عامان من العزلة.. مقاربة أكثر من طبية
في كتابه الجديد "عامان من العزلة.. مآلات الجائحة"، والذي صدر قبل أيام (معهد السياسة والمجتمع، عمّان، 2021)، يقدّم لنا مدير مركز الحسين للسرطان، الطبيب والأديب، عاصم منصور، مقاربةً مهمة تتجاوز الرصد والتحليل الطبي والعلمي لتطور جائحة كورونا، عالمياً، مع تسليط الضوء على المشهد الأردني، بل يتجاوز ذلك إلى مناقشة الأبعاد المجتمعية والثقافية والاقتصادية، وحتى السياسية، التي نجمت عن تأثير هذه الجائحة وتداعياتها.
الكتاب خفيفٌ في حجمه، عميقٌ في مضمونه، يقدّم توثيقاً مهمّاً، غير مباشر أو رسمي، لتطوّر وباء كورونا، والسياسات الأردنية في التعامل معه، بروح نقدية جريئة؟ يتساءل الكاتب أين أصبنا وأين أخطأنا، ويذكّرنا بمحطّات مهمة عديدة، أردنياً، في التعامل مع الوباء. وإذا كانت هنالك إشارات على درجة كبيرة من الأهمية فتتمثّل في أنّ المواجهة مع الوباء ليست فقط طبية، بل لها أبعاد سياسية ومجتمعية وثقافية وإعلامية متعدّدة. الوباء امتحان للنظام الصحي بأسره وتحدٍّ له، ويمثّل تحدّياً اليوم لقدرات الدولة وقوتها وإمكاناتها، ومحطة فاصلة لطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، ومقياس لمعايير كفاءة نظام الدولة بأسره، وقدرته على مواجهة الظروف الاستثنائية، ولقيم الدولة ما بين الحرية والعدالة الاجتماعية وللثقافة المجتمعية والشعبية.
وإذا كانت الرؤية النقدية للمؤلف حاضرةً متغلغلة في ثنايا الفصول ومقالاتها في مقاربته السياسة الأردنية تجاه كورونا، في ضوء ما يمتلكه من معرفةٍ وخبرةٍ وإحاطةٍ بما يجري عن الوباء في العالم من سياساتٍ طبية، وما تم إنجازه من بحوثٍ علميةٍ محكمة، وتجارب على المطاعيم والعلاجات، فإنّ الكاتب يرى (وهو ما يجذبك إلى الكتاب الذي لا يفصل السياسات الصحية عن الإعلامية والسياسية والاقتصادية) أنّ أهم ما أخطأنا فيه أردنيّاً الرسالة الإعلامية والاتصالية للمسؤولين الذين لم يوفّقوا، في أحيانٍ كثيرة، في تقديم رسالة صحيحة دقيقة مفيدة، تقشع الضبابية وتواجه المخاوف أو الاستهتار، على حدّ سواء، لدى نسبة كبيرة من الناس، والفشل في الرسالة الاتصالية والإعلامية اليوم، في عالم "السوشيال ميديا"، والتحولات المذهلة في انتشار الإعلام الرقمي، تعني إخفاقاً كبيراً، حتى لو كان هنالك نجاح مهم على أرض الواقع.
في السياق الأردني، يذكّرنا المؤلف (عبر مقالاته التي جاءت مترابطة تاريخياً مع الأحداث التي يكتب عنها) بأحداثٍ عديدة، عندما دخل الفيروس إلى الأردن في شهر مارس/آذار 2020، ولما أعلن وزير الصحة حينها الأردن خالياً من الفيروس، بعد شفاء تلك الحالة. ولاحظ كثيرون كيف أنّ المؤلف كان ممن سارع إلى التحذير، في ذلك الوقت، من تلك الخلاصة الخاطئة. ثم قصة عرس إربد، الذي دخل في التأريخ العالمي لتطور الفيروس. والأكثر أهمية من كل ما سبق الوقوع في "فخ" التسرّع والحديث عن "المعجزة الأردنية" في التعامل مع الفيروس، والمبالغة في تقدير النتائج الأولية، إلى أن سجّل الأردن، في مراحل لاحقة، نتائج مرعبة، بوصفه الأعلى إصابة عالمياً، للإصابات الجديدة بالنسبة إلى عدد السكان.
