"شو اللي بدي إياه؟"

"شو اللي بدي إياه؟"
الرابط المختصر

 

بعد كل مقالة تناقش الإصلاح الديني وفصل الدين عن الدولة التي ينشرها لي موقع عمان نت مشكورا غير مأجور، يطرح علي أحد الأعزاء سؤاله المتكرر الذي لا أمل سماعه: "شو اللي بدك إياه؟" والواقع أن هذا السؤال يساعدني في كل مرة على بلورة ووضوح الرؤية لما أريده ويريده مثلي كثيرون وأراده من قبلنا كثر.

 

الشفافية، إنها المبتغى وترنيمة العصر التي يرددها كل شفاف ومعتم عاكس للضوء غير حاضن له ، ينشدونها في الاقتصاد والسياسة والرياضة والتوظيف والسياحة بل حتى في التنبؤات الجوية، في حين لاتنبس بها بنت شفة في مجال التعليم الديني وتدريس التاريخ، لماذا؟ ربما عدم وعي بأهميتها بل وأولويتها في هذين المجالين على ما سواهما، وربما تجاهل مطلق مرجعه خشية كبرى  مما قد يلحق بكل من يطرق مثل هذه الأبواب التي صدأت أقفالها وتعفن ما خلفها من بضاعة كسدت جانب كبير منها عند المتقدمين وراج عند المتأخرين.

 

هل مناهج التربية الإسلامية ومادة التاريخ عندنا كانت وما زالت تتسم بالشفافية؟ هذا السؤال لا يمكننا من زاوية قانون العقوبات أن نجيب عليه إلا بمجموعة من الأسئلة، ذلك أن الأجوبة المباشرة عليها قد تكون القاطرة التي تسحب صاحبها إلى حيث الاتهامات الغوغائية بازدراء الأديان وإهانة الشعور الديني... وغير ذلك من التهم المعلبة المنتجة منذ أكثر من 14 قرنا وصالحة أَزَلاً إلى ما لا نهاية حيث أنها محفوظة بمادة أبدية المفعول.

 

الواقع أن ثمة وقائع لا يستهان بها يتم إخفاؤها والتعامل معها بعدم شفافية، الأمر الذي  يشكل انتهاكاً للحق في المعرفة والوصول إلى المعلومات، هذا فضلاً عن التضليل والممارسة الممنهجة بغسل أدمغة الطلبة بتقديم قصص ورويات جاهزة أو بإخفاء ما لا يصلح منها للتجميل، وعلى الرغم من أهمية هذا الأمر، فإن الأهم هو مناقشة لماذا اختار ويختار راسموا السياسة التعليمية عدم الشفافية نهجاً للمناهج التعليمية المتعلقة بالتاريخ والتربية الإسلامية تحديدا؟ لن نتوسع في ضرب الأمثلة، وإنما سنكتفي بضرب مثال واحد بسيط ليس له أبعاد جهادية وإن كانت أبعاده الاجتماعية والقانونية أشد وطةً وأكبر قيلا، كما أن له مغزاً وتفرعات يمكن أن تسلط الضوء على مكامن الخوف التي تعتري من أخفوه عنا وما زالوا يفعلون.

 

إنها حادثة الإفك الثانية على السيدة مارية القبطية، تلك الحادثة التي لا يعرفها سوى ثلة اصطفت نفسها قيّمةً على ما يجب أن يقال وكيف يقال وما يجب أن يُخفى دون بيان أو تبرير، فقد روى مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده وغيرهما من علماء الحديث والمؤرخين حديثاً عن أنس يقول: "عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رجلاً كان يُتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: (اذهب فاضرب عنقه)، فأتاه علي رضي الله عنه، فإذا هو في ركيٌّ –أي بئر- يتبرّد فيها، فقال له علي: أخرج، فناوله يده فأخرجه، فإذا هو مجبوب ليس له ذكر، فكفّ عليٌّ عنه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله، إنه لمجبوب ماله ذكر).".

 

هذه الرواية تلخص قصة معروفةً مكتومة؛ عن  قيام السيدة عائشة بالتوافق مع زوجات الرسول، بتشكيكه في زوجته مارية القبطية بجعله يتشكك بنسب ولده ابراهيم له من خلال إقناعه بأن ليس ثمة شبه بينهما، وذلك وفقاً لروايات 3 أوردها ابن سعد في طبقاته وغيره من المؤرخين والمحدّثين، ثم أوعزنّ للرسول بأن ابنه الذي جاءه على كبر من السيدة مارية القبطية قد يكون للرجل الذي جاء معها من مصر - وهو خادم لها وفي رواية أخرى أنه ابن عمها- حيث أخبرنه بأن ذاك الرجل كان يتردد عليها كثيرا، فما كان من الرسول إلا أن أمر علي بقتله، حتى كان ما كان كما جاء في الرواية.

