عندما يطلب من الصحافيين الفلسطينيين العاملين في المؤسسات الغربية التنكر لذاتهم!

الرابط المختصر

 كتبت فرح مرقة، الصحافية الفلسطينية الأردنية: “لقد تم إعلامي للتو دون مزيد من التوضيحات بأنني سوف أتلقى إشعاراً بإنهاء عملي في الدوتشية فيليه وبأثر فوري”.

وتابعت في تغريدة على صفحتها على موقع تويتر: “لم أستلم حتى اللحظة توضيحاً بخصوص الأسباب أو التقرير الذي تستند إليه هذه الاتهامات”.

هكذا وبكل بساطة وبعد أن عملت الإعلامية مرقة في المؤسسة الألمانية منذ عام 2017 ينتهي عملها “فصلا” من دون أي توضيحات، وهذا حال مجموعة كبيرة من الصحافيين الفلسطينيين العاملين في المؤسسات الإعلامية الغربية التي تشير جهات فلسطينية إلى أنها تستجيب مهرولة لأي تهم متعلقة بمعاداة السامية.

حال مرقة هو ذاته ما جرى مع الصحافية الفلسطينية مرام سالم، ابنة مدينة الخليل، جنوب الضفة الغربية، وهي التي تلقت خبر فصلها وذلك بعد أن نشرت صحيفة ألمانية تقريرًا اتّهمها بـ”معاداة السامية” و”إسرائيل” على خلفيّة منشورات قديمة على حسابها في “فيسبوك”.

فيما شمل قرار الفصل على خلفيّة الاتّهامات بـ”معاداة السامية” ثلاثة صحافيين آخرين هم: باسل العريضي، وداوود إبراهيم، ومرهف محمود.

متابع ملف الفصل التعسفي يجد أن المسألة هذه المرة مختلفة عن سابقاتها، فهي تتجاوز تهمة معاداة السامية لتصل إلى حد اتهام قيادة رئيس الخدمة العربية في المؤسسة الألمانية بأنه اختار أربعة من الصحافيين لتشكيل “حركة منهجية ضد إسرائيل”.

ضد الصمت

الصحافية مرقة لم تتوقف عند قرار الفصل وهي تكتب سلسلة من المقالات حملت عنوان: “سجلات فضيحة معاداة السامية” ومن خلالها تحاول أن توثق تجربة اتهامها ظلماً بمعاداة السامية.

وتؤكد مرقة: “أنا صحفي محترف أؤمن برسالة مهنتي وأخلاقيتها وقيمها، ولن أسكت في البحث عن الحقيقة وتكريس قيمة الحوار الصادق، وسأستمر في الكتابة والتوثيق حتى نهاية التحقيقات في 15 يناير 2022 أو أكثر إذا لزم الأمر”.

أما الصحافية سالم بدورها فكتبت في نهاية منشور مكثف يجمل ما تعرضت له على صفحتها الخاصة على “فيس بوك”: “أتمنى ألا يلقى هذا البوست صمتا”.

وأضافت: “طالما وجدت نفسي وحيدة في مواجهة صراعاتي السياسية والإنسانية والحقوقية والاجتماعية، ولكن هذه المرة أنا بحاجتكم، لأن ما يحدث الآن هو هجوم صارخ على حرية التعبير وعلى الصحافيين وعلى هويتي لمجرد أنني فلسطينية”.

والحقيقة أن ما نشرته الصحفيات المفصولات حديثا وقدمته تجارب فصل صحافيين قديما يشير إلى ظاهرة خطيرة وتستوجب اهتماما مركبا وضغطا إعلاميا كون ذلك أصبح سيفا مسلطا على كل الصحافيين الفلسطينيين أو المناصرين للقضية الفلسطينية بحسب الإعلامي الفلسطيني المقيم الأمريكي عبد الإله عياش.

وتقول سالم في حديث خاص لـ”القدس العربي”: “يتم محاسبتي على منشور سابق ليس فيه أي معاداة للسامية ولا حتى ذكر كلمة إسرائيل، إنما فقط حديث عن حرية التعبير في أوروبا فقط”.

وعرضت سالم نصّ منشورها الذي جاء فيه: “حرية التعبير وإبداء الرأي في أوروبا وهم. خطوط حمر كثيرة إن قررنا الحديث عن القضية الفلسطينية. التشفير الذي نقوم فيه بالعادة لا يهدف لإخفاء البوستات من الفيسبوك. بل لمنع الترجمة التلقائية من كشف معاني كلماتنا للمراقبين (والمناديب) هنا، ممن على أهبة الاستعداد لإرسال طلب بفصلنا، أو ترحيلنا”.

