صلاح حزيِّن في ذكراه العاشرة: مضى دون زيارة بلدته التي يعشق

لم يُظهر صلاح أيّ شعور بالحسد.. بالغبطة أو الغيرة، وبدا لي وكأنه يقاوم إعلان دهشته، فيما كنتُ مستغرقاً في رواية وقائع زيارتي إلى "عين كارم"، بلدته التي شهدت ولادته، ولم يمضِ فيها سوى السنة الأولى من عمره. وكنتُ قد تطوّعتُ، من تلقاء نفسي، للحديث عن رحلة التسلل إلى عين كارم مع صديقي "يوسف أبو سمرة"، ابن القرية المقدسيّة نفسها، وزوجته الفرنسيّة "كلود"، التي حملتنا إلى هناك بسيارتها الدبلوماسيّة.

لم يستفسر صلاح عن شيء. لم يطرح سؤالاً وأنا أحدِّثه عن خرابٍ لم يُبدِّد أصالةً المكان وسحره غير القابل للفناء.. عن الكنيسة التي تصعد الجبل وتستقر في القمّة التي هناك.. عن اليافطات المرفوعة بالعبريّة لفنانين تشكيليين إسرائيليين يسكنون المنازل القديمة التي لم تتنازل عن خصوصيّة عمرانها العربي، مؤكدين تشبثهم ببيوت ليست لهم، ورفضهم أن يبرحوها.

لم أفهم سرّ الصّمت الذي قابل به صلاح حديثي، وربما الرّفض غير المُعلن وشديد التهذيب للاستطراد الذي رغبت به، عن تجربة "تسلُّل" إلى المكان الفلسطينيّ، ما زلت أعتز بها.. تجربة أسعدتني وآلمتني وأعادتني مثخناً بالجراح.

أقول، لم أفهم سرّ ردّة الفعل تلك، إلاّ بعد أن قرأت النصّ السّاحر الذي كتبه صلاح حزيِّن تحت عنوان "البلدة التي لم أزرها" (مجلّة "الكرمل" العدد 55 ـ 56 ربيع وصيف 1998).

في ذلك النصّ المؤثِّر، اعترف صلاح أنه طالما تجنّب زيارة عين كارم، رغم موقعها القريب، على مرمى العين، وحضورها الطاغي في ركن حميم من القلب. قال إنه يشعر أن افتراق صورة البلدة في الذهن عن واقعها الراهن، يمنحه الفرصة لأن تكون البلدة المتخيّلة، له وحده، فإذا ما زارها ذات يوم، فسوف يفقدها إلى الأبد!

الذين تابعوا استطلاعات صلاح حزيِّن الكثيرة في مجلّة "العربي"، كانوا يلحظون مدى اهتمامه في رصد تفاصيل المكان والبحث عن جوهره وكلمات السِّر فيه. لكن الكتابة عن عين كارم، التي لم يزرها صلاح، لم تقف عند ذلك، وإنما استنطقت روح المكان، خاضت تفاصيله، وأعادت تشكيل ملامح بشره وحيواتهم فيه قبل أن تمسّهم كارثة "النكبة" وتراجيديا الرحيل. فكأنما الطفل، ابن العام، الخارج من بلدته مع جموع النازحين سنة 1948، ظلّ متشبثاً فيها، وعاش عمره يعيد بناءها، ليروي حكاياتٍ وقودها الناس والحجارة، فتتفجّر كلّها في نصٍّ يليق به العنوان العريض الذي وضعه محمود درويش لأجمل زوايا "الكرمل": "ذاكرة المكان.. مكان الذاكرة"، حيث يدخل الكاتب هنا تجربة كتابيّة متفرِّدة، وهي استعادة مكانٍ لم يعرفه، وأشخاص لم يلتق بهم، وأحداث لم يعايشها. يدخلها بذاكرة تفصيليّة متيقظة وحارّة، لتكتب واحداً من أجمل نصوص القلب.

***

عندما صدرت ترجمة رواية "هوراس ماكوي" الجميلة والقاسية "إنهم يقتلون الجياد أليس كذلك؟!" (وكان قد سبقها إلينا فيلم "سيدني بولاك" البديع الذي لم يتخلّ عن عنوان الرواية)، جاءت الترجمة موقّعة باسم "نوح حَزين"، وهو الاسم ذاته الذي حملته ترجمة رواية "جوزيف كونراد" الموسومة "قلب الظلام" (صدرتا في بيروت عن دار ابن رشد أواخر سبعينيات القرن العشرين).