 

هذه القصة تثير تساؤلات عدة حول مدى صحتها حتى وإن رواها مسلم وأحمد، ولكن إذا صحت -كما يعتقد كثير من علماء الحديث- فكيف يمكن تفسير التغاضي عن ارتكاب السيدة عائشة وسائر من توافقن معها من زوجات الرسول لجرم القذف الذي حده الجلد؟ ثم كيف يتم الأمر ب"ضرب عنق" المشتبه به بمجرد الشك ودون تحقق أو تحقيق كما تختزل ذلك الرواية؟ وإذا كان هناك تحقق أو طلب لشهود كما يأمر القرآن بذلك، فلماذا ذكرت الروايات كل شيء ما عدا هذه التفصيلة المهمة في ترسيخ قواعد العدالة الجنائية وضمانات المحاكمة العادلة؟ هل يعقل أن يخرج علينا أحدهم ويقول "هذه حالة خاصة لا يشترط فيها تطبيق قواعد العدالة الجنائية"؟ أتمنى أن لا يحدث ذلك، وإلا لكنا بصدد مصيبة أكبر يبدو تفنيدها ضرباً من المحال.

 

لماذا لم تتسم مناهجنا بالشفافية فلم تقدم هذه القصة التي تماثل في سياقها ونتائجها حادثة الأفك التي لحقت بالسيدة عائشة؟ هل هناك أفضلية لزوجة على الأخرى من وجهة نظر واضعي المناهج؟ أم أن تدريس الأفك على السيدة مارية القبطية سوف يثير التسؤلات التي أشرنا إليها آنفاً وتبدو إجابتها غير يسيرة تماما؟ أم ترا أن ذكر هذه الرواية للطلبة يتطلب تكذيبها ومن ثم تكذيب صحيح مسلم وهو أمر يتعارض وقاعدة "أصح كتابين بعد كتاب الله: البخاري ومسلم".

 

ربّ قائلٍ يقول: "وما أهمية هذه القصة وما عساه أن تكون فائدة تدريسها في عصرنا هذا؟"، سوف أكون أسعد الناس بهذا السؤال الذي ينطبق على سائر القصص والروايات التي يتم تلقيمها وتلقينها  للطلبة منذ نعومة أظفارهم إلى أن تتحول تلك الأظفار مخالب تنهش في الوطن وبني الجلدة كما يحدث اليوم، نعم، ليس لها أهمية كما ليس لغيرها، فلماذا يتم تدريس هذا كله؟.

 

ليت الأمر بهذه البساطة، لكن ما يعرفه كهنة الإخفاء والكتمان ولا يعرفه المريدون، أن هذه القصة وغيرها تُبنى عليها الأحكام الفقهية التي تبلور الممارسات التي تشكل بدورها الواقع الذي يعيشه المجتمع بأسره.

 

"اللي بدي إياه": أولاً أن يتمهل من ستغضبهم هذه القصة التي هي مجرد مثال على عدم الشفافية في تدريس المناهج الدينية، فقبل أن يتهمونني بأي تهمة، عليهم أن يتذكروا أنني لم أعش تلك الأحداث وإنما أنقلها كما هي من كتب علماء المسلمين، فهم أولى مني بالاتهام إن كانوا فاعلين، و"ناقل الكفر ليس بكافر" إن كان هذا كفرا، ثم "بدي" أن كانوا يرون عدم جدوى في استذكار مثل هذه القصص، أن يطبقوا هذا الاعتقاد على سائر الروايات والأحاديث التي لم تجلب لنا إلا الدمار الثقافي والاجتماعي والسياسي، وأن لا تتخذ هذه الروايات سنداً لبناء الأحكام والقواعد الفقهية، حيث أن عدم جدوى سندها –كما يرى البعض- يعني في المحصلة عدم جدواها، وأخيرا وليس آخرا، فليبقى كل شيء كما هو، لكن دون أن يتجاوز إطاره المكاني والزماني، وليدرس طلبتنا قيم الخير والأخلاق التي عرفها قدماء اليونان وأخذتها عنهم سائر الأديان.

 

* خبير دولي في التحليل القانوني وصياغة التشريعات وحقوق الإنسان.