غزّة وتراجع بطريرك الأرمن عن صفقة أراضٍ في القدس
قد يبدو عنوان هذا المقال غريباً، فما العلاقة بين حرب الاحتلال على قطاع غزّة وقرار متأخر جداً لبطريرك الأرمن، نورهان مانوغيان، التراجع عن صفقة أراضٍ مشبوهة في دير الأرمن في القدس؟
للتوضيح، بعد مرور أكثر من سنتين على الاحتجاجات الأسبوعية في دير الأرمن، الواقع في البلدة القديمة في القدس، اتّخذ بطريرك الأرمن، نورهان مانوغيان، في 26 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) قراراً أحادي الجانب لإلغاء صفقة تأجير طويلة الأمد لرجل أعمال يهودي أسترالي يُدعى داني روثمان، كانت قد شملت التنازل عن ربع أراضي حارة الأرمن، وبالذات المنطقة التي تسمّى بستان البقر، فضلاً عن كلية اللاهوت ومطعم وعدة شقق، لكي يقام فندق فاخر. وتعتبر المنطقة استراتيجية للاحتلال والمتديّنين اليهود، لأنها قريبة جداً مما يسميه اليهود الحائط الغربي أو حائط البراق.
كان النشطاء الأرمن، بالتعاون مع محامين دوليين، وتحديداً مكتب محاماة أميركي (كريكوريان – دجاني) على وشك تقديم شكوى لمحكمة إسرائيلية، تتعلق بمنع ممثّلي المستثمر سكان الحيّ من الاستفادة من موقف السيارات الذي بُني على أرض بطريركية الأرمن بالتنسيق مع بلدية الاحتلال، والذي تبيّن في ما بعد أنه كان جزءاً من المؤامرة للصفقة الكبرى المشار إليها. وكان القرار بتقديم الشكوى في الثامن من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، إلا أن المحاكم الإسرائيلية كانت مغلقة في ذلك اليوم، وأُجِّلَت القضية بسبب الأوضاع الملتهبة بعد عملية طوفان الأقصى.
ويبدو أن بطريرك الأرمن قرّر، خلال هذه الفترة، التراجع عن مواقفه السابقة التي راوحت بين اتهام نائبه ومدير عقاراته السابق باريت يرتيسيان، بأنه ورّطه في الصفقة، والصمت القاتل بعد تجميد الأردن والقيادة الفلسطينية الاعتراف به بطريركاً، لأن ما قام به مخالف لتعهّدات الوضع القائم (status quo)، فالبلدة القديمة من القدس تعتبر إرثاً عالمياً، حسب منظمة اليونيسكو لا يُسمح بالتصرف به.
ضاعف الاحتلال، في الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، من خلال المتطرّفين، من التنكّر لسكّان الحيّ الأرمني، واستمر منعهم من الاستفادة من استخدام مرأب السيارات، ما زاد من المعاناة، حيث أجبر السكّان على ترك سياراتهم خارج البلدة القديمة، والمشي إلى الحارة، الأمر الذي وضعهم في خطر. فضلاً عن ذلك كله، جلب ممثل المستثمر الأسترالي من خلال مواطن عربي من الداخل (يدعى ج. و) جرّافاتٍ في محاولة لهدم جدار المرآب، الأمر الذي تصدّى له المواطنون الأرمن وعدّة رهبان أرمن.
وقّع البطريرك في 26 الشهر الماضي على رسالةٍ أُودِعَت في المحاكم الإسرائيلية، تعلن من طرف واحد إلغاء صفقة الأراضي للمستثمر اليهودي الأسترالي. وبعد أيام (30 أكتوبر)، أُودعت قضية في المحاكم الإسرائيلية ضد المستثمر وضد بلدية الاحتلال من سكان الحيّ الأرمني، يطالبون بالحق باستخدام المرأب، علماً أنهم دافعو اشتراك فيه، ومن الصعب عليهم الاستمرار في المشي مسافة طويلة للوصول إلى بيوتهم.
لا دليل قاطعاً على أن تراجع بطريرك الأرمن جاء بسبب حرب الاحتلال على قطاع غزة، ولا تأكيد بأن هذا التراجع من طرفٍ واحدٍ سيُنهي القضية، ويتراجع المستثمر عن مشروعه المثير للنقاش والمرفوض من المقدسيين. لكن لا شكّ في أنّ وحدة سكان الحيّ الأرمني في الدفاع عن أراضي كنيستهم التي ورثوها أباً عن جد منذ قرون طويلة، وموقف رؤساء الكنائس المسيحية في القدس، والتنسيق الفلسطيني الأردني، والضغوط الخارجية من أرمينيا بعد زيارة وفد أردني فلسطيني العاصمة الأرمنية، يريفيان، لا شك في أنّ لكلّ هذه الأنشطة والتحرّكات دوراً في قرار التراجع الأولي، الذي يجب أن يليه تعاون وتنسيق قوي مع لجان الحيّ الأرمني ومع الفريق القانوني لإنهاء الصفقة بشكل كامل.
لمدينة القدس طابع خاص وتاريخ هام، ومن أهم دروس تاريخها أن كل محتلٍّ حاول فرض أجندة أو يحاول احتكار المدينة المقدّسة لطرف ما أو ديانة ما أو إثنية ما قد فشل. قوة القدس في تنوّعها ووحدة سكّانها ضد المحتل. مبروك للطائفة الأرمنية الفلسطينية، وكلّنا أمل أن ينتهي هذا الفصل الصعب، بإنهاء قانوني لكامل الصفقة المشبوهة، وعودة الأراضي إلى أصحابها الشرعيين.