وقامت سالم بتشفير مجموعة من الكلمات في البوست السابق مثل “القضية”، والمناديب، فصلنا، وترحيلنا” عبر وضع نقطة وسط كل كلمة لمنع عملية الترجمة الحرفية للمنشور من معادين لعملها في المؤسسة.

واعتبرت الصحافية الفلسطينية التي تعمل في المؤسسة منذ عامين بعد أن اجتازت فترة تدريب مدتها ثلاثة شهور، أنّ فصلها خطوة تعسّفية نتيجة صراعات داخلية وكيدية، ومجموعة إشاعات غير صحيحة، مضيفةً “وجدت نفسي لسبب لا أعلمه في وسطها، وتم استخدامي كبش فداء من (دويتشه فيله) للخروج من أزمتها الحالية”.

وطعنت بدورها في إجراءات التحقيق التي وصفتها بأنها “لم تكن حيادية؛ إذ تم تعيين إسرائيلي في لجنة التحقيق الخارجية”.

وبحسب سالم فقد أوصت هذه اللجنة “المحايدة”، والتي تم الإعلان، يوم أمس، أنه يتم تنسيق زيارات لموظفي الدويتشه فيله إلى إسرائيل، وهو ما تعتبره مؤشرا يثبت عدم حيادية دويتشه فيله في التغطية، وانحيازها التام للرواية الإسرائيلية، وأثبت أيضا أن هذه اللجنة لم تكن “محايدة”، بل كان دورها مسرحيا هزليا.

وفي نص ما كتبته سالم وما تحدثت به لـ”القدس العربي” ما يشير إلى واقع بائس يذكرنا بواقع الحريات في دول العالم الثالث.

غير محمية

أما الصحافية مرقة التي قدمت لبرلين مع أحلام كبيرة فتشرح قصتها: “تلقيت بريدًا إلكترونيًا من صحافي في “Süddeutsche Zeitung” سألني إذا كنت راغبة في التعليق على ثلاث جمل التقطها من مقالات قديمة تبدو فيها وكأنها تنتقد إسرائيل”، وتشير في حديث خاص لـ”القدس العربي”: “كانت الجمل من مقال ساخر يعود إلى عامي 2014 و2015”.

وتشير إلى أن الصحافي الألماني طرح أسئلة حول حسابها على موقع “تويتر” وخبرتها والتجارب التي أهلتها للعمل في التلفزيون. كان رد مرقة: “ليس من العدل انتقاء الجمل من بعض المقالات القديمة التي كتبتها منذ فترة في عمان، كما أن سجلي المهني يكشف أنني ملتزمة بالإرشادات والقيم الصحافية المطبقة بالمؤسسة، أنا أدافع عن تلك القيم مهنيًا وكإنسان”.

لكن ما نشرته الصحيفة الألمانية زعم أن مرقة جزء من تعيينات “ممنهجة” لخلق حركة ضد إسرائيل داخل الدوتشيه فيليه. ومن دون أن يشير إلى طبيعة المقالات التي استند إليها للحكم عليها أو حتى من دون أن يسرد السياق التاريخي لنشرها، وهو ما حرك هجمة شرسة ضدها في وسائل الإعلام الألمانية.

وتسرد مرقة في مقالاتها تجربة مؤلمة في “اغتيالها المعنوي” حيث قامت التغطية الصحافية (الألمانية والإسرائيلية) حول قضيتها بالتشكيك في مؤهلاتها وخبراتها وادعت أن كرهها لإسرائيل هي السبب الوحيد لتعيينها في المؤسسة الألمانية.

ويوفر الملف الشخصي لمرقة على “موقع لينكد إن” أنها تحمل درجة الماجستير في وسائل الإعلام الجديدة، وهي متخصصة في التلفزيون والراديو، ولديها خبرات مختلف مع صحف أردنية وعربية وأجنبية أيضا.

وتشعر مرقة أنها غير محمية تماما أمام الهجمة التي تتعرض لها.

الوعي بالتاريخ

وتطرح مرقة مسألة غاية في الأهمية تتعلق بما يطلب من الصحافي الفلسطيني العامل في ألمانيا حيث عليه أن يكون لديه “وعي بالتاريخ الألماني” وتحديدا في علاقته مع اليهود.

