا. بدأت الفتيات بالخروج من فصولهن، بعضهن ب"مراييل" زرقاء والبعض الآخر ب"مراييل" خضر.

تحلقت الطالبات حولنا؛ اقتربت منا إحداهن وهي تحمل في يديها دفترا ُكتبت فيه بضع كلمات. طلبت الفتاة أن توجه عبرنا رسالة إلى وزارة التربية والتعليم. تشير إلى الفتيات بالإصغاء .. اسمها أمل !

قصة صوتية  

تعدل أمل حقيبتها وتنضم إلى باقي الفتيات اللاتي بدأن بالسير للعودة إلى بيوتهن، تاركة خلفها باب مدرسة الزعفران، عند تلك البوابة ينتهي مشوار دراستها بعد أشهر، فمن الصعب أن يرسلها والدها إلى مدرسة نتل لبعد المسافة وارتفاع تكلفة المواصلات.

 بعد لحظات انضم رجل ستيني إلى جموع المحتشدين أمام مدرسة الزغفران، جاء مشيا على الأقدام من مسافة بعيدة بعد أن سمع بوجودنا، هو محمد أبو ركبة حضر على عجل ليخبرنا بقصته.

لأبي ركبة ثلاث بنات، أصغرهن تدرس في الصف العاشر في مدرسة الزعفران، ويتوجب عليها الالتحاق بمدرسة خارج القرية العام القادم لاستكمال تعليمها.

يقول أبو ركبة وهو موظف متقاعد في القطاع العام: " الشباب ممكن يروحوا على مأدبا أو نتل أو زيزيا، لكن أغلب الناس عندنا ما عندهم قناعة بدراسة البنت"

يؤكد  أبو ركبة عدم توفر مواصلات إلى قرية نتل، المدرسة الثانوية الأقرب إلى القرية، ما يخلق تحديًا كبيرًا أمام استكمال ابنته في الصف العاشر تعليمها الثانوي، خصوصًا وأنه لا يملك مركبة خاصة.

يوضح أبو ركبة أن نقل الطالبات إلى مدرسة نتل قد يدفع الأهالي إلى عدم إلحاقهن بالتعليم الثانوي لبعد المسافة وغياب المواصلات.

تعد قرية الزعفران من القرى الأشد فقرًا في لواء الجيزة  ، وهي تبعد نحو خمس كيلومترات عن المدرسة الثانوية في نتل.

فيديو محمد أبو ركبة  والد طالبة

دون موعد مسبق، التقينا المعلمة العنود  الزبن، دعتنا إلى بيتها. تقول العنود أنها أكملت تعليمها الثانوي في مدرسة نتل قبل 15 عاما، فهي تنتمي إلى عائلة تعلم أغلب أفرادها.

تمكنت العنود من إكمال دراستها الجامعية كسائر إخوانها الذكور. وعملت بعدها في مدرسة الزعفران معلمة بديلة قرابة عامين. 

تستعيد العنود بعضا من ذكرياتها في المدرسة كمعلمة؛ أكثر ما يعلق في ذاكرتها التفاف الفتيات من حولها في أوقات الفراغ، يسألنها أن تحدثهن عن الجامعة باستمرار. "يا مس كيف الجامعة؟ يا مس بدي أسجل في الجامعة، متشوقين"، تكمل الزبن حديثها وتروي لنا المزيد من القصص.



 

تعليمات 

يقر  الخبير التربوي  السابق في وزارة التربية والتعليم على شموط بأن الحافلات لا تتوفر بشكل منتظم في عدد من مناطق من اللواء، ما يخلق تحديًا كبيرًا أمام الطالبات، ويقدم ذريعة لبعض أولياء الأمور لوقف تعليم بناتهن.

تلجأ وزارة التربية والتعليم إلى نقل الطلبة إلى أقرب مدرسة ثانوية عند عدم توفر غرف صفية في بيئة آمنة في بناء المدرسة، مع دفع بدل مادي لتغطية تكاليف المواصلات، حسب ما أشار شموط الذي عمل في قسم الإشراف التربوي في وزارة التربية والتعليم لنحو ثلاثين عامًا .

