عن الصحافة والخبز الحافي

الرابط المختصر

مفارقة
تسجلها الصحافة المحلية، انفصال المنشور عن كاتبه، فالصحفيون في أكثريتهم يعانون
ضيق ذات العيش، وتتردى أوضاعهم بعضهم الى مصاف الطبقات الدنيا من المجتمع،
ومع ذلك
فقضايا الفقر وارتفاع تكاليف المعيشة وحياة الفقراء، هي من أكثر المواد تغيبا عن
الصحافة. هي خبر فقط غير ملحق بأي جهد استقصائي وهي أرقام توزعها جهات حكومية، في
الأساس، يعاد نشرها دون أي مساءلة.

خلال
الاشهر الاخيرة، سجلت مؤشرات الاسعار ارتفاعات شاهقة، كان سببها الرئيس يمكن في
قيام الحكومة برفع اسعار المشتقات النفطية بنسب عالية خاصة مادتي "الكاز
والديزل"، وهما المادتان الاكثر استخداما لدى الفقراء ولدى القطاعات الصناعية
المؤثرة مباشرة في حياة الجمهور.

على
ان ارتفاع اسعار الوقود لا يبرر وحده استشراء الغلاء وارتفاع تكاليف المعيشة بالنسب
العالية التي وصلت اليها، فبرأي المحللين الاقتصاديين فان السياسات الاقتصادية
الليبرالية "المتوحشة" التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة منذ البدء
بتنفيذ برنامج الاصلاح الهيكلي، وانسحابها من النشاط الاقتصادي، وتخلية الساحة
للقطاع الخاص وقوانين السوق، أدت بهذا القطاع المتسم بعقلية الربح السريع الى
الاستفراد بالناس والتحكم في قوتهم اليومي.

وبين
نقل اخبار خام عن بيانات او مؤشرات تصدر عن هذه الجهة او تلك فإن الصحافة، لا تشبع
نهم القاريء الى المعرفة الحقيقية، وتبدو الصحف غير معنية مطلقا بـ"أنسنة"
كل ما تنشره من ارقام ومؤشرات فهي تكتفي بنقل معلومات معطاة لها عبر الفاكس او
الايميل من البنك المركزي، مثلا عن نسب النمو والتضخم وارتفاع تكاليف المعيشة
ومساهمة القطاعات الاقتصادية المختلفة في مجمل النشاط الاقتصادي، واحتياطيات
العملات الصعبة، او ارقام دائرة الاحصاء المركزي عن نسب البطالة والعمالة الوافدة،
او تقرير وزارة العمل عن حالة العمالة في الاردن وغيرها الكثير من الارقام
والمعطيات الجافة التي لا تعني الكثير بالنسبة للمواطن العادي المكتوي بنار
الغلاء.

اما
الملاحق الاقتصادية، وهي صفحات يومية تصدرها كل الصحف، فهي ليست اكثر من خدمات
لرجال الاعمال والتجار، موحدة في اخبارها وتقاريرها عن مؤشرات الاسواق المالية
والبورصات ونشاطات الشركات الخاصة الكبرى، وانجازات الحكومة وتصريحات كبار
مسؤوليها. وما هو اسوأ من ذلك نشرها اخبار هذه الشركات، وهي مواد اعلانية بامتياز،
كما لو كانت اخبار حقيقة وبدون تمييزها كمادة اعلانية.

في
ملحق صحيفة "الدستور" (15/5) عينة مما يتابع القارئ:

-
جلالته استقبل المشاركين في مؤتمر الطاقة
العربي *الملك: نتطلع الى آلية عربية تعالج تحديات ارتفاع اسعار النفط.

`-"المركزي"
يعلن نتائج المزاد على شهادات الايداع بقيمة 50 مليون دينار.

-
`عمان` تأمل في ابرام اتفاق تجارة حرة مع واشنطن.

-
48 مليونا قيمة الصفقة.. واربعة دنانير
سعر السهم * بيع حصة `العربي` في `جيتكو` لاحدى شركات `فرانس تيلكوم.

-
العربي للنقل البري` يعقد اجتماعاته في
بيروت بعد غد.

-
اخبــار الشـركــات .. * إلهام المدفعي على `سمعني`من `فاست لينك`

- بالتعاون مع `الشرق العربي
للتأمين`.. * `ابناء حكمت ياسين` تمنح عملاءها تأمينا منزليا مجانيا.

اما
ملحق "الرأي" فتباع نفس هذه الاخبار مع زيادة في "اخبار الشركات"،
صحيفة "الغد" اختارت عنوان "مال واعمال لملحقها الاقتصادي فبدت
اكثر انسجاما مع مضمون ما تنشره، وهو لا يختلف كثيرا عن "الرأي" رغم
تركيز "الغد" بوصفها صحيفة "اعمال" على "اخبار
الشركات" والعلاقات العامة. والحال لا يبدو مختلفا ايضا في "العرب
اليوم" و"الانباط".