كان عليّ أن ألتقي مترجم الروايتين أثناء إحدى المناسبات الثقافيّة الفلسطينيّة التي أقيمت في الكويت.

دون مقدِّمات، طرق باب بيت أخي في السالميّة وفال: "جئت أتعرّف عليك". ومنذ ذلك الحين، أصبح صلاح واحداً من أهم الأصدقاء الذين يحرضني وجودهم هناك على زيارة مدينة الدّبق والغبار، فيعملون على تبديد الضجر القاتل فيها.

انتبهت ذات مساء إلى أن صديقنا المشترك محمود الريماوي يناديه باسم "صلاح"، ولمّا استوضحت الأمر، قال إن "نوح" هو الاسم الذي أطلقته "الدّاية" (القابلة) عليه، وصلاح هو اسمه في العائلة. أمّا اسم العائلة فلم يكن "حَزِين" كما جاء على غلاف رواية ماكوي، وإنما "حزيِّن". وعلى أيّ حال، فإن صلاح، الذي استعاد هذا الاسم في سنوات ما بعد الكويت، لم يكن شخصيّة حزينةً أبداً. كان خفيف الظلّ وصاحب نكتة، لمّاحاً، ويطلق ضحكة عالية تسطع حولها الشموس. وفوق ذلك، فإنه لم يكن مترجماً متميِّزاً بلغته واختياراته فحسب، بل كان مثقفاً شاملاً، وقارئاً نهماً، وصحفياً لامعاً، وكاتباً واسع الثقافة.

لقد كتب صلاح في الثقافة والسياسة والاقتصاد. كان ناقداً أدبياً متميِّزاً، ودارساً تمنى أن يمنح المزيد من وقته وجهده المشتت لدراسة الأدب الإسرائيلي (صدر له كتاب في الموضوع بعد رحيله، حرّرته حزامة حبايب بالتعاون مع وليد أبو بكر)، وكتب النصّ الأدبي. كتب كثيراً دون انقطاع، ومن غير أن يغويه تراكم الكتب التي تحمل اسمه.

***

إلى جانب نصّه عن المكان الذي يسكن القلب، كتب صلاح حزيِّن (وهنا يمكن أن نستعيد الاسم عن غلاف كتاب ماكوي: حَزين) نصّاً آخر حمل عنوان "غسّان قلبي"، يمكن أن يشكِّل، مع نصّ المكان، ومع ما يحتمل العثور عليه في أوراق صلاح، ما يمكن أن نطلق عليها "نصوص القلب".

في هذا النصّ الذي يفيض أسى وحسرة، تتراجع روح الدعابة التي ميّزت كتابات صلاح، ليروي بقلبٍ ينفطر حزناً ولوعة، أحداث غيبوبة مُعلنه بات يعانيها ابنه "غسّان"، الصحفي الشّاب الذي بدا واعداً، لكنه غاب عن الوعي قبل سنوات من رحيل صلاح، على إثر حادث سير تعرّض له في غور الأردن، عندما كان برفقة المخرج السينمائي ميشيل خليفي، الذي نجا من الحادث بأعجوبة.

غير أن القدر لم يكتف بتلك الضربة القاسية التي أصابت صلاح في صميم الروح، ولكنه أعقبها بضربة أخرى في الجسد، عندما اكتشف السرطان هشاشة خفيّة كان يخفيها صلاح عن أحبائه، وانكساراً كبيراً في القلب الشجاع، فتمكّن المرض الخبيث من القولون، وأعقبها بضربة أخرى في الرئتين، ليرحل صلاح على إثرها تاركاً غسّان في سريره.. غائباً عن إدراك حقيقة أن والده قد رحل إلى أبديته، بعد أن كتب في نصّ غسّان: "في الخامس من شهر مايو (أيار) أدخلت أنا المستشفي، وفي السادس منه، أي بعد سبعة أشهر بالتمام [على حادث غسّان] شُخِّصت بأنني مصاب بسرطان القولون. ووجدت نفسي أسير انتظارين: انتظار يقظة غسان، وانتظار موتي".

مات صلاح..

فهل ننتظر مع "هدى"، جمل المحامل، زوجة الراحل وأمّ الغائب عن الوعيّ، معجزة اليقظة التي طال أمدها، ولطالما حلم بها صلاح؟!

أضف تعليقك