يبدو أن فتيات قرية زينب في اللواء هن أكثر حظًا من غيرهن ، إذ تحصل الطالبات الملتحقات بالفرع  العلمي والأدبي على بدل مادي عند انتقالهن إلى التعليم في مدرسة أرينبة الأقرب إلى القرية، لكن يتوجب على من يدرسن في الفروع الأخرى  الذهاب إلى مدارس في مناطق أبعد، حيث يواجهن عقبات مشابهة تتعلق بالمواصلات وبعد المسافة.

يقول  رئيس قسم الديوان والإعلام لمديرية تربية لواء الجيزة عاطف الهقيش  أن مدرسة دليلة الأساسية المختلطة لا يتوفر فيها غرف كافية لفتح شعب ثانوية، في حين يوجد غرف كافية في مدرسة القرية المخصصة للذكور، وكذلك الأمر بالنسبة للمدارس الأساسية المختلطة في كل من قرية الزعفران وقرية زينب.

يشير الخبير التربوي علي الشموط إلى أن الحل قد يكمن بتخصيص وزارة التربية والتعليم جزءًا من موازنة الأبنية المدرسية للإضافات الصفية، والتي تتيح للوزارة التعامل مع التوسع في التعليم ضمن المراحل المختلفة، عن طريق طرح عطاء في أي وقت من العام وتوفير حل سريع لتلك المشكلات .

ويرى  أنه يمكن اللجوء إلى خيار التعليم المدمج (التعليم عن بعد إلى جانب التعليم الوجاهي/ المباشر) لتوفير غرف صفية لطلبة الثانوية، إذ يمكن تخصيص حصتين أسبوعيتين من المادة الدراسية الواحدة لتكون بأسلوب التعليم عن بعد، وهذا يعني توفر غرفة صفية لطلبة الثانوية.

كما أشار  إلى أن فكرة الصف الدوار قد تساعد في إيجاد حل للمشكلة بتوفير مكان يدرس فيه طلبة الثانوية، عن طريق الاستفادة من الغرفة الصفية الخاصة بالصفوف الأخرى أثناء استخدام الطلبة مرافق في المدرسة لممارسة الأنشطة.

يعلق الناشط الحقوقي رياض صبح  بأن قانون التربية والتعليم يتناول تعميم التعليم للجميع دون تمييز٬ كما تراعي المعايير الدولية لحقوق الإنسان وفق حقوق اتفاقية حقوق الطفل إمكانية الوصول مع مراعاة المراة الريفية٬ سيما أن الثقافة في تلك المجتمعات لا تحبذ للفتيات الانتقال  إلى مسافات بعيدة.

تنص اتفاقية حقوق الطفل  على أن " لكل طفل الحق في التعليم. ويجب أن يكون التعليم الأساسي مجانياً وأن يكون التعليم الثانوي والتعليم العالي متوفرين. وينبغي تشجيع الأطفال على الذهاب إلى المدرسة للحصول على أعلى مستوى تعليمي ممكن." 

تلمسنا ما قاله صبح خلال حديثنا مع أهالي القرية حيث (أغلب الناس ما عندهم قناعة بدراسة البنت) و(العادات والتقاليد ما بتسمح للبنت تروح لمسافة بعيدة).

قبيل نشر القصة انتهى العام الدراسي وأقفلت أبواب مدرسة الزعفران. لن تسمع أمل صوت جرس المدرسة مرة أخرى، حيث ستزف إلى عريسها قريبًا، كما أخبرت والدتها ، لكن أمل تحلم بمستقبل مختلف لإخواتها الصغريات، يتمكن فيه من إنهاء تعليمهن الثانوي والالتحاق بالجامعة.

أنتجت هذه القصة بدعم من أريج ضمن مشروع 100واط المدعوم من سفارة مملكة هولندا في الأردن.

أضف تعليقك