اما
اخبار الفقراء واوضاعهم المعيشية والبطالة والإضرابات، فمكانها الاقسام المحلية،
وهكذا فان الصورة تبدو منفصلة، ففي جانب تظهر الملاحق الاقتصادية الوضع في البلاد
كما لو كان يجري بصورة إيجابية متقدمة، فيما في القسم المحلي تنشر اخبار منقولة عن
جمعية حماية المستهلك مثلا أو عن إضراب عمال شركة ما، فيبدو ان الفقر والاسعار
والاجور ليست جزءا لا يتجزأ من النشاط والوضع الاقتصادي في البلد. بل مظهرا
"شاذا" منفردا ناجما عن وضع مؤقت وطارئ وليس ناجما عن نظام وسياسات
اقتصادية متكاملة بمقدماتها ومخرجاتها.

وفي
هذا فإن صحيفة "الغد" (15/5)،على سبيل المثال، تنشر في صفحتها المحلية
اخبارا عن احتجاج النقابات على موقف وزارة العمل من النزاعات العمالية، او مطالبة
نقابة الغزل والنسيج برفع الحد الادنى للاجور للعاملين في قطاع الألبسة. والامر
نفسه في الصحف الاخرى، ولا يوجد أي مبرر في فصل كل هذه الانشطة الاقتصادية
الاجتماعية في جوهرها، كأي نشاط اقتصادي، عن الملاحق ونقلها للمحليات سوى التأثر بطريقة
عمل الصحف الغربية الكبرى التي ابتدعت مضمونا اعلاميا يركز على مجتمع رجال الاعمال
ويغيب الجوانب الاقتصادية الاجتماعية الاخرى التي يعاني منها السواد الاعظم من
المواطنين، وهؤلاء تبدو اخبارهم خجولة، منفردة، موحدة، منقولة عن بيانات او
تصريحات، دون متابعات حقيقية.

إذا
كانت إدارات تحرير الصحف المحلية، لاسباب متعلقة بقدرة الحكومة على التأثير في
عملها وكذلك القطاع الخاص، المعلن، ونقص المهنية والتخصص، تتناول قضايا الفقر
وارتفاع تكاليف المعيشة على المواطنين بالشكل الخجول هذا. فان كتاب المقالات،
واكثرهم من الفئة المدللة في الصحف المحلية، اصحاب الاجور الاعلى والعلاقات العامة
والارتباطات المتشعبة مع الحكومة والقطاع الخاص لا يتوانى اكثرهم عن الدفاع عن
خطوات حكومية غير شعبية كما حصل عندما قامت الحكومة برفع أسعار المشتقات النفطية
الذي صور لدى الكثير من كتاب المقالات كدواء مر لا بد منه قبل وقوع كارثة
اقتصادية، فهناك من يستميت في الدفاع عن السياسات الليبرالية الحكومية بغض النظر
عن مخرجاتها السلبية وتأثيرها على المواطن الفقير وهناك فئة لا تنفك تكتب مقالات
علاقات عامة عن شركات خاصة دون أي رادع مهني – أخلاقي. يصعب ذكر
اسماء محددة حتى لا يبدو الامر تشهيرا، ولكن معروفة القصة في الصحافة وفي كواليسها
عندما يكتب صاحب عمود يومي مقالا هو "رسالة" لجهة ما، مثل الكتابة عن
رجل اعمال وتصويره بوصفه منقذ الاقتصاد، او الكتابة عن ممثل محلي يمتلك ملهى ليلي
يحرص على دعوة بعض الصحفيين الى زيارته باستمرار، او رجل اعمال اعتاد تنظيم دعوات
غداء وعشاء في مزرعته، او مسؤول محلي كأمين العاصمة والإغداق عليه بألقاب مثل
العمدة و"الرجل الذي لا ينام" وغيرها من الاوصاف. وليس خافيا على احد ما
في هذه المقالات من رسائل، وان تسترت خلف الاشادة بالاقتصاديين والمسؤولين
وانجازاتهم او تسترت خلف "وطنية" مزعومة.

ولكن
الصورة لا تبدو قاتمة الى هذه الدرجة فهناك كتاب واظبوا دوما على الدفاع عن حقوق
الناس، مثل الكاتب في "الغد" سميح المعايطة واحمد الزعبي في "الرأي"
ونزيه القسوس في "الدستور" وفهد الخيطان في "العرب اليوم"
وكذلك موفق محادين وحيد رشيد وسلامة الدرعاوي، اما الكاتب ناهض حتر، في نفس، فهو
الاكثر في مهاجمة السياسات الاقتصادية للحكومة وبنيتها، وان كان يغرق القارئ في
تنظير أيديولجي لا تحتمله مقالة يومية.

تحتاج
الصحف المحلية الى "مدونات سلوك" قبل حاجتها لمواثيق الشرف، وهي مواثيق
مقيدة بالمناسبة، وللاسف فان مصطلح مدونات السلوك جديد او غريب على بعض وسائل
الاعلام المحلية، وهي مدونات من شأنها الحد من استشراء الفساد في المجتمع الصحفي
والتزام افضل بالمعايير والاخلاق المهنية، بدل ترك العاملين فيها عرضة لتأثير
الحكومات والقطاع الخاص.

أضف تعليقك