عن ذلك تقول الصحافية مرقة “لم أفكر مطلقًا في أن أحدًا قد يفترض أنني ولدت مع “وعي بالتاريخ الألماني” بينما أنا في الجزء الآخر من العالم”.

ومع ما تفترضه المؤسسات الإعلامية الألمانية يغيب في المقابل فهمها لحقيقة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وبحسب مرقة “قدمت إلى ألمانيا واخترت احترام تاريخ البلاد، لكنني كنت ساذجة لأتوقع الشيء نفسه”!

أما الصحافية سالم فتشير إلى “أنّ إجراء فصلها وما سبقه من تحقيق معها، جاء دون مراعاة الخصوصية التاريخية، وطبيعة الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين”، لافتةً إلى أنّ “دويتشه فيله” اعتبرت أنها هي فقط من يحدد معايير “حقيقة الصراع” ومن هو الطرف المُحِقّ.

تفريغ المؤسسات الغربية

الصحافية الفلسطينية تالا حلاوة، التي كانت تعمل في مؤسسة “بي بي سي” البريطانية قبل فصلها بسبب منشورات لها قبل ثلاث سنوات من عملها في المؤسسة تقول إن ما جرى مع الصحافيات في المؤسسة الألمانية أعاد لها كل المشاعر التي اعتقدت أنها تجاوزتها.

وتابعت: “لم أفاجأ، فمن خلال قضيتي أصبحت أكثر إدراكا لمدى التنظيم الذي تعمل في إطاره هذه الجماعات الضاغطة وكيف تحقق أهدافها من خلال خلق فضائح إعلامية وأزمات علاقات عامة لتضغط على المؤسسات الإعلامية الهشة من الداخل لتنفيذ مطالبتها، وبالتالي تحقيق أجنداتها بتفريغ المؤسسات الأجنبية الكبيرة من الصحافيين والصحافيات العرب والفلسطينيين تحديداً.

ورفعت حلاوة قضية على المؤسسة البريطانية في المحاكم الفلسطينية وهي تنتظر إجراءات التقاضي التي غالبا ما تطول لسنوات، وهي تطالب بالعمل على تكثيف التغطية، “فما يجعل الحملات الإسرائيلية ناجحة هو الكثافة فقط، أما نحن فلا نملك نفس الطاقات لنرد بنفس الزخم، مشترطة أن ذلك يجب أن يكون بكل اللغات وليس فقط عبر اللغة العربية”.

وتعتبر حلاوة أن أي عملية فصل تعسفي لصحافي فلسطيني من وسيلة إعلامية غربية يعتبر معيقا لأي عملية تعيين في وسائل دولية أخرى، “كل المؤسسات الأجنبية ستتجنب المواجهة مع الحملات المنظمة على مواقع التواصل الاجتماعي”.

وتشدد أنه لا يوجد إعلام محايد أو مستقل، حتى لو كنا نتحدث عن مؤسسة كبيرة. كل هذه المؤسسات تخضع للضغوطات السياسية وخاصة إذا كانت تواجه عدة أزمات على عدة جبهات سياسية وتمويلية مثل “بي بي سي” التي تواجه حملات ضغط منذ سنوات لتقليص تمويلها.

نسأل حلاوة التي تعمل اليوم في مشروع “صوت بودكاست”، هل أنت نادمة؟ هل كان هناك أحلام عريضة لعملك في بي بي سي؟ فترد: “لا لست نادمة. تعلمت كثيرا في “بي بي سي” وكان عندي دوري المهم في تغطية القضية الفلسطينية. لكني لم أعد أصدق أن وجودنا كعرب في هذه المؤسسات يتعدى فكرة الإكسسوار لإثبات حرص هذه المؤسسات على التعددية والشمولية في حملاتها للعلاقات العامة”.

وتضيف: “هذه المؤسسات بالنهاية محكومة بعقلية، إنها تتعامل معنا بفوقية واستعلاء، وإذا نظرت إلى المناصب العليا في هذه المؤسسات ودرست مواصفات من يشغلها تستطيع أن تفهم ما هي العقلية التي تحرك هذه المؤسسات وهي بعيدة كل البعد عن التعددية ومحصورة فقط بالأشخاص الذين يرون العالم بمنظور أوروبي بحت يلغي الآخر القادم من خلفية ثقافية مختلفة تماماً”.

