سيرة دفتر ديّن من حي المصاروة

هذه القصة واقعية، رصدتها "عمان نت" في جولتها على عدد من البقالات، وما كان من الرصد الصحفي إلا للخروج بقصة عن أناس يتبادلون "الدّين" لكي يقاوموا الغلاء ويعايشوا الواقع..    من هنا بدأنا..
قائمة الأسماء في الدفتر طالت بفعل ازديادها؛ أبو علي ومحمود وأم جمال والحاج رياض وأم خضر وسالم وقيس والحاجة أم عطا؛ أسماء لا تنتهي..أما الطلبات: 5 كيلو رز، 2 كيلو سكر، 4 كيلو طحين، 8 ربطات خبز جرة غاز وحليب.. دفتر تجدد في أقل من ستة شهور وهي الفترة الزمنية القصيرة بالنسبة لصاحب بقالة يغير الدفتر مرة في سنة!

لويس ومحمد وأبو عيسى، يملكون ثلاثتهم "بقالات" مثيرة للاهتمام في أفقر حي بأهم منطقة في عمان..
 
المكان: حي المصاورة في جبل عمان، وهذا "الجبل" راكد على تلة كانت لعهد قريب أهم منطقة في عمان، لكنه الآن يعتبر منطقة قديمة ينحاز جغرافيا إلى شرق عمان الفقيرة.
 
سّجل على الدفتر
دفتر الاستدانة تغير بسرعة لدى محمد "فاستدانة الناس ازدادت، ومتوسطي الدخل زاحموا الفقراء في الاستدانة"، فغلاء الأسعار هبّط الطبقة المتوسطة وجعلها متساوية مع طبقة الفقراء، وفي حي المصاورة والذي كان لسنوات خلت مكانا للأجانب المقيمين العاملين وأردنيين فقراء أو سكان منذ ما يزيد عن خمسين عاما، أما الآن أصبح مزدحما ببشر من شتى الجنسيات..     
   
بقالاتهم تنتشر على أطراف حي المصاروة وهناك ما يزيد عن عشرين واحدة حسب تعداد البصر؛ ومسرح الشخصيات كان في بقالة لويس في شارع عمر بن الخطاب أما محمد وأبو عيسى في شارع خرفان، وهذان الشارعين يعدان من أكثر الشوارع ازدحاما بالسكان وكذلك الحال بالبقالات.. 
 
يتفق أبطال تقريرنا أن دفتر البقالة لا ينضب من الاستدانة، فالناس يستدينون المواد الاستهلاكية وآخر شهر يكون موعد سدادهم. وغالبيتهم يلتزموا بالسداد. 
 
خبرة الاستدانة!
ولولا "العيب" وفق أبو عيسى فإنه سيكتب على ورقة كرتونية أن لديه دفتر ديّن، "لاختصر عناء الناس وخجلهم في طلب الاستدانة من المحل"..لأن الأحوال المادية لدى كل واحد منهم متباينة "والبيوت أسرار" وصاحب البقالة لديه عين ثاقبة لمن يريد الاستدانة ويبادر تلقائيا إلى عرض فكرة الاستدانة على الزبون شرط أن يكون من سكان الحي..
 
"وقف ثلاثة رجال أمام البقالة قبل أسبوعين أدركت أنهم لا يحملون المال ومضطرين لشراء  مواد استهلاكية..خرجت مسرعا إليهم وقلت لهم ماذا تريدون فقال احدهم بخجل هل يمكننا الاستدانة فقلت له أين تسكنون فقال في الحي، قلت إن تلك البقالة تديّن سكان الحي حتى آخر الشهر تفضلوا داخل المحل"..هذه الحادثة أحزنت محمد وجعلته يدرك أكثر حجم الكارثة الاقتصادية التي بات يعاني منها أصحاب الدخول المتدنية والمعدمة في عمان.         
 
هم أناس عاديون لا يختلفون عن أحد، ولديهم قلب يحزن على أوضاع الفقراء ولا يجادلون زوارهم من المستهلكين، ويعلمون ان عدم مساعدتهم  الآخرين سيحولهم من بقالات جذب للناس إلى أماكن تفتقر إلى الإنسانية "لأن الناس للناس والفقير للفقير" وفق الأمثلة التي يرددوها دوماً.
 
لويس أو كما يحب أن يقال له أبو غسان لا يختلف عن غيره من زملاء البقالات التي تنتشر على طول حي المصاروة "والله وحياة المسيح ان البيض أبيعه بالديّن ولولا الديّن لأقفلت البقالة وجلست في البيت"..فالدّين وسيلته الوحيدة للاستمرار في بقالته الصغيرة الممتلئة بالبضائع الأساسية.. 
 