ثمّة ضرورة هنا للإشارة إلى أنّ الكتاب بمثابة رحلة ممتعة غنية بالمعلومات والتفاصيل عن التجارب والمدارس العالمية في التعامل مع كورونا؛ بداية من الدكتور لي ويتلبانغ، وهو من أطلق صافرة الإنذار المبكّر لخطورة الفيروس الجديد في الصين، وانتقم منه الفيروس لاحقاً لمّا قتله. وقصة المرأة الستينية الصينية فانغ فانغ التي كانت من أوائل من نشروا عن الفيروس الجديد في الصين، وخرقت التكتم الإعلامي هناك، على موقع "ويبو"، ثم إطلالات مكثّفة على التجارب العالمية؛ الصينية، الهندية، السويدية، الأميركية، ومقارنة الدروس المستفادة من كل تجربة.
من ألطف الإشارات في الكتاب تسليط الضوء على نظرية المؤامرة التي سادت لدى شريحة واسعة من الناس، ليس فقط في الأردن، بل حتى على مستوى العالم، فكان هنالك سياسيون ومسؤولون حاولوا توظيف الموضوع سياسياً، ونسبة كبيرة اعتبروه مؤامرةً كونية. ويناقش المؤلف قصة التهمة التي ألصقت ببيل غيتس (انتشرت على نطاق واسع عالمياً وعربياً ومحلياً)، عندما اتهم بأنّه كان من المخطّطين لما وقع، وأنّه يسعى إلى "زرع رقائق إلكترونية" (المراقبة من تحت الجلد)، وأنّه يتبنّى نظريات الإبادة العالمية وغيرها من قصص.
يقدّم الكتاب إشاراتٍ مهمة على صعيد الأبعاد والنتائج المتعلقة بالفيروس، فيتحدّث المؤلف في مقال عن السياسات الدولية المتعلقة بالوباء، ثم الأبعاد النفسية (الأزمات النفسية التي تصيب نسبة كبيرة من الناس)، والآثار الصحية المختلفة.
من الجوانب والأبعاد اللافتة في الكتاب ما يتعلق بتأثير كورونا على الديمقراطية، وتصنيف المؤلف الدول (الديمقراطية والشمولية) في تعاملها مع الوباء، وكيف أنّ هنالك آثاراً كبيرة خلفها على الحريات العامة، وعلى سياسات الدول. والمفارقة أنّ الدول الشمولية الاستبدادية أظهرت قدرة أكثر في التعامل مع الوباء. ثم يشير الكاتب إلى تقرير مهم لمجلة الإيكونومست البريطانية عن التدهور الذي حدث في دولٍ عديدة على صعيد الديمقراطية والحريات، جرّاء التعسّف في استخدام الأنظمة للجائحة لتحقيق مآرب سياسية خارج نطاق الوباء نفسه!
من القضايا التي يطرحها الكتاب، أيضاً، مسألة الخيارات الأخلاقية والإشكالات المثارة في التعامل مع الوباء "فعندما تجد نفسك مضطراً لاتخاذ قرار مصيري يتعلق بحياة إنسان وتحديد من يعالج ومن يترك لمصيره؛ لن يكون وقع الأمر سهلاً على النفس السوية. وعادة ما تستخدم الكوادر الطبية ما يعرف بعدالة التوزيع عند مواجهة هذه الحالات، بحيث توجّه الموارد الشحيحة إلى الأشخاص الأكثر احتمالية للاستفادة منها والنجاة من المرض؛ وهذا أمر منطقي، لكنه لا ينفي الصراع الداخلي لدى من وجد نفسه مضطراً لاتخاذ مثل هذا القرار".
صحيحٌ أنّ الكتاب هو مجمل مقالات الكاتب على مرّ الشهور السابقة، منذ بدايات الجائحة، لكنّه في بنيته وتسلسله وترتيب فصوله، لن يدعك تشعر بأنّك أمام مقالات، بل أمام مقاربةٍ متكاملةٍ تأخذ الأبعاد المختلفة للجائحة. وهو، فوق هذا وذاك، توثيق مهم ودقيق وأدبي لظواهر وتفصيلات عديدة مرت عليها السطور أعلاه، كي لا يطويها النسيان، ونفقد الدروس المهمة المستفادة منها.