هجمة منظمة وكبيرة

الصحافي الفلسطيني المقيم في أمريكا عبد الإله عايش يقول في حديث خاص لـ”القدس العربي” إن “الهجمة على الصحافيين الفلسطينيين والمناصرين للقضية الفلسطينية كبيرة ومنظمة. وأثرها كبير. تخيل: حتى صحافي له منصب تحريري ويفتي ويقرر في التجاوزات المهنية والأخلاقية لزملائه في مؤسسة أمريكية، يخاف أن يكتب رأيه بحرية فالقانون والأنظمة والأهواء ليست في صالحه.. فكيف هو الحال لدى الصحافيين الفلسطينيين الشباب في المؤسسات الدولية؟”.

ويتابع: “صار مطلوبا من الفلسطيني أن ينكر ذاته قبل التنفس وبعده لكي يتم قبوله كصحافي في المؤسسات الغربية! وهذا لم يكن الحال قبل سنوات قليلة. والانحدار نحو الهاوية يتسارع”.

ويشدد عياش على أن الوجود الفلسطيني في كل مؤسسات إنتاج وتوزيع المعلومات ضرورة ومؤثر، حتى لو كانت هذه المؤسسات منحازة بشدة. “أقول هذا عن تجربة. يمكن للفلسطيني أن يصنع الفرق البسيط، ووجوده مهم”.

ويؤكد عياش: الصحافي الفلسطيني في المؤسسات المنحازة والعدوة متروك لوحده. إما أن يرضخ أو يغادر. كثيرون رضخوا: شاهد سكاي نيوز والعربية وغيرهما. وبعضهم خسر وظائفه: بي بي سي ودويتشه فيلله أمثلة. وقليلون قليلون صامدون دون تفريط أو خيارات انتحارية، لكن ذلك يصبح أصعب.

ويرى عياش أن التعامل مع هذا الواقع الجديد ممكن من خلال المؤسسات الأكاديمية والنقابية في الداخل التي يمكن أن تصنع بعض الفرق، ويقدم اقتراحات عملية مثل تشكيل لجنة جديدة في نقابة الصحافيين لمتابعة شؤون الصحافيين الفلسطينيين في الخارج، وتكوين مرصد أكاديمي أو شبه أكاديمي لـ”إنكار النكبة” والخطاب العنصري ضد فلسطين والفلسطينيين في الإعلام الدولي ويمكن البدء بالناطق بالعربية.

ويرى عياش في ضوء تجربته أن ما يصنع الفرق ويخلق التأثير هو الانتقال في هذا الملف من مهاجمة إسرائيل وانتهاكاتها إلى اتهام جهات محددة في الإعلام الدولي بالخطاب العنصري ضد الفلسطينيين، “هذا يتطلب موقفا دفاعيا.. إسرائيل ليست القضية بل العنصرية تجاه الفلسطينيين. هذا متوافق بشكل أفضل مع القضايا المؤثرة دوليا”.

الأكثر هشاشة

الصحافي الفلسطيني الذي عمل مراسلا لوكالة الأنباء الفرنسية لسنوات هشام عبد الله يقول: “لقد بات الصحافيون/ات الناشطون في المجال الرقمي، لا سيما الفلسطينيين وأنصارهم، هدفا واضحا” للمؤسسة الدولية لمكافحة مناهضة السامية”.

ويتابع: “جعلت هذه المؤسسة إعادة تعريف العداء السامية ليشمل أي انتقاد أو كره لإسرائيل، هدفها الأسمى خلال السنوات الأخيرة، وليس طرد الصحافيات من المؤسسة الألمانية سوى إحدى نتائج هذه السياسة التي تطال الكل حول العالم”.

ويرى عبد الله أن المؤسسات الألمانية تظل الأكثر هشاشة أمام هذه الضغوطات، مع الأخذ بعين الاعتبار تاريخ النازية الألمانية ودورها في المحرقة، “الهولوكوست”.

يذكر أن شبكة دويتشيه فيليه الألمانية أعلنت في كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي تعليق شراكتها مع قناة رؤيا الإخبارية الأردنية، بعد مزاعم حول قيام الأخيرة بنشر تعليقات ورسوم كاركاتور عبر صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، اعتبرت الشبكة الألمانية أنها “معادية للسامية وللإسرائيليين”.