حكاية بيض
وللبيض حكاية يرويها ثلاثتهم، فهي كرتونة تكلف دينارين وأربعين قرشا، ومنذ شهور خلت أصبحوا يبيعونها بالحبة "فالحبة بثماني قروش" والكثير يأتي لشراء بيضتين أو ثلاثة وبعضهم على الديّن.."هكذا حال الناس"..
 
للغرابة، فجميعهم يثمنون الحكومة! وهذا "قد" يكون بفعل الابتعاد عن المواقف السياسية – وفق شاهد عيان كان يرقب اللقاء طوال الوقت- ولعدم الاقتراب من الباب الذي سيأتي منه الريح فلم يشأ كل من لويس ومحمد وأبو عيسى إدانة الحكومة على ما تقوم به من رفع للأسعار أو المرور عنها حتى.."فالحكومة لا دخل لها بغلاء الأسعار، لأنه مرتبط بالاقتصاد العالمي"..ربما تكون رهبة اللقاء الصحفي دفعتهم إلى عدم القول أكثر لأن الأعين لا تخبأ ما يقوله اللسان..هذا ما قاله شاهد العيان.    
 
أبو عيسى، يتمنى من الله أن يكون هناك دعم للفقير ويكون عبر دعم مباشر للبقالات التي تتواصل مباشرة معه "نحن صغار التجار"..وقصة دعم صغار التجار كانت حلمه الذي صغر أكثر وأكثر مع غياب وزارة التموين وتفتت المصالح وجشع كبار التجار ودخول الأسواق البديلة وهي ما تعرف الآن بالمولات تلك الثقافة الجديدة جعلته يوقن أكثر أن لا مكان لهم سوى بين جيران الحي "أليس الجار للجار"..وعملا بهذه المقولة فهم يدركون جيدا ماذا يعني حاجة الجيران..  
 
والحديث دفعه عن ما يقوم به تجار الجملة من أفعال من شأنها أن تدفعه إلى استغلال المستهلك المسكين فهم لم يتركوا مجالا لأصحاب البقالات من بيع المواد الاستهلاكية للناس وبسعر معقول لذلك "أضطر إلى رفع السعر لأن البضاعة تكلفنا الكثير ولا بد من هامش الربح"، وفي حي المصاورة الناس يشاهدون الغلاء بعيونهم ولا يشعرون به فحسب "فكم من الناس وقفوا أمام كرتونة كتب عليها سعر الكيلو من الرز كذا أو السكر أو الطحين ثم رحلوا ...أنا إنسان، أشعر معهم، وأبكي عليهم ولكن لا استطيع أن أقدم بضاعتي مجانا لهم لأني أريد أن أعيش أيضا"..
 
لما رفع الأسعار!
كم هي ملفتة مشاعر لويس الستيني في حديثه عن زبائنه وهو الذي لم يلم الحكومة على مسلسل الارتفاعات ولم يشغل بالا لما يناقشه نوابه في البرلمان بل يعتبر أن أقصى ما يمكن أن تقوم به قد حصل وهو "رفع الرواتب" لكن هذا ليس بكاف عند محمد فهي لا ترأف بحال الفقراء..أما بقالته فيعتبرها ملاذا لهؤلاء الناس.. ألا يستحق الفقير بقالة تأوي أحواله حتى آخر الشهر!
 
عجيب أمر الناس، لا يحبون الغلاء ويعززونه "فالمادة الاستهلاكية التي يرتفع سعرها يزداد الطلب عليها، وعند ازدياد الطلب يزداد السعر أكثر" والسؤال الذي لا يفارق لويس ومحمد وأبو عيسى "كيف لي أن أقول للناس لا تشتري الرز أو السكر أو الطحين عند ارتفاعه"..
 
في الماضي كانت أحوال الناس مستورة والجميع يعيش بالقلة لكن الآن قد يكون الدخل مرتفع عند البعض ولا يستطيع مقاومة الغلاء ولولا عناية الرب بالفقير لكان موته محتما على الطريق، تماما كورقة صفراء سقطت من علياء شجرة في فصل خريفي بارد..
 
وعن سيرة الشتاء والأجواء الباردة، فها هم يشعلون المواقد الكهربائية ويجلسون على مقاعدهم المتهاوية ينتظرون الناس ويجهزون الدفتر ويفتحون جرار المال على أمل أن يأتي جار ويدفع مباشرة إن كان لديه ما يكفيه وفي حال لا يوجد فا هو الدفتر في انتظار قلم الحبر لأجل الخط عليه الاسم والتاريخ والسلعة المستهدفة لتنضم إلى قائمة الأسماء التي تتسع يوما وراء يوم بفعل موجات الغلاء التي وسعت من قائمة الأسماء..

أضف تعليقك